الدرالمنضود فی احکام الحدود المجلد 2

اشارة

سرشناسه : گلپایگانی، محمدرضا، 1372 - 1277

عنوان و نام پديدآور : الدرالمنضود فی احکام الحدود/ محمدرضا الگلپایگانی؛ بقلم علی الکریمی الجهرمی

مشخصات نشر : قم: دار القرآن الکریم، 1412ق. = 1370.

مشخصات ظاهری : ج.نمونه

شابک : 2600ریال(ج.1)

يادداشت : جلد سوم (چاپ اول: 1417ق. = 1375)؛ 10000 ریال

یادداشت : کتابنامه: ج. 1. به صورت زیرنویس

موضوع : حدود (فقه)

شناسه افزوده : کریمی جهرمی، علی، . - 1320

رده بندی کنگره : BP195/6/گ 8د4 1370

رده بندی دیویی : 297/375

شماره کتابشناسی ملی : م 71-1147

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين و صلّى اللّه على سيّد الأوّلين و الآخرين محمّد و عترته الطاهرين، الذين هم أساس الدين و عماد اليقين و أبواب الوصول الى جوار ربّ العالمين و اللّعن على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين و بعد، فإنّ من أهم الوظائف التي جعلها اللّه سبحانه على عاتق كل فرد مسلم على العموم و على عواتق من منحه اللّه علم الدين السعي في ترويج الدين و إبلاغ الأحكام إلى الناس، فالعلماء مسئولون تجاه أحكام اللّه تعالى، و الدين أمانة اللّه العظيمة في أيديهم، و الناس رعايا تحت رعايتهم.

قال الإمام الحسين سيّد الشهداء عليه السلام في ضمن خطبة له: و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تعون ذلك، بأنّ مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه الأمناء على حلاله و حرامه. «1».

و لمّا كانت هذه المسؤولية الخطيرة مصيبة عظيمة، فأداؤها و مراعاتها

______________________________

(1) تحف العقول عن آل الرسول ص 169.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 4

و الحفاظ عليها يصعد بالعالم المهتم بذلك مقاما رفيعا و يوجب له أجرا جزيلا يعرّف ذلك بينه و بين

ملائكة اللّه المقربين و يدعى عظيما عند سكّان السماوات الروحانيّين.

فعن حفص بن غياث قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: من تعلّم العلم و عمل به و علّم للّه دعي في ملكوت السماوات عظيما، فقيل: تعلّم للّه و عمل للّه و علّم للّه «1».

و على أساس هذه الفكرة السامية فقد قام العلماء الأكارم بحفظ شئون الدين و إحياء أحكامه و نشر آثاره بكل طاقاتهم و غاية جهودهم في إشكال مختلفة و بمناسبة الظروف و الأحوال الشخصية و الاجتماعيّة فشكر اللّه مساعيهم الجميلة.

و أمّا اليوم فالمسئولية خطيرة و الخطب عظيم، و أنتم ترون الأجيال في أقطار العالم و شتّى نواحيه قد قضى على سعادتهم و وقعوا في ويلات و محاولات جهنميّة و تحرّر زائف و أظلّ عليهم غمام الشقاء و أصبحوا حيارى سكارى، و أمة هابطة لا يذوقون طعم الحياة و لا يجدون لذّة الأمن و الأمان، فذلك الضياع و الفساد و الانحطاط قليل من كثير من تبعات الانحراف عن الدين و الاستخفاف بأمور الشرائع و المناهج السماوية و اتخاذ غير الإسلام منهجا.

و مع ذلك فما بقي من الآفات و العاهات و الويلات من أثر هذه الانحرافات أكثر ممّا مضى و جرى عليهم، و غدهم أدهى و أمر من أمسهم- لا سمح اللّه بذلك- إلّا أن يهتدوا إلى ربّهم سبيلا و يتّخذوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله إماما و قائدا و يلجأوا إلى الدين، قال اللّه تعالى «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ» «2».

نعم إن تلك الظروف القاسية و الأجواء المظلمة الفاسدة تتطلّب توسعة

______________________________

(1) الكافي ج 1

ص 35 ح 6.

(2) سورة الأعراف الآية 96.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 5

الجهود و بذل المجهود بأشكاله ليلا و نهارا سرّا و إعلانا، بحيث يناسب مقاومة تلك الدعايات الباطلة و النعرات الكافرة التي ملأت العالم.

فعلى العلماء الأعلام أن يجدّوا بنشاط في تبيين معارف الإسلام و مناهجه القويمة و كشف الغطاء عن أحكام الدين، و أن لا يعرضهم فتور في ترويج الشريعة و إنقاذ الأمّة، و تعليم الناس الحلال و الحرام و شعائر الإسلام، كما أن على الأمراء و ذوي المقدرة أن يجتهدوا و يسارعوا إلى تنفيذ هذه الأحكام و المقرّرات.

و على الشعب المسلم أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يتعبّدوا بتلك «الأحكام- و خاصّة عند تنفذها- بقلب ملؤه الرضا و اليقين و يكسبوا بذلك المجد و السّيادة و الثناء الجميل في هذه الدنيا، و الأجر و الثواب و رحمة اللّه الواسعة في دار النعيم.

و لعمري ان من يحسّ و يعي الأخطار الموحشة المتوجّهة إلى الإسلام و أجيال المسلمين الآتية سوف يندفع دون توان إلى الذّبّ عن الإسلام و نصرة الدّين و الأمة و توجيههما إلى اللّه سبحانه.

و إنّي أرجو اللّه تعالى الذي لا يخيب من رجاه أن يجعل عملنا القليل و تأليف كتابنا حول حدود الإسلام خطوة متواضعة إلى تحقيق هذه المهمّة.

و قد خرج الجزء الأوّل منه الى النور قبل بسنتين تقريبا و صار في متناول العلماء الأعلام و الفقهاء العظام و أحرز بمنّ اللّه و لطفه العميم مكانه لديهم و تلقّاه الأفاضل بالقبول و طلب كثير من المشتغلين إخراج ما بقي من تلك المباحث إلى الطباعة و حثّني عدّة من العلماء الأعلام و الأفاضل الكرام لطبع باقي

مجلّدات هذا الكتاب، فقررت إجابة طلبهم السامي و هيأت مما كتبته في الحدود و التعزيرات هذه المجموعة، التي هي أيضا نتيجة ما تلقّيته في محفل علمي عظيم و معهد فقهي ثقافي كبير- كان يقام صبيحة كل يوم في مسجد الزعيم العالمي الراحل السيّد البروجرديّ قدّس الله إسراره، و كنا نتلقى دروسها من رجل كبير عبقريّ، و هو

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 6

بقيّة السلف و أستاذنا الأكبر المرجع الأعلى و آية اللّه العظمى السيّد الگلپايگاني دام ظلّه العالي.

و قد كان دام ظلّه قبل أن يغلب عليه الضعف- الى جانب المرجعية الكبرى العامّة التي أتاحها اللّه له و أنعم اللّه بها عليه منذ سنوات عديدة- مهتما بأمر التدريس و تربية العلماء و المجتهدين و لم يزل دؤوبا على ذلك متأهبا صباح كلّ يوم للذهاب إلى مجلس درسه العظيم الحافل بالإعلام و الأفاضل و كان يرقى منبر التدريس و يلقي دروسه العالية بشوق وافر و نشاط بالغ، و لم يعرض له فتور في ذلك حتّى بلغ كتاب الحدود قريبا من نهايته. أدام اللّه أيّامه و من اللّه على المسلمين بطول بقائه.

فهذه الدراسة التي نقدمها إليكم أيها القرّاء الكرام و العلماء الأجلّاء كانت من إفاضاته، و هي تحتوي على المواضيع التالية: حدّ اللواط و حدّ السحق و حدّ القيادة و حدّ القذف و حدّ شرب الخمر.

نسأل اللّه تعالى أن يجعله بمنّه و أياديه خطوة إلى التعرّف الى قوانين الإسلام الراقية، و أحكامه السياسية و الاجتماعية التي هي من أقوى العوامل لحفظ المجتمعات و تأسيس مجتمع قائم على العفّة و السعادة و المجد و الكرامة، فإنّ تلك الأهداف الراقية و الجوّ المطمئنّ لا يتحقّق إلّا في

ظلال الدين و التمسك بحدود الإسلام و أحكامه و سياساته.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.

قم- الحوزة العلمية علي الكريمي الجهرمي 13 ربيع الثاني 1414

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 7

في حدّ اللّواط

اشارة

قال المحقق قدس سره: الباب الثاني في اللواط و السحق و القيادة، أمّا اللواط فهو وطي الذكران بإيقاب و غيره.

أقول: اللواط في اللغة: قال في مجمع البحرين: لاط الرجل و لاوط إذا عمل عمل قوم لوط، و منه اللواط أعني وطي الدبر، و في الحديث: اللّواط ما دون الدبر و الدبر هو الكفر، و فيه أيضا: إن أصل اللوط اللّصوق، و هذا شي ء لا يلتاط بقلبي أي لا يلصق به. انتهى.

و قد عرّفه المحقق كما رأيت بوطء الذكران سواء كان بالإيقاب أي الإدخال، أو غيره.

و الظاهر أنّ مقصوده اللواط الذي هو موضوع البحث في الفقه.

في حرمة اللواط

ثم إنه لا شك في حرمة اللّواط بل إنّ حرمته من ضروريّات الدين و دلّ عليها الكتاب المبين [1] و سنة سيّد المرسلين و أهل بيته الطاهرين صلوات اللّه

______________________________

[1] فمن جملة تلك الآيات الكريمة قوله تعالى وَ لُوطاً إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعٰالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجٰالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسٰاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ. فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كٰانَتْ مِنَ الْغٰابِرِينَ وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ. الأعراف- 80.

و منها قوله سبحانه وَ لُوطاً إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ: أَ تَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجٰالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسٰاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فَمٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ إِلّٰا أَنْ قٰالُوا أَخْرِجُوا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 8

عليهم أجمعين. و قد خرّج في الوسائل ثلاث عشرة رواية تحت عنوان تحريم اللواط على على الفاعل و إحدى عشرة رواية في تحريم اللواط على المفعول و نحن نقتصر على ذكر بعضها:

فمنها رواية الحضرمي عن أبي عبد

اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من جامع غلاما جاء يوم القيامة جنبا لا ينقيه ماء الدنيا و غضب اللّه عليه و لعنه و أعدّ له جهنم و ساءت مصيرا- ثم قال- إنّ الذكر يركب الذكر فيهتز العرش لذلك «1» و انّ الرجل ليؤتى في حقبه فيحبسه اللّه على جسر جهنّم حتّى يفرغ اللّه من حساب الخلائق ثم يؤمر به إلى جهنّم فيعذب بطبقاتها طبقة حتّى يرد إلى أسفلها و لا يخرج منها «2».

و عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: حرمة الدبر أعظم من حرمة الفرج و إنّ اللّه أهلك أمّة لحرمة الدبر و لم يهلك أحدا لحرمة الفرج «3». و المقصود من الأمة التي أهلكهم اللّه في الدبر قوم لوط عليه السلام.

و عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام في قوم لوط: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعٰالَمِينَ) فقال: إنّ إبليس أتاهم في صورة حسنة فيها تأنيث و عليه ثياب حسنة فجاء الى شباب منهم فأمرهم أن يقعوا به، و لو طالب إليهم أن يقع بهم لأبوا عليه و لكن طلب إليهم أن يقعوا به فلمّا وقعوا به

______________________________

آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ إِلّٰا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنٰاهٰا مِنَ الْغٰابِرِينَ وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسٰاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ. النمل- 54.

و منها قوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ. فَمَنِ ابْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ. سورة المؤمنون- 7، المعارج- 31.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 17 من أبواب النكاح المحرّم ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 14 ب 18 من أبواب النكاح المحرّم ح 1.

(3)

وسائل الشيعة ج 14 ب 17 من أبواب النكاح المحرّم ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 9

التذّوه ثم ذهب عنهم و تركهم فأحال بعضهم على بعض «1» الى غير ذلك من الروايات.

كلام حول قيود التعريف

ثم إنّه قد خرج بقيد الذكران الوطئ في دبر غير الإنسان كالحيوانات كما أنه قد خرج بذلك الوطئ في دبر المرأة من الإنسان.

ثم إنه بعد أن الإيقاب المذكور في تعريف اللواط كان بمعنى الإدخال فهل المعتبر إدخال تمام الحشفة أو أنه يكفي في جريان الحكم إدخال بعضها؟ بعد أنه لا إشكال في عدم اعتبار أزيد من ذلك.

فنقول: اقتصر المحقق على ذكر الإيقاب بلا تعرّض للمتعلّق و لكن العلّامة أعلى اللّه مقامه ذكر المتعلّق قائلًا في القواعد عند تعريف اللواط: و هو وطي الذكر من الآدمي، فإن كان بإيقاب و حدّه غيبوبة الحشفة في الدبر وجب القتل على الفاعل و المفعول إلخ.

و في المسالك تعرّض لما هو مورد البحث فقال بشرح عبارة المحقّق المذكورة:

أراد بالإيقاب إدخال الذكر و لو ببعض الحشفة لأن الإيقاب لغة الإدخال فيتحقّق الحكم و إن لم يجب الغسل.

ثم ردّ على العلّامة بقوله: و اعتبر في القواعد في الإيقاب غيبوبة الحشفة، و مطلق الإيقاب لا يدلّ عليه. انتهى.

و قال السيّد في الرياض: إدخال الذكر في دبره و لو بمقدار الحشفة و في الروضة انّ ظاهرهم الاتّفاق على ذلك و إن اكتفوا ببعضها في تحريم أمّه و أخته و بنته انتهى.

و في كشف اللثام بشرح عبارة القواعد المذكورة آنفا: لعلّة احتاط بذلك و إلا

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 17 من أبواب النكاح المحرّم ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 10

فالنصوص و الفتاوى مطلقة يشتمل

ما دونه، و يمكن تعميم الحشفة للكل و البعض.

فاختلفت كلماتهم في خصوص غيبة بعض الحشفة في هذا المقام فظاهر كلام المحقّق هو الإكتفاء بالبعض في الحكم بالحدّ كما أنه الظاهر جدا من عبارة المسالك في حين أن مقتضى كلام العلامة و الروضة و الرياض هو اعتبار غيبوبة الحشفة كلّها و ان أمكن أن يقال: إن مراد العلّامة بغيبوبة الحشفة غيبوبتها و لو ببعضها لكن ذلك خلاف الظاهر.

و كيف كان فلو قلنا بكون إدخال الحشفة أعمّ كما لعله ظاهر لفظ الإيقاب و لا خلاف على الظاهر في كفاية الأعمّ فهو، كما أنه لو ثبت الاتّفاق الذي ادّعاه الشهيد الثاني و قيل باعتبار التمام فلا كلام.

أما لو شك في اعتبار ذلك و عدمه فالمرجع هو قاعدة درء الحدود بالشبهات.

هذا بالنسبة للايقاب و أمّا: غيره المذكور في التعريف في كلام المحقّق فالمراد منه هو التفخيذ أو الإدخال بين الأليتين حيث إنّه يطلق عليهما اللواط مجازا.

و في الجواهر بعد ذكر اختلاف كلماتهم في ذلك: و على كلّ حال فالظاهر أن إطلاق اللواط على غيره من التفخيذ أو الفعل بين الأليتين من المجاز، و إدراج المصنف له في تعريفه تبعا للنصوص الّتي منها ما سمعته بل ربما كان الظاهر من بعضها كونه المراد من الوطي. انتهى.

الكلام في طريق ثبوته

قال المحقق: و كلاهما لا يثبتان إلا بالإقرار أربع مرّات أو شهادة أربعة رجال بالمعاينة.

أقول: يعنى إنّه لا يثبت الإيقاب و غيره أي التفخيذ مثلا إلا بأن يقرّ الإنسان بنفسه أربع مرات بهذا العمل أو أن يشهد على ذلك أربعة شهود فلا يثبت بأقل من ذلك و لا بغيره.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 11

و في الجواهر بالنسبة إلى الإقرار: الذي قطع

به الأصحاب.

أقول: و دلّت على ذلك الروايات الشريفة كصحيح مالك بن عطيّة أو حسنة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: بينما أمير المؤمنين عليه السلام في ملأ من أصحابه إذ أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني أوقبت على غلام فطهّرني، فقال له: يا هذا امض إلى منزلك لعلّ مرارا هاج بك فلمّا كان من غد عاد اليه فقال له:

يا أمير المؤمنين إني أوقبت على غلام فطهّرني فقال له: اذهب إلى منزلك لعلّ مرارا هاج بك حتّى فعل ذلك ثلاثا بعد مرّته الأولى فلمّا كان في الرابعة قال: يا هذا إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيّهنّ شئت قال: و ما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف في عنقك بالغة ما بلغت أو إهداب- إهداء- من جبل مشدود اليدين و الرجلين، أو إحراق بالنار.

قال: يا أمير المؤمنين أيهن أشدّ علي؟ قال: الإحراق بالنار قال: فإنّي قد اخترتها يا أمير المؤمنين فقال: خذ لذلك أهبتك فقال: نعم، قال: فصلّى ركعتين ثم جلس في تشهّده فقال: اللهم إنّي قد أتيت من الذنب ما قد علمته و إني تخوّفت من ذلك فأتيت إلى وصّي رسولك و ابن عمّ نبيّك فسألته ان يطهرني فخيّرني ثلاثة أصناف من العذاب اللّهم فإني اخترت أشدّهن اللّهمّ فإنّي أسألك أن تجعل ذلك كفارة لذنوبي و أن لا تحرقني بنارك في آخرتي ثم قام و هو باك حتّى دخل الحفيرة التي حفرها له أمير المؤمنين عليه السلام و هو يرى النار تتأجّج حوله، قال: فبكى أمير المؤمنين عليه السلام و بكى أصحابه جميعا فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قم يا هذا فقد أبكيت

ملائكة السماء و ملائكة الأرض فإنّ اللّه قد تاب عليك فقم و لا تعاودنّ شيئا ممّا فعلت [1].

قوله عليه السلام: لعلّ مرارا هاج بك أي لعلّه غلب عليك الصفراء، فلذا تهجر و تهذو.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ص 423 ب 5 من أبواب حد اللواط ح 1 و موردها و إن كان هو الإيقاب إلّا أن الظاهر عدم الفرق بينه و بين التفخيذ في ذلك و لم ينقل خلاف فيه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 12

و قد اختلف في كونها صحيحة أو حسنة و ذلك لأجل علي بن إبراهيم عن أبيه و لكنّ الأقوى أنها صحيحة كما و أنّها تدلّ على اعتبار أربع مرات في الإقرار و على أن التوبة تقبل في درء الحدّ إذا كان قد ثبت بالإقرار، في حين أنه لا تقبل إذا ثبت بالشهادة.

ثم إنّه كما يثبت ذلك بالإقرار أربع مرات كذلك يثبت بشهادة أربعة رجال بالمعاينة و لا خلاف في ذلك كما في الزنا.

شرائط المقرّ

قال المحقق: و يشترط في المقرّ البلوغ و كمال العقل و الحرية و الاختيار فاعلا كان أو مفعولا.

أقول: أما الصبي و المجنون و المكره فلا تكليف عليهم فلا أثر يترتّب على إقرارهم.

و أما اشتراط الحرية فلأنّ إقرار العبد على نفسه يكون بضرر المولى و الإقرار في حق الغير غير مسموع.

تعزير من أقرّ دون أربع

قال المحقق: و لو أقرّ دون أربع لم يحدّ و عزّر.

أقول: قد تقدّم أن الإقرار أربع مرات موجب للحدّ و عليه فلو أقرّ دون ذلك فهو لا يوجب الحدّ و إنّما يوجب تعزير المقرّ و ذلك لإقراره بالفسق فيشمله إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، و ثبوت الفسق ليس كثبوت اللواط في الافتقار إلى الأربع فلا يشترط فيه ذلك، و لا تلازم بين عدم ثبوت الحدّ و عدم ثبوت التعزير، و على الجملة فحيث إنّه أقرّ بمعصية كبيرة فلذا يثبت عليه التعزير.

و الإنصاف أنّه يشكل تصوير ذلك لأن التعزير إذا كان لأجل الإقرار

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 13

بالمعصية الكبيرة فليس هي إلّا اللّواط و لم يثبت ذلك فلو كان يثبت ذلك لوجب الحدّ و إلّا فلا تعزير أيضا.

و يمكن أن يقال: إنّ الأمر هنا يتصوّر على وجهين:

أحدهما أن ثبوت المعصية محتاج إلى الأربع فبدونه لا يثبت، و لا حدّ هناك.

ثانيهما أن يقال بثبوته بذلك إلّا أنه لا يقام الحدّ بدون الأربع فإن كان إثبات المعصية منوطا بالأربع فبدونه لا يثبت فلا وجه للحدّ لعدم ثبوت الفسق.

و أمّا إنّه يثبت إلّا أن الحدّ كان منوطا بالأربع فهو بعيد جدا لأن الحدّ متعلق باللّواط و الزنا على ما هو لسان الأدلّة كقوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ) «1».

هذا مضافا

الى منافاة هذا لما يظهر من صحيح مالك بن عطية المذكورة آنفا حيث إنّ الامام عليه السلام لم يعزّره في المرّة الأولى مثلا و هل أنه لو كان المقرّ لا يرجع بعد إقراره الأوّل كان الإمام يستحضره و يعزّره؟ بل الظاهر أنه كان يخلّي سبيله و يتركه و ترى أنه عليه السلام أمر بالذهاب إلى منزله.

و على الجملة فظاهر هذه الرواية خصوصا بقرينة قوله: اذهب الى منزلك و قوله: لعل مرارا هاج بك، هو تخصيص إقرار العقلاء على أنفسهم جائز و عدم قبول الإقرار مرة واحدة و إنّه لا يؤثّر شيئا فكما أنّه لا يوجب الحدّ كذلك لا يوجب التعزير و إلا لكان يلزم التعزير على كل إقرار من أقاريره و إن كان يلزم الحدّ بتمام الأربع و قد استشكل السيد صاحب الرياض قدس سرّه في الحكم بالتعزير بذلك فراجع.

و الحاصل ان المستفاد من الاخبار هو استثناء الزنا و اللواط عن سائر المعاصي في أنه يكتفي فيها بشاهدين أو إقرارين فلا يكتفى فيهما بذلك بل لا بد من أربعة شهود أو أربعة أقارير فقد جعل الشارع الطريق إلى إثباتهما ذلك، و دون ذلك ليس بحجّة و لا أثر له حتّى التعزير كما أنه جعل علم الحاكم طريقا إليه

______________________________

(1) سورة النّور الآية 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 14

فإذا علم مع قطع النظر عن البيّنة فهناك يعمل بعلمه و إذا لم يكن كذلك و أريد الإثبات من طريق الشهود فلا بد من الأربعة حتّى و لو حصل العلم من الشهادة قبل تمام الأربعة كما أنه كان يحصل العلم غالبا بشهادة بعض الشهود و بأقلّ من الأربعة و مع ذلك كانوا يحكمون بالأربعة لا

بدونها. فتحصّل أن التعزير بالإقرار مرة واحدة محلّ الإشكال.

تعزير الشهود إذا كانوا دون أربع

قال المحقّق: و لو شهد بذلك دون الأربعة لم يثبت و كان عليهم الحدّ للفرية.

أقول: بعد أن تحقّق أنه في الشهادة في المقام لا بد من شهادة أربعة شهود فهنا نقول: إذا شهد أقلّ من ذلك فإن شهادتهم لا تؤثّر في إثبات الزنا و إقامة الحدّ على المشهود عليه إلّا أنّها حيث كانت قذفا و فرية فإنّها توجب حدّ القذف على من شهد بذلك و إن انضمّت إلى ما دون الأربعة النساء و ذلك لأنه لا أثر لشهادتهن في باب الحدود منفردات أو منضمّات لدلالة الأخبار على ذلك.

نعم قد تقبل شهادتهن في الزنا على بعض الوجوه [1] و لكن القبول هناك لا يستلزم القبول في المقام لورود الدليل هناك و عدم وروده في المقام و إن قال به الصدوقان و ابن زهرة لكن لا دليل يعتمد عليه و يتمسك به في المورد و القياس باطل عندنا معاشر الإماميّة و الأصل عدم الثبوت في غير ما دلّ عليه الدليل مع أن الحدود تدرء بالشبهات، و خلاف هؤلاء غير قادح فإنّ المتّبع هو الدليل.

قال المحقّق: و يحكم الحاكم فيه بعلمه إماما كان أو غيره على الأصحّ.

أقول: قد تقدّم البحث في ذلك في كتاب القضاء.

______________________________

[1] فإنه يثبت الزنا بثلاثة رجال و امرأتين و برجلين و أربع نساء في مورد الجلد فقط راجع الجواهر ج 41 كتاب الشهادات ص 155.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 15

و أمّا: ما ذهب إليه الحلبيّ قدّس سرّه من حجيّة الشهرة في المقام قائلًا: (و إذا تزيّا الذكر بزيّ المرأة و اشتهر بالتمكين من نفسه و هو المخنث في عرف العادة قتل صبرا

و إن فقد البيّنة و الإقرار بإيقاع الفعل به لنيابة الشهرة منابهما «1» فلم يقم عليه دليل و الأصل عدم وجوب الحدّ ما لم يبلغ حدّ العلم للحاكم أو الشهود و إن كانت الشهرة حجة عند العرف فإن المثبت هنا غير المثبت العرفي و ذلك لحكمة عدم وقوع الحدّ كثيرا فهنا لا يكتفي بعدم الردع بل يحتاج إلى الإمضاء.

الإيقاب يوجب القتل على الفاعل و المفعول

قال المحقّق: و موجب الإيقاب القتل على الفاعل و المفعول إذا كان كل منهما بالغا عاقلا.

أقول: أي إذا ثبت الإيقاب و الدخول فهناك يقتل الفاعل و المفعول- و سيأتي كيفية القتل و الظاهرة أن الحكم ذلك سواء كان محصنا أم غير محصن.

و في الجواهر بعد لفظة المفعول: بلا خلاف أجده فيه نصّا و فتوى بل الإجماع بقسميه عليه انتهى.

و لا ندري إن ادّعاءه عدم الخلاف و الإجماع متعلّق بكل الجملة السابقة أو أنه يختص بالأخير فقط أي قوله: و المفعول [1] و لو كان متعلقا بالجميع ففيه تحقق الخلاف خصوصا في النصوص كما سترى ذلك.

و في المسالك: لا خلاف في وجوب قتل اللائط الموقب إذا كان مكلفا و الأخبار به متضافرة إلخ.

و في الرياض بعد ذكر شمول الحكم للعبد و لغير المحصن أيضا: بلا خلاف على

______________________________

[1] لو احتمل ذلك في هذا المقام فما يصنع بقوله- عند قول المحقق: و يستوي في ذلك.

و المحصن و غيره- بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه.

______________________________

(1) الكافي في الفقه ص 409.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 16

الظاهر المصرّح به في السرائر بل ظاهرهم الإجماع عليه كما في جملة من العبائر و منها الانتصار و الغنية و هو الحجة (ثم قال:) مضافا إلى النصوص المستفيضة الآتي إلى

جملة منها الإشارة و لكن بإزائها نصوص أخر دالّة على أن حدّ اللواطى حدّ الزاني إن كان قد أحصن رجم و إلا جلد إلا أنّها شاذة لا عامل بها موافقة للتقيّة كما صرّح به شيخ الطائفة حاملا لها عليها تارة و أخرى على غير الإيقاب لتسميته لواطا أيضا اتّفاقا فراجع.

فترى انّه لم يدّع اتّفاق النص بل إنّما ادّعى استفاضة النصوص و صرّح بوجود نصوص أخر على خلافها.

كما و أنه رحمه اللّه لم يدّع عدم الخلاف فتوى بل و صرّح باختيار بعض متأخّري المتأخّرين باشتراط الإحصان مضافا إلى الإيقاب، في قتل الفاعل أو رجمه فراجع و هذا أحسن من قول الجواهر، و ذلك لوجود الاختلاف فيهما.

و كيف كان فكلمات العلماء هنا مختلفة فالمستفاد من بعضها أن اللواط موجب للقتل سواء كان بالإيقاب أو بغيره إذا كان محصنا و المراد من الغير هو التفخيذ مثلا و من بعضها أن القتل مختص بصورة الإيقاب أمّا في غيرها فالجلد.

و إليك بعض الكلمات:

قال الشيخ قدّس سرّه- بعد أن قسم اللواط على ضربين أحدهما الإيقاع في الدبر ثانيهما إيقاع الفعل فيما دونه و إنّ الحكم في الأوّل القتل بالصور الخاصّة-:

و الضرب الثاني من اللواط و هو ما كان دون الإيقاب فهو على ضربين: إن كان الفاعل أو المفعول به محصنا وجب عليه الرجم و إن كان غير محصن كان عليه الجلد مأة جلدة «1».

و تبعه ابن البراج و ابن حمزة على ما في المختلف.

و قال الشيخ المفيد قدّس سرّه: إيقاع الفعل فيما سوى الدبر من الفخذين ففيه جلد مأة للفاعل و المفعول به إذا كانا عاقلين بالغين، و لا يراعى في جلدهما عدم

______________________________

(1) النهاية ص 704.

الدر المنضود في أحكام الحدود،

ج 2، ص: 17

الإحصان و لا وجوده كما يراعى ذلك في الزنا بل حدّهما الجلد على هذا الفعل دون ما سواه «1» و ذكر رحمه اللّه أن في الإيلاج في الدبر القتل سواء كان المتفاعلان على الإحصان أو على غير الإحصان «2» فهو قدّس سرّه افتى بجلد غير الموقب مطلقا سواء كان محصنا أو غيره.

و قال العلامة أعلى اللّه مقامه في المختلف: و به قال السيّد المرتضى و ابن أبي عقيل و سلّار و أبو الصلاح، و قال الصدوق و أبوه في رسالته: و أمّا اللواط فهو ما بين الفخذين فأمّا الدبر فهو الكفر باللّه العظيم، و من لاط بغلام فعقوبته أن يحرق بالنار أو يهدم عليه حائط أو يضرب ضربة بالسيف، ثم قال بعد ذلك أبوه: فإذا أوقب فهو الكفر باللّه العظيم، و هذا يعطي أن القتل يجب بالتفخيذ و كلام ابن الجنيد يدلّ عليه أيضا، و ابن إدريس اختار ما ذهب إليه المفيد و هو الأقرب «3».

و ظاهر كلام هذين هو القتل في غير الموقب بواحد من الأنحاء الثلاثة محصنا أو غير محصن و أمّا الإيقاب فقد قالا بأنه كفر باللّه، و هذا من باب التأكيد و التشديد في هذه المعصية.

و الحاصل أن الحكم في صورة الإيقاب هو القتل مطلقا بلا خلاف في ذلك إلّا عن بعض متأخري المتأخرين على ما حكاه في الرياض، و قد ذهب إليه بعض المعاصرين للجمع بين الروايات بنظره.

و إنّما الخلاف في موضعين: أحدهما في أن الفخذين و الأليين كالدبر في الحكم كما ذهب إليه الصدوقان أم لا.

ثانيهما في أنه هل أنه يفرق بين الإحصان و عدمه على ما ذهب إليه بعض في غير الإيقاب أم لا؟.

و اللازم

هو المراجعة الى الأخبار و استفادة الحكم منها إن أمكن ذلك و إلّا فالمرجع هو الإجماع إن كان و إلّا فيتمسّك بقاعدة الدرء.

______________________________

(1) المقنعة ص 785.

(2) المقنعة ص 785.

(3) مختلف الشيعة ص 764.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 18

قال الشيخ المحدّث الحرّ العاملي: باب أن حدّ الفاعل مع عدم الإيقاب كحدّ الزنا و يقتل المفعول به على كلّ حال مع بلوغه و عقله و اختياره.

عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: الملوط حدّه حدّ الزاني «1».

ظاهره وقوع الإيقاب لا التفخيذ مثلا على ما يستعمل فيه اللواط في بعض المواقع فمقتضى ذلك عدم الفرق بين الإحصان و غيره.

و عن سليمان بن هلال عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يفعل بالرجل قال: فقال: إن كان دون الثقب فالجلد و إن كان ثقب أقيم قائماً ثم ضرب بالسيف ضربة أخذ السيف منه ما أخذ فقلت له: هو القتل؟ قال: هو ذاك «2».

و هنا ذكر أن حدّ الإيقاب هو القتل بصورة مطلقة.

عن العلاء بن الفضيل قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: حدّ اللواطي مثل حدّ الزاني، و قال: إن كان قد أحصن رجم و إلا جلد «3».

و عن حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام رجل أتى رجلا؟

قال: عليه إن كان محصنا القتل و إن لم يكن محصنا فعليه الجلد قال: قلت فما على المأتيّ به؟ قال: عليه القتل على كلّ حال محصنا كان أو غير محصن [1].

عن الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ عليه السلام.

إنّه كان يقول في اللوطي: إن كان محصنا رجم و إن لم يكن محصنا جلد الحدّ «4».

و عن أبي البختري

عن جعفر بن محمد عن أبيه إنّ عليّ بن أبي طالب عليه

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 4 قال دام ظله و الوجه في الفرق بين الفاعل و المفعول به هو أن الفاعل يدفع شهوته فإذا كانت له زوجة فالحجة قائمة عليه دون ما إذا لم تكن له زوجة و هذا لا يجري في المفعول به.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ص 418 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 19

السلام كان يقول: حدّ اللوطي مثل حدّ الزاني، إن كان محصنا رجم و إن كان عزبا جلد مأة و يجلد الحدّ من يرمى به بريئا «1».

و عن يزيد بن عبد الملك قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّ الرجم على الناكح و المنكوح ذكرا كان أو أنثى إذا كانا محصنين و هو على الذكر إذا كان منكوحا أحصن أو لم يحصن «2».

و هذه الروايات صريحة في التفصيل بين المحصن و غيره إلا أن بعضها صرّح في المحصن بالقتل، و بعضها بالرجم، و لا بأس بذلك لأنه يحمل على التخيير كما أن في بعض الروايات الأهداب من الجبل أيضا.

و هنا بعض الاخبار الذي قد يقال بأنه مطلق كرواية مالك بن عطية عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لرجل أقرّ

عنده باللواط أربعا: يا هذا إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيّهن شئت قال: و ما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف في عنقك بالغة ما بلغت، أو إهداب (إهداء) من جبل مشدود اليدين و الرجلين أو إحراق بالنار «3».

و فيه إنّ عدّ هذه من المطلقات غير صحيح و ذلك لأن الرواية حكاية عن واقعة شخصيّة و لا إطلاق لها فلو كان قد قيل بأنّه رجل أوقب فهو يقتل مثلا لكان يصحّ الأخذ بإطلاقه أمّا حكم القتل مثلا بالنسبة إلى الرجل الذي أقرّ عنده باللواط أربعا فلا فلذا لو احتمل كونه محصنا فلا طريق إلى الحكم بكون غير المحصن أيضا مثله.

نعم يصحّ أن يقال بأنّ الإمام عليه السلام لم يستفصل عن أنه كان محصنا أو غيره، و ترك الاستفصال يقتضي عدم الفرق بين المحصن و غيره و إلّا لو كانت

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ص 418 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ص 418 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 8.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 20

للمحصن خصوصية لكان اللازم الاستفصال.

لكن فيه أن ترك الاستفصال يفيد الإطلاق إذا لم يحتمل جري كلامه على علمه بالحال و الحال أن احتمال كونه عليه السلام عالما بأنه محصن و لذا حكم بالقتل الذي هو حكم المحصن، قائم، و على هذا فلا يتمّ ما ذكره بعض المعاصرين من أن رواية مالك بن عطيّة مطلقة غير مقيّدة بكونه محصنا و مقتضى الجمع تقييدها بالمقيدات.

فإنه قد ثبت أنه لا إطلاق

لها بل إنّه لا يمكن التمسّك فيها بترك الاستفصال، و لو كانت مطلقة لكان يتم أنّها تقيّد بالمقيّدات و حينئذ فلا منافاة بينها و بين المقيّدات بل رواية ابن عطيّة مجملة و هذه الروايات بيان لها.

نعم يمكن أن يكون المراد من قوله عليه السلام: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك إلخ مثلك في الإيقاب، و عليه فتكون الرواية مطلقة و أمّا لو كان المراد منه مثلك في الإحصان فلا إطلاق بل يكون الحكم هو التفصيل و حيث إنّ احتمال كون الرجل محصنا قائم فلذا ليست الرواية مطلقة لأن المعنى حينئذ مثلك في الإحصان.

و أمّا رواية أبي بكر الحضرميّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأة و زوجها قد لاط زوجها بابنها من غيره و ثقبه و شهد عليه بذلك الشهود فأمر عليه السلام به فضرب بالسيف حتّى قتل و ضرب الغلام دون الحدّ و قال: أما لو كنت مدركا لقتلتك لإمكانك إيّاه من نفسك بثقبك «1».

فهي متعلّقة بمورد المحصن و لا دلالة لها على التفصيل و الإطلاق.

و يستفاد من الرواية أن حكم المفعول به القتل و أن عدم قتل الغلام كان مستندا إلى كونه غير بالغ.

و عن سيف التمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتي عليّ بن أبي طالب

______________________________

(1) التهذيب ج 10 ص 55 و 56.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 21

عليه السلام برجل معه غلام يأتيه فقامت عليهما بذلك البيّنة فقال: يا قنبر النطع و السيف ثم أمر بالرجل فوضع على وجهه و وضع الغلام على وجهه ثم أمر بهما فضربهما بالسيف حتّى قدّهما بالسيف جميعا «1».

و هذه

أيضا لا إطلاق لها و لعلّه كان الرجل محصنا.

و أمّا قتل الغلام فمحمول على بلوغه نعم هو ظاهر في عدم كونه محصنا و إلّا لم يعبّر عنه بالغلام أو أنه بعيد و إن كان ذلك لا ينفعنا في المقام حيث إنه كان مفعولا به لا فاعلا.

ثم إنّ مقتضى الروايات كما علمت هو التفصيل بين المحصن و غيره و الحكم بالقتل بواحد من الصور في الأوّل و الجلد في الثاني و قد ذكر الشيخ: بعض الاخبار الدالة على التفصيل و ذكر أنّها تحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد بها إذا كان الفعل دون الإيقاب فإنّه يعتبر فيه الإحصان و غير الإحصان.

و الوجه الآخر أن نحملها على ضرب من التقية لأن ذلك مذهب بعض العامّة.

و فيه أن بعض الأخبار المفصّلة واردة بذلك في مورد الإيقاب.

و أمّا بالنسبة إلى الوجه الثاني ففيه أنه لو كان فتوى العامة بذلك بحيث يحمل عليها هذه الروايات المقيّدة فهو، لكن من جملتها النقل عن أمير المؤمنين عليه السلام و هو لا يساعد التقية [1].

لكن المشهور لم يقولوا بذلك و لم يفصّلوا بين المحصن و غيره بل أفتوا بالقتل مطلقا بلا فرق بينهما. حتى أن الشيخ المفيد الذي قال بالتفصيل فإنما فصل هو بينهما في مورد عدم الإيقاب و هذا يكشف عن كون تلك الروايات الدالة على التفصيل معرض عنها و لم يعمل بها فمن كان لا يعتني بمخالفة المشهور و عدم عملهم فهو في فسحة و راحة فيفتي بأنّ الموقب المحصن يقتل و غير المحصن يجلد

______________________________

[1] أقول: لم نقف على رواية حاكية عن التفصيل مشتملة على نقل فعل أمير المؤمنين عليه السلام.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ

اللواط ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 22

و أمّا من كان معتنيا بنظر المشهور و يقول بأنه لا يتجاوز عن خطّ الأصحاب و العلماء الأكابر فلا يمكنه الإفتاء بالتفصيل.

فالصحيح هو ما ذهب اليه المحقّق رضوان اللّه عليه من الإفتاء بالقتل مطلقا.

فإنّ هذه الروايات المفصّلة كانت بأعينهم و في أيديهم و لم يكن هناك إطلاق محكم وثيق في قبالها فكيف إنّهم أفتوا بالقتل مطلقا؟ هذا كلّه بالنسبة إلى المقام الأوّل.

و أمّا الاختلاف الآخر فهو أنه هل الإدخال بين الأليتين أو الفخذين أيضا حكمة حكم الإيقاب أعني القتل أم لا؟ بل إنّ حكمه الجلد؟

ذهب الصدوقان إلى الأوّل و خالف فيه الآخرون.

و قال الشيخ المفيد: و اللواط هو الفجور بالذكران و هو على قسمين: أحدهما إيقاع الفعل فيما سوى الدبر من الفخذين ففيه جلد مأة للفاعل و المفعول به إذا كانا عاقلين بالغين و لا يراعى في جلدهما عدم الإحصان و لا وجوده كما يراعى ذلك في الزنا بل حدهما الجلد على هذا الفعل دون ما سواه. «1».

قال الشيخ في المبسوط: و إن كان الفجور بالذكور و كان دون الإيقاب فإن كان محصنا رجم و إن كان بكرا جلد الحدّ «2».

و قال في الخلاف: و إن كان دون الإيقاب فإن كان محصنا وجب عليه الرجم و إن كان بكرا وجب عليه مأة جلدة «3» (و مثله في النهاية).

فالشيخ المفيد يقول بالجلد مطلقا [1] و الشيخ الطوسي يفصّل بين المحصن و غيره.

و المحقّق في الشرائع قد عمّم اللواط للإيقاب و غيره إلا أنه خص القتل بما إذا

______________________________

[1] قال في السرائر ج 3 ص 459: بأنّه مذهب شيخنا المفيد و السيّد المرتضى و غيرهما من المشيخة

رحمهم اللّه و هو الصحيح الذي يقتضيه الأدلة القاهرة إلخ.

______________________________

(1) المقنعة ص 785.

(2) المبسوط ج 8 ص 7.

(3) الخلاف كتاب الحدود ص 151 مسألة 22.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 23

كان هناك إيقاب.

و قد ورد في بعض الروايات أن غير الموقب أيضا يقتل، مثل رواية حسين بن سعيد قال: قرأت بخطّ رجل أعرفه إلى أبي الحسن عليه السلام و قرأت جواب أبي الحسن عليه السلام بخطّه: هل على رجل لعب بغلام بين فخذيه حدّ؟

فإنّ بعض العصابة روى أنه لا بأس بلعب الرجل بالغلام بين فخذيه فكتب: لعنة الله على من فعل ذلك.

و كتب أيضا هذا الرجل و لم أر الجواب: ما حدّ رجلين نكح أحدهما الآخر طوعا بين فخذيه ما توبته؟ فكتب: القتل. «1».

و هذا الخبر مستند الصدوقين كما أن بعض الروايات دالّة على الجلد مطلقا و ذلك كرواية سليمان بن هلال عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يفعل بالرجل قال: فقال: إن كان دون الثقب فالجلد و إن كان ثقب أقيم قائماً ثم ضرب بالسيف أخذ السيف منه ما أخذ فقلت له: هو القتل؟ قال: هو ذاك «2».

و هذه صريحة في اعتبار الجلد في قبال الثقب الذي يوجب القتل و قد اختار هذا القول جمع من أكابر الأصحاب و في المسالك إنّه المشهور، و صريح الانتصار و الغنية الإجماع عليه.

و في الرياض مضافا إلى أصالة البراءة و الشك في وجوب الزائد فيدرء للشبهة.

و في الجواهر للأصل و الاحتياط و خبر سليمان بن هلال.

و أمّا التفصيل فقد ذهب إليه جماعة جمعا بين الروايات الدالّة على أن حدّه حدّ الزاني و بين ما دلّ على قتله، يحمل الأوّل على غير الموقب و

الثاني على الموقب.

و فيه أن الجمع فرع التكافؤ المفقود في المقام و على ذلك فالأوّل و هو وجوب

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 5.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من حدّ اللواط ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 24

الجلد مطلقا أشبه بأصول المذهب و قواعده كما في الجواهر.

و أضعف من ذلك قول الصدوق و الإسكافي من وجوب القتل، فقد جعل القائل جميع ما دلّ على القتل، فيما دون الثقب، و أمّا الإيقاب و الإدخال فهو الكفر.

لكن الظاهر أن التعبير بالكفر تأكيد للحرمة.

و يمكن أن يقال بأنّه إذا لم يكن ترجيح أخبار القتل على الجلد منّجزا فهناك يتمسك بقاعدة الدرء فإنّه يعلم إجمالا بوجوب القتل أو الجلد فلا يمكن القول بتساقط كلتا الطائفتين من الروايات فلا شي ء، فإنه خلاف الإجماع و هو مخالفة يقينية كما و أنه لا يمكن الاحتياط بالجمع بينهما فيؤخذ بأقلّ العقوبتين.

تساوي الأفراد في ذلك

قال المحقّق: و يستوي في ذلك الحرّ و العبد و المسلم و الكافر و المحصن و غيره.

أقول: لا فرق في الحكم هنا بين الحرّ و العبد كما قال في المسالك: لا خلاف في وجوب قتل اللائط الموقب إذا كان مكلّفا و الأخبار به متضافرة (ثم قال:) و العبد هنا كالحرّ بالإجماع و إن كان الحدّ بغير القتل و ليس في الباب مستند ظاهر غيره.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه.

أقول: لو كان في المقام ما يدلّ بنحو كلّي على أن حكم اللواط هو القتل فهذا العموم يكفينا في إثبات تساوي العبد مع الحرّ في الحكم و لا حاجة معه إلى دليل خاص في مورد العبد إلّا

أن الكلام في وجود مثل هذا العام.

و يمكن أن يكون منه قول أمير المؤمنين عليه السلام في رواية مالك بن عطيّة:

إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك بثلاثة أحكام إلخ (ب 3 من حد اللواط ح 1).

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 25

تقريبه إن يكون المراد من مثلك، مثلك في هذه المعصية و على هذا فلا فرق بين الحرّ و العبد كما أنه لا فرق عليه بين الكافر و المسلم و لا بين المحصن و غيره.

نعم لو كان المراد منه مثلك في جميع الخصوصيّات حتّى الحريّة فهناك لا يشمل العبد.

لكن هذا الاحتمال خلاف الظاهر.

و على هذا فلا ينحصر المستند بالإجماع بل الدليل اللفظي أعني العموم أيضا يدلّ على ذلك و إنّما ينحصر فيه إذا لم يكن دليل لفظي يدلّ عليه كما أنه لو لم يكن إجماع أيضا و شك في المقام فإنّ الحدّ يدرء بالشبهة.

ثم إنّ من جملة العمومات التي يكتفى بها في المقام ما ورد في رواية سليمان بن هلال عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إن كان دون الثقب فالجلد و إن كان ثقب أقيم قائماً ثمّ ضرب بالسيف «1».

فإنّ قوله: و إن ثقب أقيم إلخ يشمل الحرّ و العبد خلافا لباب الزنا الذي كان حدّ العبد هناك على النصف.

و لا ينافي ذلك ما ورد في الروايات من أن حدّ اللوطي مثل حدّ الزاني ب 1 ح 3 و ح 7 و ذلك لأن المراد طبعا أن حدّ غير الموقب هو حدّ الزنا و أمّا الموقب فلا، بل حكمه القتل مطلقا حرّا كان أو عبدا.

إيقاب البالغ بالصبيّ أو العاقل بالمجنون

قال المحقّق: و لو لاط البالغ بالصبيّ موقبا قتل البالغ و أدّب

الصبي و كذا لو لاط بمجنون.

أقول: و يدلّ على الحكم بالنسبة إلى الصبي خبر أبي بكر الحضرميّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأة و زوجها، قد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 26

لاط زوجها بابنها من غيره و ثقبه و شهد عليه بذلك الشهود فأمر به عليه السلام فضرب بالسيف حتّى قتل و ضرب الغلام دون الحدّ و قال: أما لو كنت مدركا لقتلتك لإمكانك إياه من نفسك بثقبك «1».

فهذا صريح في قتل الزوج اللائط و ضرب الغلام دون الحدّ.

و لا يخفى أن ضرب الصبي و تأديبه يجري فيما إذا كان له نوع شعور و ينفعه التأديب و إلا فهو لغو لا يترتّب عليه أثر و على الجملة فحيث إنه ليس بمكلف فلذا يضرب دون الحدّ كما أنه يستفاد من قوله عليه السلام: لو كنت مدركا لقتلتك إلخ. أن شرط القتل هو الإدراك أعني البلوغ بل يستفاد منه حكم المجنون و المكره أيضا فتعدّى الحكم من الصبيّ إلى المجنون من باب عموم التعليل و إلّا فلا ذكر عن المجنون إلّا أنّهما يشتركان في عدم التكليف غاية الأمر من جهة الصبا في الطفل و من جهة عدم الإدراك في المجنون. و المستفاد من قوله فضرب بالسيف حتى قتل، أنه لو لم يقتل بالضربة الأولى يضرب هكذا حتّى يقتل.

حكم ما إذا لاط المولى بعبده

قال المحقّق: و لو لاط بعبده حدّا قتلا أو جلدا.

أقول: أي القتل إذا كان قد أوقب و الجلد إذا لم يوقب.

و لعلّ وجه تعرّضه لذلك هو أن بعض العامّة نفي الحدّ هنا لشبهة عموم تحليل ملك اليمين

و هو باطل فإنّه لا يحلّ العبد لمولاه و أمّا قوله تعالى أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ «2» فإنما هو يختص بالأمة لمولاها و الإجماع من الأصحاب قائم على ذلك و القول بجواز وطي العبد لأنه ملك اليمين من المستقبحات و المستكرهات عند

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

(2) المؤمنون- 6 و المعارج- 30.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 27

الإماميّة.

سقوط الحدّ عن العبد إذا ادّعى الإكراه

قال: و لو ادّعى العبد الإكراه سقط عنه دون المولى.

أقول: إذا ادّعى العبد أنه قد أكرهه المولى على ذلك فإنّ دعواه مسموعة و النتيجة سقوط الحدّ عنه و أمّا المولى فإنّه يقتل. و يمكن أن يكون الوجه في سماع دعواه هو أنه ذو اليد فيقبل ما يدّعيه بالنسبة إلى نفسه.

و فيه إنّ ذلك غير تامّ و ذلك لأن كلّ واحد منهما ذو اليد فلو ادّعى المولى إكراه العبد له فلا بد من أن يقبل قوله.

فالصحيح هو ما تمسّكوا به من قيام القرينة على صدق ما يدّعيه و كأنّها موجبة للظنّ النوعي فإنّ العبد بالنسبة إلى مولاه مقهور و مطيع، و المولى بالنسبة إلى العبد مسلّط و مطاع و العبد تابع و المولى متبوع و لا عكس، فبحسب الظاهر و العادة يمكن أن يكون المولى قد أكرهه على ذلك، و قوله مقبول عند العرف و مسموع عند العقلاء و لا أقلّ من أنه يوجب الشبهة، و الحدود تدرء بالشبهات بخلاف ما لو ادّعى المولى إكراه العبد له على ذلك فإنّ العرف لا يصدّقه على ذلك فلا شبهة، فلا درء هناك.

نعم لو ادّعى المولى إكراه الغير له على ذلك و أمكن ذلك في حقّه فإنّه يحصل الشبهة فيدرء عنه

الحدّ بذلك.

يحدّ العاقل إذا لاط به مجنون

قال المحقّق: و لو لاط مجنون بعاقل حدّ العاقل و في ثبوته على المجنون قولان أشبههما السقوط.

أقول: أمّا ثبوت الحدّ على العاقل فلعموم دليل الحدّ و لا إشكال فيه و لا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 28

خلاف فقد لاط البالغ العاقل المختار.

و إنّما الكلام في المجنون الذي كان لاطيا ففيه قولان:

أحدهما ثبوت الحدّ عليه و قد حكي ذلك عن الشيخين المفيد و الطوسي و أتباعهما مستندين في ذلك إلى وجوب الحدّ على المجنون مع الزناء.

ثانيهما سقوط الحدّ عنه و هو قول الباقين، و هو الحق فإنّ المجنون لو كان بحيث لا يتعقّل شيئا فمعلوم أنه لا حدّ عليه لعدم ترتّب أثر عليه و الظاهر أن العلمين و أتباعهما أيضا لا يقولون بذلك.

و لو كان بحيث و يؤثّر إجراء الحدّ عليه في الجملة فهو و إن كان كذلك إلّا أن الاعتبار العقلي لا يجوز تكليف المجنون لعدم قابليّته لذلك فلا حدّ عليه لا في باب اللواط و لا في باب الزنا.

لا يقال إن المجنون كالصبيّ فكما أنه يعزّر الصبي مع عدم تكليفه كذلك يحدّ المجنون.

و ذلك لأن الصبي قد أسقط اللّه عنه التكليف لطفا و إلا فهو ليس ممّن لا يتحمّله أصلا بل هو لائق لذلك و هذا بخلاف المجنون الذي ليس قابلًا للتكليف و لا يؤثر فيه الحدّ و إلا لكان مكلفا و على الجملة فتسليم إجراء الحدّ عليه مشكل في الغاية و لا أدري كيف تفوّها بذلك.

و القول باستثناء باب الزنا مثلا غير صحيح كاحتمال استثناء حدّه و إن لم يكن مكلّفا، و لا يمكن الالتزام بهذه الأمور في المجنون نعم يصحّ القول بإجراء الحدّ على قليل العقل لكنه

غير المجنون و لذا قال المحقّق قدّس سرّه بأنّ الأشبه هو السقوط أي أن الأشبه بقاعدة عدم تكليف المجنون و كذا الشك في التكليف، و درء الحدود هو السقوط.

فرع في المقام

و هنا فرع آخر لم يتعرّض له المحقّق و هو أنه لو لاط الصبي ببالغ فإنّه يقتل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 29

البالغ خاصّة و يؤدّب الصبيّ و ذلك لعموم الأدلّة و إطلاقاتها الدالّة على أن الإيقاب موجب للقتل فإنّها شاملة لهذا البالغ الذي تمكّن للصبيّ بعد أنه لا عموم في البين يدلّ على اعتبار البلوغ في الطرفين.

و أمّا ما ورد في رواية أبي بصير في امرأة محصنة زنى بها غلام صغير من أنها لا ترجم لأن الذي نكحها ليس بمدرك. «1» فلا يدلّ على سقوط القتل في المقام و ذلك لخروج الفرض المزبور عن العمومات بالنص و يبقى غيره تحت العمومات.

نعم لو استفيد من النصّ سقوط الرجم مطلقا إذا كان الواطي غير مكلّف فهناك لم يكن على الموطوء رجم و عليه فيمكن تعميم الحكم و انسحابه من الموطوءة إلى الموطوء و لعلّه يستفاد ذلك من عموم التعليل الدّالّ على توقف الرجم على إدراك الناكح لكن الظاهر أن المستفاد من النصوص عكس ذلك.

قتل الذمي إذا لاط بمسلم مطلقا

قال المحقّق: و لو لاط الذمّي بمسلم قتل و إن لم يوقب.

أقول: إذا لاط الذمي بمسلم بالإيقاب فهناك يقتل بلا كلام كما أن المسلم الموقب بمسلم كان يقتل و ليس هو بأخفّ من هذا.

و أمّا إذا لاط الذمي بمسلم بلا إيقاب فالحكم بالقتل هنا ليس كالفرض الأول في الوضوح و ذلك لأن المسلم اللائط غير الموقب ليس حكمه هو القتل حتى يقال بأنّ حال الذمي ليس أخفّ و أدون من المسلم فيقتل هو أيضا فلا بدّ من دليل يعتمد عليه.

و يمكن أن يتمسّك في ذلك بوجوه:

منها أنه قد هتك حرمة الإسلام.

و فيه أنه و إن كان ذلك غير قابل

للإنكار إلّا أن الكلام في كون حدّه هو القتل

______________________________

(1) وسائل الشيعة- ج 18- ب 9 من أبواب حدّ الزنا ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 30

و أنه يقتل الهاتك كما يقتل الموقب.

و منها أنه خرج بذلك عن الذمّة.

و فيه أنه خرج بذلك عن كونه ذميّا و يدخل تحت عنوان الحربيّ و يجوز قتله بذلك حيث إنه لم يعمل بشرائط الذمة و لكن كون حدّه هو القتل و وجوب قتله من أين؟

و منها الإجماع كما ادّعاه في الجواهر بقوله: بلا خلاف أجده فيه انتهى فعلى فرض تحقّق الإجماع فلا كلام عليه [1].

لواط الذمي بالذمي

قال المحقّق: و لو لاط بمثله كان الإمام مخيّرا بين إقامة الحدّ عليه و بين دفعه إلى أهله ليقيموا عليه حدّهم.

أقول: إنّ ما ذكر في الفرض الأوّل من الخروج عن الذمّة أو الهتك لا يجري هنا فيبقى أنه إذا رفع الأمر إلى الإمام فهو بولايته مخيّر بين إجراء حكم الإسلام عليه أو إرجاع الأمر إلى حكّامهم حتّى يحكموا عليه بمقتضى دينهم.

أما إجراء حكم الإسلام فللأولويّة أو تنقيح المناط حيث لا نصّ بالخصوص في المقام.

و أمّا إرجاعه إلى حكامهم فلأنّ من فعل و أتى بالقبيح غير مسلم فيمكن إرجاعه إلى أهل ملّته كي يحكم عليه حسب مذهبه و ملّته كما أن الأمر في الزنا «1» أيضا كذلك و إلا فلا نصّ عليه.

هذا كلّه إذا كان قد أتي به إلى الإمام و رفع أمره إليه و أمّا بدون ذلك فلا يجوز

______________________________

[1] يقول المقرّر: و قد استدلّ في المسالك بقوله: كما لو زنى على وجه يوجب الجلد على المسلم لما روي من أن حدّ اللواط مثل حدّ الزنا و لمناسبة عقوبة الزنا.

انتهى.

______________________________

(1) راجع الدّر المنضود في أحكام الحدود. ج 1 ص 349.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 31

له إجراء حكم الإسلام أي القتل مثلا في حقّه لأنه يخالف الأمن.

في قتل الموقب و جلد غير الموقب

قال المحقّق: و كيفيّة إقامة هذا الحدّ القتل إن كان إيقابا و في رواية إن كان محصنا رجم و إن كان غير محصن جلد و الأوّل أشهر.

أقول: إنّ الروايات في باب الموقب على قسمين:

أحدهما ما يدل على قتله بواحد من أنحاء القتل المذكورة فيها. منها رواية مالك بن عطية عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لرجل أقرّ عنده باللواط أربعا: يا هذا إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيّهن شئت قال: و ما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال:

ضربة بالسيف في عنقك بالغة منك ما بلغت أو إهداب من جبل مشدود اليدين و الرجلين أو إحراق بالنار «1».

الى غير ذلك من الروايات الدالة على القتل.

ثانيهما ما يدلّ على التفصيل بين المحصن و غير المحصن و إليك قسم منها:

عن العلاء بن الفضيل قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: حدّ اللوطي مثل حدّ الزاني و قال: ان كان قد أحصن رجم و إلا جلد «2».

و عن حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل اتى رجلا؟ قال: عليه ان كان محصنا القتل و إن لم يكن محصنا فعليه الجلد. «3».

و في رواية قرب الاسناد. عن علي عليه السلام أنّه كان يقول في اللوطي:

ان كان محصنا رجم و إن لم يكن محصنا جلد الحدّ «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18

ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 3.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 4.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 32

و عن أبي البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه إنّ عليّ بن ابي طالب عليه السلام كان يقول: حدّ اللوطي مثل حدّ الزاني إن كان محصنا رجم و إن كان عزبا جلد مأة و يجلد الحدّ من يرمي به بريئا «1».

و عن ابي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: إنّ في كتاب عليّ عليه السلام: إذا أخذ الرجل مع غلام في لحاف مجرّدين ضرب الرجل و أدّب الغلام و ان كان ثقب و كان محصنا رجم «2».

ثم إنه لا إشكال في أن مقتضى الجمع بين الطائفتين هو حمل المطلق على المقيّد و لازم ذلك هو الحكم بقتل اللاطي الموقب المحصن و جلد غير المحصن.

إلّا أن الروايات المفصّلة معرض عنها و لم يعمل بها الأصحاب كما أن الشرائع قال: و الأوّل أشهر انتهى و قال في الجواهر بعد ذلك: رواية في العمل بل قد عرفت عدم الخلاف فيه بيننا بل الإجماع بقسميه عليه إلخ.

و على الجملة فحيث أن هذه الروايات لم يعمل بها الأصحاب [1] و العامل بها إن كان فهو شاذّ فلذا لا تقاوم و لا تعارض القسم الأوّل منها فالحكم في اللاطي الموقب مطلقا هو القتل.

قتل الموقب بكيفيّات مختلفة

قال المحقّق: ثم الإمام مخيّرا في قتله بين ضربه بالسيف أو تحريقه أو رجمه أو إلقائه من شاهق أو إلقاء جدار عليه.

أقول: الوجه في ذلك الروايات ففي رواية مالك بن عطيّة المذكورة أنفا

______________________________

[1]

هذا مضافا الى ما أفاده في المسالك بقوله: و هذه الأخبار مع كثرتها مشتركة في ضعف السند ففي طريق. إلخ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ اللواط ح 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 33

التخيير بين ثلاثة: الضرب بالسيف أو إهداب من جبل. أو الإحراق بالنار «1».

و أما الرجم ففي رواية السكوني عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لو كان ينبغي لأجد أن يرجم مرّتين لرجم اللوطي «2».

و عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: إن في كتاب علىّ عليه السلام: إذا أخذ الرجل مع غلام في لحاف مجرّدين ضرب الرجل و أدّب الغلام و إن كان ثقب و كان محصنا رجم «3».

و عن ابن ابي عمير عن عدّة من أصحابنا عن أبى عبد اللّه عليه السلام في الذي يوقب إنّ عليه الرجم إن كان محصنا و عليه الجلد إن لم يكن محصنا «4».

إلى غير ذلك من الروايات.

نعم التقيّد بالإحصان في قسم من هذه الروايات غير معمول به.

و أمّا إلقاء الجدار عليه فيدلّ على ذلك ما عن فقه الرضا عليه السلام: و في اللواطة الكبرى ضربة بالسيف أو هدمة أو طرح الجدار و هي الإيقاب و في الصغرى مأة جلدة «5».

و الرواية و إن كانت ضعيفة إلّا أن الشهرة جابرة لها و قد صرّح في الجواهر بأن التخيير بين الخمسة هو المشهور.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حدّ اللواط ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حدّ اللواط ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج

18 ب 3 من حدّ اللواط ح 7.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حدّ اللواط ح 8.

(5) مستدرك الوسائل ج 18 ب 1 من حدّ اللواط ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 34

الجمع بين التحريق و واحد من البواقي

قال المحقّق: و يجوز أن يجمع بين أحد هذه و بين تحريقه.

أقول: قد مر ما كان يدلّ على جواز الإحراق أوّلا و أمّا ما يدلّ على ذلك بعد أن أجرى عليه واحد من الأمور فروايتان:

إحديهما رواية العزرمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أبيه عليهما السلام قال: أتي عمر برجل قد نكح في دبره فهمّ أن يجلده فقال للشهود: رأيتموه يدخله كما يدخل الميل في المكحلة؟ قالوا: نعم فقال لعلي عليه السلام: ما ترى في هذا؟

فطلب الفحل الذي نكح فلم يجده فقال علي عليه السلام: ارى فيه أن تضرب عنقه قال: فأمر فضربت عنقه ثم قال: خذوه فقد بقيت له عقوبة أخرى قال:

و ما هي؟ قال: ادع بطنّ من حطب فدعا بطنّ من حطب فلفّ فيه ثم أحرقه بالنار «1».

و الأخرى رواية العزرمي أيضا قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: وجد رجل مع رجل في أمارة عمر فهرب أحدهما و أخذ الآخر فجي ء به الى عمر فقال للناس:

ما ترون في هذا؟ فقال هذا: اصنع كذا، و قال هذا: اصنع كذا قال: فما تقول يا أبا الحسن؟ قال: اضرب عنقه، فضرب عنقه، قال: ثمّ أراد أن يحمله فقال: مه إنّه قد بقي من حدوده شي ء قال: أي شي ء بقي؟ قال: ادع بحطب فدعا عمر بحطب فأمر به أمير المؤمنين عليه السلام فأحرق به «2».

ثمّ إنّه قد يقال بأنّه قد ذكر في الروايات: الإحراق، فما هو كيفيّته و

هل يجب أن يحرق الى أن لا يبقى شي ء أو غير ذلك؟.

فنقول: الظاهر أن الإحراق إذا كان في بدء الأمر و بعنوان واحد من الأمور التي يفعل بالحيّ فهو صادق بمجرّد موته بذلك و أمّا لو كان ذلك بعنوان العمل

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حدّ اللواط ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب اللواط ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 35

المركّب أي الذي يفعل به بعد أن قتل فإنّه لا يصدق إلّا إذا صار كالفحم و الرماد.

حدّ اللّواط غير الايقابي

هذا كلّه في الإيقاب و أمّا إذا لم يوقب و إنما فعل ذلك بين الأليتين أو بين الفخذين.

فقال المحقّق: و إن لم يكن إيقابا كالتفخيذ أو بين الأليتين فحدّه مأة جلدة

و قال في النهاية: يرجم إن كان محصنا و يجلد إن لم يكن و الأوّل أشبه.

أقول: في المسألة أقوال:

أحدها: أن حدّه هو الجلد مأة بالنسبة إلى كل واحد منهما و اختار هذا القول جمع من أكابر الأصحاب بل في المسالك بعد أن ذكر أنه المشهور: ذهب إلى ذلك: المفيد و المرتضى و ابن أبي عقيل و سلّار و أبو الصلاح و ابن إدريس و المصنّف و سائر المتأخرين انتهى.

و في الرياض: على الأصحّ الأشهر بل عليه عامّة من تأخّر و في صريح الانتصار و ظاهر الغنية الإجماع عليه و هو الحجّة.

و قد استدلّ على ذلك بوجوه:

1- أصالة البراءة عن القتل.

2- الشك في وجوب الزائد فيكون شبهة يدرء بها.

3- الاحتياط فإنه بعد أن الشبهة مربوطة بالدماء فلا مورد لإجراء البراءة كما أن من المسلّم أنه يجري البراءة في الشبهات الموضوعية إذا لم تكن من قبيل الأعراض و النفوس و

غيرها ممّا يماثلها فإنّه لا بد من الاحتياط فيها.

4- الإجماع كما مر في كلام صاحب الرياض.

5- خبر سليمان بن هلال عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يفعل بالرجل قال: فقال: إن كان دون الثقب فالجلد و إن كان ثقب أقيم قائماً ثم ضرب

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 36

بالسيف ضربة أخذ السيف منه ما أخذ فقلت له هو القتل؟ قال: هو ذاك «1».

ثانيها: انه يرجم مع الإحصان و يجلد بدونه و قد ذهب إلى ذلك الشيخ الطوسي قدّس سرّه في النهاية «2» و التهذيب «3» و الإستبصار «4» و الخلاف «5» و المبسوط «6» و القاضي ابن البرّاج «7» و كذا جماعة من الفقهاء «8».

و ذلك للجميع بين الروايات الدّالّة على القتل في اللعب و التفخيذ و الدّالّة على الجلد بحمل الاولى على المحصن و الثانية على غيره [1].

لكن الجمع فرع التكافؤ المفقود في المقام فإنّ الرواية المفصّلة معرض عنها فلذا ذكر المحقّق أن القول الأوّل أشبه، انتهى، أي بأصول المذهب و قواعده.

ثالثها: ما عن الإسكافي و الصّدوقين من وجوب القتل فيهما أي سواء كان محصنا أو غير محصن و ذلك لأنهم فرضوا اللواط في غير الإيقاب. و أمّا الإيقاب فهو الكفر باللّه و الرواية تدلّ على القتل في اللواط.

و السرّ في فرضهم ذلك الروايات.

فعن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: اللواط ما دون الدبر، و الدبر هو الكفر «9».

و عن حذيفة بن منصور قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن اللواط فقال: ما بين الفخذين و سألته عن الذي يوقب فقال: ذاك الكفر بما (لما) أنزل

______________________________

[1] قال في الرياض: بحمل

ما دلّ منها على القتل مطلقا على الموقب و ما دلّ منها على التفصيل بين المحصن و غيره على غيره إلخ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من حدّ اللواط ح 2.

(2) النهاية انتشارات قدس ص 704.

(3) التهذيب ج 10 ص 55.

(4) الإستبصار ج 4 ص 221.

(5) الخلاف ج 3 كتاب الحدود حدّ اللواط مسألة 22.

(6) المبسوط ج 8 كتاب الحدود ص 7.

(7) المهذّب ج 2 ص 530.

(8) كابن حمزة في الوسيلة ص 413.

(9) وسائل الشيعة ج 14 ب 20 من النكاح المحرم ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 37

اللّه على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

لكنّ الظاهر أن التعبير بالكفر تأكيد للذنب و مبالغة للحرمة «2».

لا فرق بين الأشخاص في هذا الحدّ أيضا

قال المحقّق: و يستوي فيه الحرّ و العبد و المسلم و الكافر و المحصن و غيره.

أقول: و ذلك لإطلاق أدلّة الباب فلا ينصّف الحدّ هنا في العبد بالإجماع و عموم الروايات هنا و عدم ما يدل على التفصيل و لا ينافي ذلك ما ورد من أن حدّ اللواط حد الزنا «3» و ذلك لتخصيص العبد الموقب و بتعبير آخر أن هذا الخبر ناظر الى قوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ «4» الّا أنه قد استثنى العبد في حكم المائة في باب الزنا بالخصوص دون باب اللواط ففي باب الزنا كان حدّ العبد نصف حدّ الحرّ للدليل.

و هكذا يتساوى المسلم و الكافر إذا كان اللائط و الملوط مسلمين أو كافرين لا ما إذا كان الفاعل كافرا و المفعول مسلما فإنّه يقتل الفاعل.

و قد يوجّه القتل هنا بأنه قد هتك حرمة الإسلام و لإهانته به.

كذا علّل في الرياض.

و فيه انّه لو

كان الملاك الهتك لجرى ذلك في كل المعاصي فالعمدة هو الإجماع و هكذا الأولوية أو تنقيح المناط بالنسبة إلى الزنا لأنه كما تقدّم في باب الزنا يقتل الزاني الذمي بالمسلمة فإنّ اللواط إمّا أكبر و أعظم من الزنا- كما هو الظاهر من رواية يونس عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال سمعته يقول:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 20 من أبواب النكاح المحرّم ح 3.

(2) و يمكن أن تحمل على المستحلّ مع أن حذيفة بن منصور ضعيف. كذا في المسالك.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 3.

(4) سورة النور الآية 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 38

حرمة الدبر أعظم من حرمة الفرج و أن اللّه أهلك أمّة لحرمة الدبر و لم يهلك أحدا لحرمة الفرج «1»- أو أنه يساويه فلا محالة يقتل الكافر اللائط بالمسلم إمّا للأولويّة أو بتنقيح المناط القطعي.

و كذا لا فرق في المقام بين المحصن و غيره و ذلك لشمول إطلاق الرواية فيه أيضا.

قتل اللائط غير الموقب في الثالثة أو الرابعة

قال المحقّق: و لو تكرر منه الفعل و تخلّله الحدّ مرّتين قتل في الثالثة و قيل في الرابعة و هو أشبه.

أقول: أمّا القتل في الثالثة بعد تكرار مرّتين فهو مقتضى بعض الروايات الدّالّة على قتل مرتكب الكبائر في الثالثة مثل ما رواه يونس عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلّها إذا أقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة «2».

و أمّا القول بقتله في الرابعة فقد استدلّ عليه بالاحتياط في الدماء و بالإجماع على عدم الفرق بينه و بين باب الزنا في ذلك. و بالإجماع المدّعى على قتله في الرابعة و برواية أبي بصير قال: قال

أبو عبد اللّه عليه السلام: الزاني إذا زنى يجلد ثلاثا و يقتل في الرابعة يعني جلد ثلاث مرات «3» و قد مرّ البحث في ذلك في باب الزنا فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 71 من أبواب النكاح المحرّم ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب حدّ الزنا ح 3.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 39

تعزير المجتمعين تحت إزار واحد

قال المحقّق: و المجتمعان تحت إزار واحد مجرّدين و ليس بينهما رحم يعزّران من ثلاثين سوطا إلى تسعة و تسعين سوطا.

أقول: لا خصوصيّة لكونهما تحت إزار بل الحكم في اللحاف و الثوب و الستر أيضا كذلك و لذا زاد صاحب الجواهر لفظة (مثلا) بعد قول المحقّق: تحت إزار واحد.

و المراد من التجرّد هو التجرّد عن السروال لا مطلقا فإذا ثبت اجتماعهما كذلك يجب إقامة الحدّ الواجب المقرّر في الشرع. و ههنا أبحاث:

الأوّل في أن الواجب هنا هو الحدّ أو التعزير و على الثاني ما هو المقدار المعتبر شرعا من الجلد؟.

الثاني في القيود المعتبرة في المقام كالتجرّد و الضرورة و الرحم أو المحرميّة.

أمّا الأول فنقول: اختلفت الأخبار و الأقوال في ذلك فمقتضى بعض الأخبار أن الثابت في حقّهما هو الحدّ التامّ أي المائة، و مقتضى بعضها الآخر أنه التعزير إمّا بثلاثين كما هو مفاد بعضها و إمّا بتسعة و تسعين سوطا كما أنه مفاد قسم آخر منها.

و ذهب جمع كالصدوق و ابن الجنيد إلى إقامة الحدّ عليهما كما صرّح بذلك في المختلف.

و جمع الى تعزيرهما من ثلاثين إلى تسعة و تسعين و ذلك كالشيخ و ابن البرّاج و ابن إدريس و أكثر المتأخّرين

و جزم بذلك المحقّق في الشرائع و النافع.

و قال بعض بأنه يعرّزان من عشرة إلى تسعة و تسعين، و قد نسبه العلامة في المختلف إلى الشيخ المفيد.

و اللّازم هنا المراجعة إلى الروايات و النظر فيها:

و قد عقد في الوسائل بابا عنوانه: باب ثبوت التعزير بحسب ما يراه الإمام على الرجلين و المرأتين و الرجل و المرأة إذا وجدا في لحاف واحد أو ثوب واحد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 40

مجرّدين من غير ضرورة و لا قرابة و يقتلان في الرابعة.

عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: حدّ الجلد أن يوجدا في لحاف واحد و الرجلان يجلدان إذا وجدا في لحاف واحد الحدّ. [1].

و عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فدخل عليه عبّاد البصري و معه أناس من أصحابه فقال له: حدّثني عن الرجلين إذا أخذا في لحاف واحد فقال له: كان علي عليه السلام إذا أخذ الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ فقال له عباد: إنّك قلت لي: غير سوط. فأعاد عليه ذكر الحديث (الحدّ) حتّى أعاد ذلك مرارا فقال: غير سوط. فكتب القوم الحضور عند ذلك الحديث «1».

عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: حدّ الجلد في الزنا أن يوجدا في لحاف واحد و الرجلان يوجدان في لحاف واحد. «2».

و عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: كان علي عليه السلام إذا وجد الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ. «3».

و عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان علي عليه السلام إذا وجد رجلين في لحاف واحد

مجرّدين جلدهما حدّ الزاني مأة جلدة كلّ واحد منهما. «4».

و عن عبد اللّه بن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السلام: (حدّ الجلد في الزنا أن

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 1، و قال سيّدنا الأستاذ دام ظلّه ان النائب للفاعل في (يوجدا) و إن لم يذكر لكنّ المراد الرجل و المرأة الأجنبيّان.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 6.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 15.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 41

يوجدا في لحاف واحد) و الرجلان يوجدان في لحاف واحد «1».

فهذه الروايات تدلّ على لزوم الحدّ التامّ في المقام.

و في قبالها أخبار تدلّ على التعزير بما دون الحدّ:

عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجلين يوجدان في لحاف واحد، قال: يجلدان غير سوط واحد «2».

و عن سليمان بن هلال قال: سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه عليه السلام فقال: جعلت فداك، الرجل ينام مع الرجل في لحاف واحد فقال: ذوا محرم؟

فقال: لا. قال: من ضرورة؟ قال: لا، قال: يضربان ثلاثين سوطا. «3».

و عن معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: المرأتان تنامان في ثوب واحد؟ فقال: تضربان فقلت: حدّا؟ قال: لا. قلت: الرجلان ينامان في ثوب واحد؟ قال: يضربان. قلت: الحد؟ قال: لا. «4».

و مقتضى الرواية الأخيرة هو نفى الحدّ فقط بخلاف رواية ابن سنان فإنّ مقتضاها جلدهما غير سوط واحد و

رواية سليمان فإنّهما تصرّح بضربهما ثلاثين سوطا.

و قد جمع بعض العلماء بين الروايات الدالّة على الحدّ و ما تدلّ على التعزير بحمل الاولى على التقيّة.

و ربما يستظهر ذلك من خبر عبّاد البصري حيث أن الإمام عليه السلام حكم أوّلا بضرب الحدّ ناسبا له إلى علي عليه السلام و لمّا قال له عبّاد: إنّك قلت: لي غير سوط أعاد عليه ما حكاه أوّلا عن علي عليه السلام من إجراء الحدّ و تكرر ذلك مرارا حتّى قال عليه السلام: غير سوط، فقد حكم أوّلا بمقتضى التقيّة ثم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 23.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 18.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 21.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 16.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 42

ذكر أخيرا الحكم الواقعي.

و فيه أن الحمل على التقيّة موقوف على كون فتوى العامّة على لزوم الحدّ و الحال أن الأمر على خلاف ذلك كما يشهد بذلك كلام الشيخ في الخلاف في رجل وجد مع امرأة في فراش واحد- المتّحد حكمه للمقام- حيث قال هناك بعد الحكم بأن عليهما مأة جلدة: و قال جميع الفقهاء: عليه التعزير «1» إلخ.

فقد نسب وجوب التعزير الى جميع الفقهاء و الظاهر من تعبيره هذا هو فقهاء العامّة. إلى غير ذلك ممّا لا يساعد الحمل على التقيّة فراجع ما تقدّم في باب الزنا.

و قد يجمع بينهما بحمل الحدّ في الطائفة الأولى من الروايات على المقدار المقرّر عليهما في باب التعزير فلا تنافي بينها و بين الروايات الدالّة على تعزيرهما.

و

فيه إنّ (الحدّ) ظاهر جدّا في الحدّ التأم و هو جلدهما مأة و لا يصحّ رفع اليد عن هذا الظهور البالغ بلا دليل [1].

و نظير هذا الحمل في البعد ما أفاده شيخ الطائفة قدّس سرّه في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه- قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام إذا وجد الرجل و المرأة في لحاف واحد. جلد كلّ واحد منهما مأة جلدة «2» من أن الوجه فيه أن نحمله على من أدّبه الإمام و زبره دفعة و دفعتين فعاد إلى مثل ذلك. «3».

و كذا ما ذكره المحدث الحرّ العاملي في رواية الحذّاء- قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إذا وجد الرجل و المرأة في لحاف واحد جلدا مأة جلدة «4»- بقوله: هذا يحتمل الحمل على أنه يجلد كلّ واحد منهما خمسين جلدة لوجود

______________________________

[1] أقول: هذا مضافا إلى عدم جريان هذا الكلام في مثل رواية ابن سنان و رواية أبي عبيدة و ذلك لمكان التصريح بحدّ الزنا و حدّ الزاني فيهما.

______________________________

(1) الخلاف ج 3 كتاب الحدود مسألة 9.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 9.

(3) تهذيب الأحكام ج 10 ص 44 بتفاوت يسير.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 43

التصريحات الكثيرة السابقة و الآتية بأنّه يجلد دون الحدّ.

و كيف كان فما ذكروه في المقام من وجوه الجمع غير تامّ كما أن الجمع بالتخيير بينهما أيضا لا يخلو عن كلام و لم أجد من قال بالتخيير بين الحدّ و التعزير.

و الذي يبدو في النظر أن الروايات هنا من باب العامّ و الخاصّ فيخصّص بعضها

ببعض، و ما دلّ على الحدّ التامّ المصرّح بالمأة بما دلّ على نقصان واحد فيكون نظير قول القائل: أعتق عشر رقبات الّا واحدا في تخصيص العشرة بالواحد، و استثناء الواحد عنها مذكور في كلماتهم.

و لعلّ هذا الوجه أحسن الوجوه و إن لم أعثر على من تعرّض له و ذكره.

و لا يخفى أنه لا يلزم من ذلك، القول بضربهما بخصوص تسعة و تسعين، و ذلك لأنه إذا نقص واحد فمعناه أنه تعزير لا حدّ و يكون هذا العدد هو الحدّ الأعلى منه و أمّا أقلّه فهو الثلاثون و ذلك لرواية سليمان بن هلال.

و بذلك أفتى الشيخ قدّس سرّه قائلًا: و متى وجد رجلان في إزار واحد مجرّدين أو رجل و غلام و قامت عليهما بذلك بيّنة أو أقرّا بفعله ضرب كلّ واحد منهما تعزيزا من ثلاثين سوطا إلى تسعة و تسعين سوطا يحسب ما يراه الإمام فإن عادا إلى ذلك ضربا مثل ذلك فإن عادا أقيم عليهما الحدّ على الكمال مأة جلدة «1».

و أمّا ما ذكره المفيد قدّس سرّه من تعزيرهما عشرا إلى تسعة و تسعين فلعلّ ذكر العشر من باب كلّي التعزير و إلّا فلم يرد به رواية بالخصوص على ما نعلم.

قال: فإن شهد الأربعة على رؤيتهما في إزار واحد مجرّدين من الثياب و لم يشهدوا برؤية الفعال كان على الاثنين الجلد دون الحدّ تعزيرا و تأديبا من عشرة أسواط إلى تسعة و تسعين سوطا بحسب ما يراه الحاكم من عقابهما في الحال و بحسب التهمة لهما و الظنّ بهما السيئات «2».

ثمّ إنّ مقتضى ما ذكرناه من حمل رواية ابن سنان على أكثر مقدار التعزير

______________________________

(1) النهاية ص 705.

(2) المقنعة ص 785.

الدر المنضود في أحكام

الحدود، ج 2، ص: 44

و رواية سليمان على أقلّه أن الحكم في الغايتين و ما بينهما منوط بنظر الإمام.

نعم يبقى الكلام في إنّ مستند الحكم في الطرفين ضعيف. لكن قال في الجواهر:

و ما فيهما من الضعف منجبر بما عرفت.

و مراده من (ما عرفت) هو ما ذكره في صدر المسألة من حكاية الحكم بالجلد من ثلاثين إلى تسعة و تسعين عن الشيخ و ابن إدريس و أكثر المتأخّرين.

و ما ذكره إنّما يتمّ إذا كان الشهرة بين المتأخّرين كافية في جبر ضعف الرواية.

ثم إن تمّ التمسك بهما للانجبار فنقول بتعزيرهما من ثلاثين إلى تسعة و تسعين.

و أمّا لو استشكل في ذلك أو أنه قيل بتعارض الروايات و تساقطها و لم يمكن استفادة الحكم منها و وصلت النوبة إلى التمسك بالأصل فهناك نقول: إنّ التسعة و التسعين معلوم الجواز و الزائد مشكوك فيه فالأصل البراءة من الزائد بل الأصل عدم الجواز هذا من ناحية الأكثر و أمّا من ناحية الأقلّ فحيث أن الجلد من باب التعزير فلا بدّ- من أن يكون أمره موكولا إلى نظر الحاكم إلّا أن مقتضى تصريح بعض الروايات بثلاثين هو عدم الإكتفاء بأقلّ منها فلو جلدا ثلاثين فقد عمل بالتكليف بخلاف الأقلّ فإنّه لا يقطع بذلك لأنه من قبيل الشك في الامتثال مع العلم بالتكليف المقتضي للخروج عنه يقينا.

و بعبارة أخرى إنه من باب الدوران و الترديد بين التعيين و التخيير لأن الثلاثين واجبة إمّا معيّنا أو بعنوان أحد أفراد التخيير إلى الواحد فلو أخذ بالثلاثين فقد أخذ بما هو الواجب مطلقا بخلاف الأقلّ من ذلك.

و إن شئت فقل: إنّ وجوب الأقلّ في ضمن الثلاثين معلوم و بنفسه غير معلوم فيؤخذ بالمعلوم و يترك

غير المعلوم.

و قد تحصّل أن مقتضى الأصول أيضا يتحد و يتوافق مع ما هو نتيجة الاستظهار من الروايات فإنّ الأخذ بالمتيقّن و التمسك بأصالة عدم الامتثال بأقلّ من ثلاثين في ناحية الأقلّ و أصالة عدم جواز الزائد في ناحية الأكثر يوجب القول بتعزيرهما من ثلاثين إلى تسعة و تسعين.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 45

ثمّ إنّه قد تعرّض المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد للطائفتين من الروايات و لوجوه الجمع بينهما و لم يرجّح شيئا بل احتاط و قال: فينبغي العمل بالاحتياط التامّ في الحدود خصوصا القتل لأدرءوا، و بناء الحدّ على التخفيف مهما أمكن.

هذا كلّه بالنسبة إلى أصل الحكم و أمّا بالنسبة إلى القيود فنقول: أمّا التجرّد فقد ذكر ذلك في كلام المحقّق و كذا بعض آخرين. و أمّا الروايات فهي خالية عن ذكره سوى رواية أبي عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السلام- ففيها:- إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان إذا وجد رجلين في لحاف واحد مجرّدين جلدهما. «1».

فإنّه ربّما يستفاد منها بحسب المفهوم أنه لم يكن يجلدهما إذا لم يكونا مجرّدين.

و فيه إنّ دلالتها بالمفهوم أوّلا و مفهوم الفعل ثانيا.

و ربّما يقال: إنّ التعبير بالثوب الواحد في مثل رواية معاوية بن عمّار: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:. الرجلان ينامان في ثوب واحد قال:

يضربان. «2» يفيد أن هذا الثوب الواحد هو الإزار فقط الذي كانا تحته فيكون الحكم متعلقا بما إذا كانا مجرّدين.

و فيه إنّ الثوب الواحد المذكور هنا كاللحاف الواحد المذكور في رواية عبد اللّه بن سنان «3» مثلا و كما أنه يمكن أن يكونا مجرّدين تحت اللحاف و الثوب كذلك يمكن أن يكونا لابسين.

و يمكن أن يقال: إن رواية

أبي خديجة: لا ينبغي لامرأتين تنامان في لحاف واحد إلّا و بينهما حاجز. «4» ربما تدلّ بلحاظ وحدة حكم الرجلين و المرأتين- على اعتبار التجرّد بناء على كون المراد من الحاجز هو الثوب و اللباس.

و أمّا لو كان المراد منه ما يحجزهما عن فعل الحرام فلا دلالة لها على ما نحن

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 15.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 16.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 4.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 25.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 46

بصدده.

نعم إنّ المتيقّن الذي يجري عليه الحكم قطعا هو ما إذا كانا مجرّدين بخلاف ما إذا كان عليهما ثياب و لباس فان وجوب تعزيرهما بل جوازه مشكوك فيه و الأصل هو العدم.

اللهمّ إلّا أن يقال بأن مجرّد نومهما جنبا بجنب يكون حراما فيجب التعزير من باب الإتيان بالمعصية.

و هذا موقوف على أن لا يتردد في كون ذلك معصية كبيرة- أو القول بأن ارتكاب كلّ حرام يوجب التعزير و إن لم يكن كبيرة، و الأمر موكول إلى محلّه.

و قد وجّه بعض اعتبار قيد التجرّد بأنّه يوجب التهمة بخلاف ما إذا لم يكونا مجرّدين فإنّهما ليسا في معرض التهمة.

لكن في الرياض: لا وجه لاعتبار الأخير (أي التجرّد) أصلا حيث يحصل التحريم بالاجتماع الذي هو مناط التعزير من دونه و لعلّه لذا خلا أكثر النصوص من اعتباره و بعض النصوص المعترض له غير صريح في التقييد به لكنّه ظاهر فيه مع صحّة سنده إلخ.

و أمّا التقييد بنفي الرحميّة الذي قد يعبّر

عنه بنفي المحرميّة فهو بظاهره لا معنى له في المقام و لا في بعض نظائره كالمرأتين المضطجعتين تحت إزار واحد.

إذا فلا بدّ من أن يكون المراد من الرحم هو القرابة و مع ذلك فلا وجه لاعتباره و لا أثر له.

و لذا قال في المسالك: و ليس فيها- النصوص- التقييد بعدم المحرميّة بينهما و عدم القيد أجود لأن المحرميّة لا يجوّز الاجتماع للمذكّرين و إن لم تؤكّد التحريم.

ثم قال: و المراد بالرحم حيث يطلق مطلق القرابة و هي أعمّ من المحرميّة التي هي عبارة عن تحريم النكاح مؤبدا و هي تؤيّد عدم فائدة هذا القيد لأن القرابة لا دخل لها في تحقّق هذا الحكم انتهى.

و كذا قال صاحب الرياض قدّس سرّه: إنّ التقييد بنفي الرحميّة و الضرورة لم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 47

يوجد في أكثر روايات المسألة.

ثم استدرك و أتى بخبر سليمان بن هلال الذي فيه: الرجل ينام مع الرجل في لحاف واحد فقال: ذوا محرم؟ فقال: لا إلخ «1».

قال: و فيه إيماء إليه لكنّه مع قصور السند يشكل في الأوّل بأن مطلق الرحم لا يوجب تجويز ذلك فالأولى ترك التقييد به أو التقييد بكون الفعل محرّما إلى آخر كلامه.

أقول: إنّه يحتمل أن يكون الوجه في هذا التقييد هو أنه مع المحرميّة و في مورد الرحم يحصل الاطمئنان بعدم الفساد بخلاف ما إذا لم يكن بينهما قرابة و محرميّة، فالأب و الابن مثلا المجتمعين تحت إزار واحد لا يظن بهما السوء.

و فيه إنّه لو كان الأمر في الأعصار الماضية كذلك ففي عصرنا ليس كذلك كما يظهر ذلك من بعض الاستفتاءات الواردة علينا في زنا الأب بابنته مثلا و قد ورد علينا السؤال

عن ذلك لا مرّة بل مرارا عديدة.

و على الجملة فالظاهر أنه لا فرق بين الموردين بل لعلّه يكون الأمر في المحرم آكد كما في الزناء بذات المحارم.

ثم لو صحّ هذا الوجه لزم أسراؤه إلى غير الأقرباء و المحارم أيضا.

و أمّا التقييد بعدم الضرورة كما في كلام صاحب الرياض [1] فهو صحيح فإنّه قد يوجب الضرورة و الحاجة الشديدة كالبرد الشديد اضطجاعهما تحت إزار واحد و هذا لا يوجب التعزير و ذلك لجريان مثل لا حرج هنا و إن لم يجر في مثل الزنا.

______________________________

[1] أقول قد ذكر هذا القيد في رواية سليمان بن هلال و قد مرّت آنفا و في رواية جابر بن عبد اللّه قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن المكاعمة و المكامعة فالمكاعمة أن يلثم الرجل الرجل و المكامعة أن يضاجعه و لا يكون بينهما ثوب من غير ضرورة، الوسائل ج 14 ب 21 من أبواب النكاح المحرّم ح 4.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 21.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 48

و الظاهر انصراف الروايات عن صورة الضرورة فالأولى ترك التقييد به نعم يحسن التقييد بكون الفعل محرّما فإن كان اضطجاعهما تحت إزار واحد حراما فهناك يعزّران و الّا فلا.

و أمّا الإحصان و عدمه فلا فرق في الحكم من هذه الجهة و لذا لا ذكر له في الأخبار الواردة في الباب.

كما أنه لا فرق من جهة كونها محرمين أو محلّين و إن كان الإحرام يوجب التغليظ لكنّه لا يبلغ الأمر به إلى وجوب الحدّ و لا يبدل التعزير حدّا.

هذا كلّه إذا وقع ذلك مرّة واحدة و أمّا لو تكرر ذلك فله حكم

آخر و هو:

قتلهما في الثالثة بعد تخلّل التعزيرين

قال المحقّق: و لو تكرّر ذلك منهما و تخلّله التعزير حدّا في الثالثة.

أقول: و قد ذهب إليه الشيخ في النهاية و ابن إدريس و ابن البرّاج و ابن سعيد و العلّامة في القواعد و التحرير.

و مستندهم في ذلك فحوى رواية أبي خديجة قال: لا ينبغي لامرأتين تنامان في لحاف واحد إلّا و بينهما حاجز فإن فعلتا نهيتا عن ذلك فإن وجدهما بعد النهي في لحاف واحد جلدتا كلّ واحد منهما حدّا حدّا فإن وجدتا الثالثة في لحاف حدّتا فان وجدتا الرابعة قتلتا [1].

لكن فيها الإشكال من وجوه و إنّها لا تنطبق على مدّعاهم كاملا فإنّها مع ورودها في المرأتين تدلّ على أن اللازم تكرار العمل أربع مرّات و ليس في المرّة الأولى سوى النهي لا غير.

اللّهمّ الّا أن يحمل ذلك على صورة جهلهما بالحرمة فإنّه يصحّ حينئذ عدم

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 25، و في الكافي ج 7 ص 202 نقلها عن أبي خديجة عن أبي عبد اللّه. فإن وجدتا الثالثة قتلتا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 49

ترتّب شي ء عليه سوى النهي.

و يشكل الأمر في المرّة التي وقعت بعد النهي حيث إن الرواية تقول: جلدتا كلّ واحد منهما حدّا حدّا، و ظاهر ذلك هو الحدّ التام لا التعزير كما أنه يرد هذا الإشكال بعينه بالنسبة إلى المرة الثالثة، لمكان التعبير بالحدّ الظاهر في الحدّ الكامل لا التعزير و أين هذا مما يقوله هؤلاء من أن الواجب عقيب الأولى هو التعزير و هكذا عقيب المرّة الثانية ثم لو تكرّر ثالثة فهناك القتل، و الحكم بالحدّ عقيب المرّة الأولى و الثانية غير معمول به

كما أن إرادة صورة العلم و العمد من قوله: فإن فعلتا نهيتا عن ذلك أيضا غير صحيح و لم يقولوا به [1].

نعم يمكن التمسك في المقام بالدليل الكلي الساري في جميع الكبائر من أنه يعزّر المرتكب أوّلا و ثانيا و ثالثا ثم يقتل في الرابعة.

تعزير من قبّل غلاما بشهوة

قال المحقّق: و كذا يعزّر من قبّل غلاما ليس له بمحرم بشهوة.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 49

أقول: إنّ كلامه هذا بظاهره محلّ الإشكال و ذلك لإفادته عدم وجوب تعزير من قبّل غلاما بشهوة و هو محرم له أي كان من أرحامه و ذوي قرابته.

و لكن من المسلّم المقطوع به عدم كون ذلك مرادا له بل المقصود بيان ما يمكن أن يتحقّق في الخارج غالبا فإنّ التقبيل بالشهوة لا يتّفق بالنسبة إلى المحرم الّا نادرا، و المتجرّي على اللّه العاصي له لا يقبّل بالشهوة الغلام الذي كان من أقربائه و أبناء بيته و إنّما يقبّل الأباعد و من ليس بينه و بينه رحم و قرابة و على الجملة فالقيد وارد مورد الغالب و لا مفهوم له كما في قوله تعالى وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «1».

______________________________

[1] أقول: هذا مضافا إلى أخصيّة الدليل بالنسبة إلى المدّعى كما في الرياض.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 23.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 50

كما أن التشبيه المستفاد من قوله،: (و كذا.) لا يراد منه التشبيه في كون التعزير. من ثلاثين إلى تسعة و تسعين المذكور آنفا و إنّما المراد التشبيه في أصل التعزير في قبال الحدّ و ذلك لأن التحديد المزبور

مختصّ بالمسألة السابقة لاختصاص الدليل بها فيؤخذ في غيرها بما هو مقتضى القاعدة الجارية في التعزيرات.

و على هذا فيكون أمر المقبّل موكولا إلى نظر الحاكم فيعزّره على حسب ما يراه من الواحد إلى ما دون الحدّ.

و في الرياض و الجواهر: بلا خلاف أجده فيه، أي في تعزيره و ذلك لأنه فعل محرّما فيستحقّ فاعله التعزير كما في غيره من المحرّمات بلا فرق بين المحرم و غيره أي الأجنبي و ذلك لإطلاق الدليل. بل لعلّ الأمر في المحرم آكد و الفحش و الشناعة أشدّ.

و لا يخفى أن عبارة الجواهر في المقام غير صحيحة فإنّه قال: لا فرق بين المحرم و غيره في ذلك بل لعلّه في الأخير آكد انتهى.

و الحال أن الأخير هو غير المحرم أي الأجنبي و من المعلوم أن الحرمة ليست في تقبيل الأجنبي بآكد و إنما الأمر بالعكس.

ثم إنّ المحقق و إن عبّر بالغلام، و هو ظاهر في غير البالغ إلا أن الظاهر عدم الفرق في ذلك بين الصغير و الكبير بل و لا بين المذكّر و المؤنّث كلّ ذلك لوحدة الملاك و عموم المناط و هو تحقّق التقبيل المحرّم.

ثم إنّه تدلّ على حرمته الأخبار الشريفة:

فمنها ما رواه طلحة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قبّل غلاما بشهوة ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من نار «1».

و منها ما عن فقه الرضا عليه السلام: و إذا قبّل الرجل غلاما بشهوة لعنته ملائكة السماء و ملائكة الأرض و ملائكة الرحمة و ملائكة الغضب و أعدّ له

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 257 ب 21 من أبواب النكاح المحرّم ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود،

ج 2، ص: 51

جهنّم و ساءت مصيرا [1] إلى غير ذلك من الروايات.

و على الجملة فهو من المحرّمات الأكيدة فيجب تعزير فاعله و المرتكب له على حسب ما يراه الحاكم.

نعم هنا رواية تنافي بظاهرها ذلك و هي: عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: محرم قبّل غلاما من شهوة قال: يضرب مأة سوط «1».

فإنّها تدلّ بظاهرها على وجوب الحدّ على من ارتكب هذا الحرام.

لكنّ الظاهر أن الزيادة على التعزير للتغليظ لمكان الإحرام كما صرّح بذلك الأصحاب عموما و ابن إدريس في السرائر في خصوص المقام.

و قد ذكر ذلك صاحب الرياض قدّس سرّه و استحسنه لو لا أن المشهور اشتراط عدم بلوغ التعزير الحدّ و لذا إن الحلّي لم يصرّح في مورد الخبر بأكثر من التغليظ انتهى كلامه [2].

و أورد عليه صاحب الجواهر بقوله: و فيه منع ذلك مع فرض اجتماع جهات التعزير كما هو واضح.

و الفرض أن التعزير من حيث هو و في حدّ ذاته مشروط بعدم بلوغ الحدّ و ذلك لا ينافي أن يقرنه التغليظ لجهة كالإحرام و بلغ بذلك الحدّ و لا يلزم منه أن

______________________________

[1] مستدرك الوسائل ج 14 ص 351 ب 18 من أبواب النكاح المحرّم ح 3 أقول: و في نفس الموضع أيضا: و في خبر آخر: من قبّل غلاما بشهوة ألجمه اللّه بلجام من النار. و أيضا: عن عوالي اللئالي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قبّل غلاما بشهوة عذّبه اللّه ألف عام في النار.

[2] و إليك عبارته في السرائر ج 3 ص 461: و من قبّل غلاما ليس بمحرم له على جهة الالتذاذ و الشهوة و ميل النفس وجب عليه التعزير،

فإن فعل ذلك و هو محرم بحجّ أو عمرة غلّظ عليه تأديبه كي ينزجر عن مثله في مستقبل الأحوال انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 258 ح 3، الكافي ج 7 ص 200 ح 9، التهذيب ج 10 ص 57.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 52

يتبدّل التعزير حدّا.

ثم إنّه قد وقع في عبارة الجواهر هنا أيضا تصحيف حيث إنّه حكى عبارة الرياض هكذا: (لو لا أن المشهور عدم اشتراط بلوغ التعزير الحدّ) و من المعلوم أن هذا خلاف المقصود و الواقع، فإنّ المشهور هو اشتراط العدم لا عدم الاشتراط.

و يحتمل كون النسخة الموجودة عنده من الرياض مشتملة على العبارة بالنحو الذي حكاه، و كيف كان فهو غير صحيح، و الصحيح ما ذكرناه.

الكلام في توبة اللائط

قال المحقّق: و إذا تاب اللائط قبل قيام البيّنة سقط الحدّ و لو تاب بعده لم يسقط و لو كان مقرّا كان الإمام مخيّرا في العفو و الاستيفاء.

أقول: الحكم هنا كما في باب الزنا و قد تقدّم أنه قال المحقّق هناك: و من تاب قبل قيام البيّنة سقط عنه الحدّ و لو تاب بعد قيامها لم يسقط حدّا كان أو رجما انتهى.

كما و أنه قال هناك أيضا: و لو أقرّ بحدّ ثمّ تاب كان الإمام مخيّرا في إقامته رجما كان أو جلدا انتهى.

و قد تقدّمت أيضا الأخبار التي تدلّ على التفصيل بين ثبوت الحدّ بالبيّنة أو الإقرار و التفصيل في البيّنة بين ما إذا تاب قبلها أو بعدها فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 53

حدّ السحق

اشارة

قال المحقّق: و الحدّ في السحق مأة جلدة حرّة كانت أو أمة مسلمة أو كافرة محصنة أو غير محصنة للفاعلة و المفعولة و قال في النهاية: ترجم مع الإحصان و تحدّ مع عدمه و الأوّل أولى.

أقول: الكلام أوّلا في تفسير السحق ثم في حكمه أمّا الأوّل فقد فسّر بأنه وطئ المرأة مثلها، و في النصوص اللواتي مع اللواتي، و النساء بالنساء كما سيأتي ذلك و من المعلوم أنه لا يراد بالوطى ء معناه المعهود بل المراد أن تسحق المرأة عورتها بعورة الأخرى كما أفيد كذلك في خبر هشام الصيدناني أنه سأله رجل عن هذه الآية: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحٰابُ الرَّسِّ «1» فقال بيده هكذا فمسح إحداهما بالأخرى فقال: هنّ اللواتي باللواتي يعني النساء بالنساء «2».

و لا خلاف في حرمته و لا إشكال فيها [1].

______________________________

[1] أقول: يدلّ على حرمته الّا جماع و الآية الكريمة فَمَنِ ابْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ

فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ، سورة المؤمنون- 7، و الأخبار الكثيرة. مثل رواية إسحاق بن جرير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في جواب سؤال امرأة عن ذلك: إذا كان يوم القيامة يؤتى بهنّ- اللواتي باللواتي- قد ألبسن مقطّعات من نار و قنّعن بمقانع من نار و سرولن من نار و أدخل في أجوافهن إلى رءوسهنّ أعمدة من النار و قذف بهنّ في النّار، أيّتها المرأة إنّ أوّل من عمل هذا العمل قوم لوط فاستغنى الرجال بالرجال فبقي النساء بغير رجال ففعلن كما فعلن رجالهن الوسائل- 14 ب 24 من النكاح المحرّم ح 3.

______________________________

(1) سورة ق الآية 12.

(2) وسائل الشيعة ج 14 ص 261 ب 24 من أبواب حدّ النكاح المحرّم ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 54

و إنّما البحث في حدّ ذلك و قد اختلفت الأقوال و الروايات فيه فذهب المحقّق إلى وجوب الجلد مطلقا أي مع الإحصان و عدمه حرة كانت أو أمة مسلمة كانت أو كافرة فاعلة كانت أو مفعولة، وفاقا للأكثر كما في كشف اللثام و الجواهر بل المشهور كما في الرياض، و قال في المسالك هو المشهور بين الأصحاب ذهب إليه المفيد و المرتضى و أبو الصلاح و ابن إدريس و المتأخّرون.

بل السيّد نسب ذلك إلى الإمامية قائلًا: ممّا انفردت به الإمامية القول بأن البيّنة إذا قامت على امرأتين بالسحق جلدت كلّ واحدة منهما مأة جلدة مع فقد الإحصان و وجوده انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و خالف في ذلك شيخ الطائفة قدّس سرّه ففصّل بين المحصنة و غيرها، قال:

______________________________

و عن بشير النبّال قال: رأيت عند أبي عبد اللّه عليه السلام رجلا فقال له: ما تقول في اللواتي مع اللواتي

فقال: لا أخبرك حتّى تحلف لتحدثنّ بما أحدّثك النساء، قال: فحلف له، فقال: هما في النار عليهما سبعون حلّة من نار فوق تلك الحلل جلد جاف غليظ من نار عليهما نطاقان من نار و تاجان من نار فوق تلك الحلل و خفّان من نار و هما في النار، المصدر ح 4.

و عن يعقوب بن جعفر قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام أو أبا إبراهيم عليه السلام عن المرأة تساحق المرأة و كان متّكئا فجلس و قال: ملعونة ملعونة الراكبة و المركوبة و ملعونة حتّى تخرج من أثوابها فإنّ اللّه و ملائكته و أولياؤه يلعنونها و أنا و من بقي في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فهو و اللّه الزنا الأكبر و لا و اللّه ما لهنّ توبة قاتل اللّه لا قيس بنت إبليس ماذا جاءت به فقال الرجل: هذا ما جاء به أهل العراق، فقال: و اللّه لقد كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يكون العراق و فيهنّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لعن اللّه المتشبّهات بالرجال من النساء و لعن اللّه المتشبهين من الرجال بالنساء. المصدر ح 5.

و عن أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المتشبّهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال و هم المخنّثون و اللّاتي ينكحن بعضهنّ بعضا. المصدر ح 6.

و روى الصدوق. مثله و زاد: و إنّما أهلك اللّه قوم لوط لما عمل النساء مثل ما عمل الرجال يأتي بعضهم بعضا المصدر ح 7.

______________________________

(1) الانتصار ص 253.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 55

إذا ساحقت المرأة

أخرى و قامت عليهما البيّنة بذلك وجب على كلّ واحدة منهما الحدّ مأة جلدة إن لم تكونا محصنتين فإن كانتا محصنتين كان على كلّ واحدة منهما الرجم «1».

و في قبالهما قول آخر حكاه الشهيد الثاني في مسألة ما لو وطئ زوجته فساحقت بكرا فحملت البكر أنّهما تحدّان حدّ السحق،: و قيل ترجم الموطوئة استنادا إلى رواية ضعيفة السند مخالفة لما دلّ على عدم رجم المساحقة مطلقا من الأخبار الصحيحة انتهى «2».

هذا بالنسبة إلى الأقوال و أمّا الأخبار فهي على ثلاث طوائف:

إحداها ما يدلّ على جلدهما مأة.

ثانيتها ما يدلّ على التفصيل بين المحصنة و غيرها فترجمان مع الإحصان و تجلدان مع عدمه فيكون حدّه حدّ الزنا.

ثالثتها ما يدلّ على أنّهما تقتلان أو تحرقان فيكون كاللواط.

و كيف كان فقد استدلّ على القول الأوّل بروايات.

منها موثّق أبان بن عثمان عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

السحّاقة تجلد «3».

و ذلك لأنّ ظاهر الجلد هو الحدّ التامّ أي الضرب مأة كما أن إطلاقه يقتضي عدم الفرق بين الموارد كالمحصنة و غيرها و الحرة و الأمة.

و منها مرسل دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام إنّه قال: السحق في النساء كاللواط في الرجال و لكن فيه جلد مأة لأنه ليس فيه إيلاج «4».

و هذه صريحة في الحدّ أي ضرب المائة و تزيد التعليل في جلد المائة بعدم إيلاج فيه.

______________________________

(1) النهاية ص 706.

(2) الروضة البهيّة ج 2 ص 343.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 425 ب 1 من حدّ السحق ح 2.

(4) مستدرك الوسائل ج 18 ص 86 ب 1 من أبواب حدّ السحق ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 56

بل ظاهر كلام الشهيد الثاني فيما نقلناه عنه

دلالة أخبار صحيحة على عدم الرجم في السحق، و إن كان ذلك محلّ الإشكال كما أنه قد أورد عليه في الجواهر بقوله: و إن كان فيه ما فيه.

و استدلّ للثاني أي الشيخ في النهاية أيضا بروايات:

منها الحسن بل الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهنّ عن السحق فقال: حدّها حدّ الزاني فقالت المرأة: ما ذكر اللّه ذلك في القرآن، فقال: بلى، قالت: و أين هنّ؟ قال: هنّ أصحاب الرّسّ «1».

فإنّ ظاهر قوله عليه السلام: حدّها حدّ الزاني هو الرجم في مورد الإحصان فكما أن حدّ الزنا هو التفصيل بين المحصن و غيره كذلك في حدّ السحق يفصّل بينهما.

و أمّا ما قد يقال من أن حدّه حدّ الزنا أي في الجلد دون الرجم.

ففيه أنه بعيد جدّا و خلاف ما هو الظاهر من التشبيه و التنزيل.

ثم إنّ المراد من قولها: ما ذكر اللّه ذلك في القرآن هو السحق نفسه لا حدّه و إن كان السؤال عقيب ذكر الحدّ.

و ذلك لأنه عليه السلام أجابها بأنهنّ أصحاب الرّس، و هي قد رضيت بذلك الجواب و من المعلوم أنه ليس في القرآن الكريم ذكر عن حدّ السحق فهذا الجواب مع سكوتها و سكوت غيرها من النسوة بعد ذلك يدلّ على أن المقصود من السؤال هو مجرّد ذكر السحق.

قال في المسالك: و قد روي أن ذلك الفعل كان في أصحاب الرسّ كما كان اللواط في أصحاب لوط.

و منها رواية إسحاق بن جرير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث: إنّ امرأة قالت له: أخبرني عن اللواتي باللّواتي ما حدهنّ فيه؟ قال: حدّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ السحق

ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 57

الزنا. «1».

و منها الأحاديث المتعدّدة الواردة في امرأة وطأها زوجها فنقلت الماء بالسحق إلى جارية بكر فحملت و إليك هذا الخبر:.

عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليهما السلام قولان: بينما الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين عليه السلام إذ أقبل قوم فقالوا: يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين. قال: و ما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأله عن مسألة قال: و ما هي تخبرونا بها؟ قالوا: امرأة جامعها زوجها فلمّا قام عنها قامت بحموتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها فوقعت النطفة فيها فحملت فما تقول في هذا؟ فقال الحسن: معضلة و أبو الحسن لها و أقول: فإن أصبت فمن اللّه و من أمير المؤمنين و إن خطأت فمن نفسي فأرجو أن لا أخطئ إن شاء اللّه: يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أوّل وهلة لأن الولد لا يخرج منها حتّى تشقّ فتذهب عذرتها ثم ترجم المرأة لأنّها محصنة و ينظر بالجارية حتّى تضع ما في بطنها و يردّ الولد إلى أبيه صاحب النطفة ثم تجلد الجارية الحدّ. قال: فانصرف القوم من عند الحسن عليه السلام فلقوا أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ما قلتم لأبي محمّد و ما قال لكم؟ فأخبروه فقال: لو أنّني المسئول ما كان عندي فيها أكثر ممّا قال ابني «2».

و لا إشكال في ظهور هذه الأخبار في أن حدّ السحق هو حدّ الزنا جلدا و رجما فترى أنه عليه السلام حكم في مورد المرأة الّتي جامعها زوجها بالرجم و علّل بأنها محصنة و قابل ذلك في مورد الجارية بحكمه بجلدها الحدّ.

و التحقيق أن أخبار

الجلد ظاهرة في إقامة الجلد دون حدّ الزنا و ليست صريحة في ذلك نعم ما رواه في دعائم الإسلام كان صريحا لكنّه كما عرفت كان ضعيف السند مرسلا، في حين أن الأخبار الدالة على أن حدّه حدّ الزنا صريحة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 261 ب 24 من أبواب النكاح المحرّم ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ السحق ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 58

في ذلك فيمكن الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد و القول بأن أخبار الجلد متعلّقة بما إذا لم تكن محصنة.

و حيث إنّ هناك أخبار تدلّ على رجم المساحقة أو إحراقها أو قتلها فنقول:

إنّها تحمل على ما إذا كانت محصنة و إليك هذه الأخبار.

في الاحتجاج عن سعد بن عبد اللّه عن صاحب الزمان عليه السلام قال:

قلت له: أخبرني عن الفاحشة المبيّنة التي إذا أتت المرأة بها في أيّام عدّتها حلّ للزوج أن يخرجها من بيته؟ قال عليه السلام: الفاحشة المبيّنة هي السحق دون الزنا فإنّ المرأة إذا زنت و أقيم عليها الحدّ ليس لمن أرادها أن يمتنع بعد ذلك من التزويج بها لأجل الحدّ و إذا سحقت وجب عليها الرجم، و الرجم خزي و من قد أمر اللّه عز و جلّ برجمه فقد أخزاه و من أخزاه فقد أبعده و من أبعده فليس لأحد أن يقربه، الحديث «1».

و عن بنان بن محمّد عن العبّاس غلام لأبي الحسن الرضا عليه السلام يعرف بغلام ابن شراعة عن الحسن بن الربيع عن سيف التّمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث، قال: أتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأتين وجدتا في لحاف واحد و قامت عليهما

البيّنة أنّهما كانتا تتساحقان فدعا بالنطع ثم أمر بها فأحرقتا بالنار «2».

و في رواية الطبرسي في مكارم الأخلاق عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

السحق في النساء بمنزلة اللواط في الرجال، فمن فعل ذلك شيئا فاقتلوهما ثم اقتلوهما «3».

فإنّ الأولى تدلّ على الرجم و الثانية على الإحراق و الثالثة على وجوب القتل فتحمل على أنّها كانت محصنة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 15 ص 440 ب 23 من أبواب العدد ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ السحق ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ السحق ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 59

لكن الإنصاف أن عدم وحدة لسان هذه الأخبار، و هذا الاختلاف الفاحش المستفاد منها في مورد المساحقة المحصنة- على فرض حملها على ذلك- يوجب الإشكال و الإبهام في الاستفادة من الروايات.

و لذا ترى أن صاحب الجواهر استراح بالأخذ بروايات الجلد للشهرة و غير ذلك فإنّه بعد الخدشة في دلالة الصحيح و في سند الصريح- حيث احتمل في الصحيح الدّال على أن حدّه الزنا، إرادة المماثلة في الجلد، و الإيراد على رواية الاحتجاج و كذا رواية سيف التّمار بقصور السند و عدم الجابر- لجأ إلى القول الأوّل.

قال بعد ذكر روايتي الاحتجاج و سيف: إلّا أنّهما مع قصور سندهما و لا جابر و اشتمال الأوّل (رواية الاحتجاج) على ما لا يقول به الأصحاب من تفسير الفاحشة بذلك كالإحراق بالنار في الثاني- قاصران عن المقاومة لما عرفت.

أقول: مراده (بقوله: ما عرفت) هو ما أفاده في صدر البحث من أن الجلد مأة موافق للأكثر أو المشهور أو كونه إجماعيّا فراجع.

ثم قال: و من ذلك كلّه بأن ذلك

أن الأوّل أولى و أحوط خصوصا بعد درء الحدّ بالشبهة انتهى.

و الظاهر أن الأمر كذلك لو كانت الشهرة محقّقة و بالغة الحدّ المعتبر لجبر الضعف.

و أمّا كونه أحوط فلعلّه لا يخلو عن كلام و ذلك لعدم جريان الاحتياط في الدوران بين المتباينين [1] و الحاصل أن البحث يقتضي مزيد التأمّل.

ثم إنّ مقتضى الإطلاق كما أفتى و صرّح به المحقّق هو أنّه لا فرق بين الحرة

______________________________

[1] أقول: الظاهر أنه من باب الأقل و الأكثر لا المتباينين كما قد عرفت أنه رحمه اللّه قد أفتى من قبل بأن الأشبه أن المحصن يجلد و يرجم.

ثمّ إنّه دام ظله لم يزد على قاعدة الدرء شيئا و الظاهر أنه اختار القول الأوّل. أعني وجوب الجلد مطلقا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 60

و الأمة و إن كان حدّها في غير المقام هو النصف على ما يدلّ عليه قوله تعالى:

فَإِذٰا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ «1».

لكن الظاهر عدم الفرق بين المقام و غيره و ذلك لأن النسبة بين هذه الآية الكريمة الناطقة بالتنصيف و الرواية الدّالّة على أن حدّ السحق هو المائة، العموم من وجه فإنّه لا نزاع في الحرّة السحّاقة لأنّه يجب عليها الحدّ التمام كما لا نزاع في الأمة الزانية فإنّه ينتصف حدّها و إنّما النزاع في الأمة السحاقة حيث إنّ مقتضى الآية نصف الحدّ و مقتضى الخبر تمامه.

و هنا قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: و الترجيح لما هنا لما عرفت، انتهى و مراده من: (ما عرفت) هو كون عمل المشهور على الإطلاق و عدم الفرق بين الحرّة و الأمة.

و فيه إنّه و إن كان يجبر السند بالشهرة إلّا أن الدلالة

لا تتمّ، مع أن دلالة الآية على تنصيف الحدّ في الأمة لا غبار عليها.

إلّا أن يستشكل في شمول الفاحشة للسحق.

و هو في غير موضعه فإن في بعض الروايات تطبيق الفاحشة على السحق كما مرّ في خبر الاحتجاج.

و على الجملة فتقديم إطلاق المائة مشكل و ذلك لأن لسان دليل التنصيف بالنسبة إلى أدلّة الحدّ لسان الحكومة فيقدم الحاكم و إن كانت النسبة العموم من وجه.

هذا مضافا إلى أن إجراء الحدّ الكامل في مورد الأمة خلاف الاحتياط، و المقام من قبيل الأقل و الأكثر و عند الشك يرتفع الزائد بالأصل كما أن قاعدة درء الحدود بالشبهات أيضا تقتضي ذلك و الحاصل أنا لا نقول بعدم الفرق من هذه الجهة نعم لا فرق بين المسلمة و الكافرة و الفاعلة و المفعولة.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 25.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 61

حكم تكرار المساحقة

قال المحقّق: و إذا تكرّرت المساحقة مع إقامة الحدّ ثلاثا قتلت في الرابعة.

أقول: و حيث إنّ هذه المسألة من مصاديق من أتى بكبيرة مكرّرا و حدّ بعد كلّ مرّة يقتل في الرابعة أو الثالثة على الاختلاف المتقدّم فلذا أضاف صاحب الجواهر بعد عبارة المحقّق المذكورة- قوله: أو الثالثة على القولين السابقين.

و ظاهر ذلك عدم خصوصيّة للمقام بل إنّ حكمة هو الحكم الجاري في ارتكاب الكبائر.

لكن قال الشهيد في اللمعة: و تقتل في الرابعة لو تكرّر الحدّ ثلاثا انتهى.

مع أنه قدّس سرّه قال في مورد الزنا و اللواط- غير الموجب للقتل ابتداء- بالقتل في الثالثة.

و قال الشهيد الثاني بشرح العبارة: و ظاهرهم هنا عدم الخلاف و إن حكمنا بقتل الزاني و اللائط في الثالثة كما اتّفق في عبارة المصنف انتهى.

إلّا أنه محل الإشكال كما و أن

صاحب الجواهر أورد عليه بقوله: و إن كان لا يخفى عليك ما فيه إلخ.

و ذلك لأنه مخالف لما هو الظاهر من كلام غير واحد بل صريح آخرين من أن المسألة كنظائرها المتقدم ذكرها بل مخالف لما قاله الشهيد الثاني بنفسه في المسالك حيث قال: تقتل في الثالثة أو الرابعة مع تخلل الحدّ كما تقدّم في نظائره من الكبائر إلخ.

و على الجملة فلا دليل في مقامنا بخصوصه فلذا يجري فيه ما جرى في غيره من الكبائر، و الدليل في المقامين واحد.

و إن كان أمر الشهيد الثاني و إفتائه في كتاب منه بخلاف ما أفتى به في كتابه الآخر يوجب الشبهة خصوصا و إنّه قد بالغ في الروضة في استظهار عدم الخلاف في كون الملاك هو الرابعة حتّى و إن قيل في الزنا و اللواط بالثالثة.

و يمكن أن يقال: إذا كان تأليفه للروضة متأخّرا عن المسالك- كما قد يقال

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 62

ذلك- فلعلّه وقف بعد تأليف المسالك على إجماع أو دليل آخر على ما أفاده في الروضة.

و كيف كان فمقتضى الرواية الواردة في أهل الكبائر هو القتل في الثالثة إلّا أن القتل في الرابعة هو الأحوط، و ادّعاء عدم الخلاف في القتل هنا في الرابعة يوجب الشبهة، و الاحتياط يقتضي تأخير ذلك عن الثالثة إلى الرابعة فإنّ الحدود تدرء بالشبهات.

و حينئذ فيمكن الترديد في الحكم في المرحلة الثالثة بأن يقال: إذا لم يجز القتل فهل يجب الجلد أم لا؟

و لكن الظاهر قيام الإجماع على عدم الخلو منهما رأسا فإذا لم يجب القتل في الثالثة فلا محالة يجب الجلد [1].

سقوط الحدّ بالتوبة و عدمه

قال المحقّق: و يسقط الحد بالتوبة قبل البيّنة و لا يسقط بعدها

و مع الإقرار و التوبة يكون الإمام مخيّرا.

أقول: إذا ثبت السحق بالبيّنة لا بالإقرار و فرض وقوع التوبة منها فإن كانت قبل ثبوته بالبيّنة يسقط الحدّ و إن كانت بعد ذلك فلا يسقط.

كما أنه رحمه اللّه قال في المختصر النافع: و يسقط الحدّ بالتوبة قبل ثبوته كاللواط و لا يسقط بعد البيّنة.

و في الرياض: و يجب على الإمام إجراؤه إن ثبت بالثاني- البيّنة- و ليس له العفو عنه فيه و يتخيّر بين الأمرين إذا ثبت بالأوّل- الإقرار- بعين ما مرّ في الزنا لاشتراك الجميع في هذه الأحكام و أمثالها كما يستفاد من ظاهر الأصحاب من

______________________________

[1] أقول: الظاهر أنه لا مجال للترديد المذكور أصلا بعد أن القتل في الرابعة مشروط بالجلد في المرّات السابقة و قد ذكرت هذا في مجلس الدرس أيضا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 63

غير أن يعرف بينهم في ذلك خلاف و به صرّح في الغنية مدّعيا عليه الإجماع انتهى.

هنا مسائل:

أحدها أنه يسقط الحدّ بالتوبة قبل البيّنة.

و قد استدلّ على ذلك بمرسل جميل بن درّاج عن أحدهما عليهما السلام في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى فلم يعلم بذلك منه و لم يؤخذ حتّى تاب و صلح فقال: إذا صلح و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ قال ابن أبي عمير:

قلت: فإن كان امرءا غريبا لم تقم؟ قال: لو كان خمسة أشهر أو أقلّ و قد ظهر منه أمر جميل لم تقم عليه الحدود «1».

و هو و إن كان ضعيفا إلّا أنه منجبر بعمل الأصحاب فقد ادّعى صاحب الجواهر في باب الزنا عدم خلاف يجده، و ادّعى كاشف اللثام هناك الاتّفاق عليه- مضافا إلى أن المرسل هو جميل الذي مراسيله في حكم المسانيد.

و

قد استفادوا من قوله: (حتّى تاب) أنه تاب قبل قيام البيّنة و إلّا فلا ربط له بمسئلتنا.

و لم يكن في هذا الرواية ذكر عن السحق لكنّهم استفادوا من ذكر السرقة و شرب الخمر و الزنا أنّها مذكورة من باب أحد مصاديق ما يوجب الحدّ و لذا اكتفوا عن البحث في المسألة بما مرّ.

و مثلها رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل أقيمت عليه البيّنة بأنه زنى ثمّ هرب قبل أن يضرب قال: إن تاب فما عليه شي ء و إن وقع في يد الإمام أقام عليه الحدّ و إن علم مكانه بعث إليه «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدّمات الحدود ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 64

و رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: السارق إذا جاء من قبل نفسه تائبا إلى اللّه تردّ سرقته على صاحبها و لا قطع عليه «1».

و على الجملة فيأتي الحكم في مطلق الموجب، لاتّحاد المناط ثم إنّ الظاهر أنه لا حدّ عليها من رأس لا أنه يثبت عليها ثم يعفى عنها.

ثانيها، أنه لو حضرت الشهود لإقامة الشهادة

و قبل إقامتها تابت و أبدت توبتها هناك فهل يسقط الحدّ عنها أم لا؟ و هكذا في كل مجرم كذلك؟.

الظاهر سقوط الحدّ عنها و ذلك لصدق التوبة قبل إقامة البيّنة و ما ورد في سرقة رداء صفوان بن أميّة و أنه لما حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقطع يد السارق قال الرجل: تقطع يده لأجل ردائي قال: نعم قال: فإنّي أهبه له فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله فهلّا كان هذا قبل أن ترفعه إليّ. «2» فقد يتوهم أن مفهومه أنه بعد الرفع إلى الحاكم فلا يفيد العفو.

و فيه أن الظاهر أن المراد الرفع مع الحكم كما أن المورد كان كذلك.

ثالثها: أنه إذا ادّعت بعد قيام البيّنة أنّها قد تابت قبلها

و بعد ارتكاب المعصية فهل يقبل منها أم لا؟ و لا بدّ من أن يفرض إقامة البيّنة عن غيابها فتدّعي التوبة قبلها من عند نفسها.

الظاهر أنه يقبل ذلك منها بلا بيّنة و لا يمين و ذلك لأن التوبة ربما تكون من الأمور الّتي لا يعلم بها إلّا من قبل شخص التائب فيقبل قولها فيها و يردّ الحدّ بذلك و إن كان الشهود قد شهدوا بمعصيتها الموجبة للحدّ [1].

هذا مضافا الى قاعدة درء الحدود بالشبهات.

______________________________

[1] أقول: قد قرأت في كتاب أن المرحوم آقا نجفي الأصفهاني قدّس سرّه قد أتي عنده بمن شهدوا عليه بما يوجب الحدّ فقال هو: إنّي قد قرأت في الليلة الماضية دعاء الكميل، فأطلقه آقا نجفي و لم يقم عليه الحدّ و اكتفى بما في الدعاء من طلب التوبة و الإنابة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 65

و قد قال في كشف اللثام: و لو تابت قبل البيّنة سقط عنها الحدّ و كذا لو ادّعت التوبة قبلها.

رابعها: أنه لو تابت بعد قيام البيّنة

فإنّه لا يسقط الحدّ عنها.

و قد استدلّ على ذلك بأمور:

منها خبر أبي بصير حيث دلّ على وجوب القتل إذا وقع في يد الإمام و وجوب ردّه إن عرف مكانه.

نعم قد يستشكل فيه من جهة دلالة صدره على أنه إذا تاب بعد البيّنة فليس عليه شي ء.

لكنهم حملوه على أن قول الإمام عليه السلام: إن تاب فما عليه شي ء، يعني تاب قبل قيام البيّنة و إن كان مورد السؤال هو أنه قد هرب بعد أن أقيمت عليه البيّنة.

و يمكن أن يقال في توجيه

ذلك بأنه كان قد تاب بينه و بين اللّه سبحانه الّا أن الشهود لم يعلموا ذلك و لذا أقدموا على إقامة الشهادة و لما رأى أنه لا يتمكن من إثبات توبته من قبل هرب و في الفرض لا شي ء عليه بنفسه فليس يجب عليه الحضور لإجراء الحدّ عليه و إنّما الحاكم موظّف بإقامة الحدّ عليه إذا وقع هو في يده بل يبعث إليه إن علم بمكانه.

و منها رواية الحلبي «1» الواردة في سرقة رداء صفوان المذكورة آنفا فإنّها صريحة في أنه لا دافع للحدّ بعد الرفع و إثبات الجرم عند الحاكم فراجع.

و منها استصحاب بقاء وجوب الحدّ ما لم يدلّ دليل على سقوطه.

و دعوى عدم ثبوت الحدّ في الذمّة بمجرّد قيام البيّنة ليستصحب فقد ردّ عليه في الجواهر و استضعفه معلّلا بقوله: ضرورة دلالة النص و الفتوى على تعلّقه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 66

بالبدن بقيام البيّنة و أقصى القائل السقوط بالتوبة «1».

و نقول: لا يعتبر في الاستصحاب تعلّقه بالذّمة بل يستصحب أصل وجوب الحدّ على الحاكم نظير سائر الواجبات.

هذا كلّه فيما إذا تابت مع ثبوت العمل بالبيّنة و أمّا إذا تابت مع ثبوت ذلك بالإقرار فهنا أيضا صور و مسائل.

أحدها: توبتها قبل الإقرار، و الظاهر عدم خلاف في أن ذلك يسقط الحدّ كما في باب الزنا.

و يمكن التمسّك له بذيل رواية أبي العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السلام (في رجل أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أقرّ أربع مرّات بالزنا فأمر صلوات اللّه عليه برجمه فرجم): لو استتر ثمّ تاب كان خيرا له «2».

ثانيها:

توبتها مع الإقرار و هناك يتخيّر الإمام في إجراء الحدّ و العفو عنها و قد صرّح بذلك في الشرائع.

و قال صاحب الجواهر في شرح العبارة: على حسب ما سمعته في الزناء و اللواط إذ هي مثلهما في ذلك و أولى.

بيان الأولويّة أنه إذا كان الإمام مخيّرا بينهما في مورد الزنا و اللواط عند ما ثبت ذلك بالإقرار مع كون هاتين المعصيتين في غاية الأهميّة و العظمة فهو أولى بأن يكون مخيّرا بينهما في مورد السحق إذا ثبت ذلك بالإقرار حيث أنه ليس مثلهما و بمثابتهما- في حين كونه معصية كبيرة.

و يدلّ على جواز عفو الحاكم حينئذ الخبران بل الأخبار أنه: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأقرّ بالسرقة فقال له: أ تقرأ شيئا من القرآن؟ قال:

نعم سورة البقرة قال: قد وهبت يدك لسورة البقرة قال: فقال الأشعث: أ تعطّل حدّا من حدود اللّه؟ فقال: و ما يدرك ما هذا؟ إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 41 ص 308.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ الزنا ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 67

يعفو و إذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك الى الإمام إن شاء عفا و إن شاء قطع «1».

و رواه الصدوق بإسناده إلى طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد و قصور الأسانيد مجبور بالتعدّد مع عمل الأكثر بل الكلّ عدا الحلّي و هو شاذ كما صرّح به بعض الأصحاب، كذا في الرياض «2» و قال أيضا:

و أخصيّة المورد مدفوعة بعموم الجواب مع عدم قائل بالفرق بين الأصحاب مع ورود نصّ آخر باللّواط متضمنا للحكم أيضا على العموم من حيث التعليل.

و هو المرويّ عن

تحف العقول عن أبي الحسن الثالث عليه السلام في حديث قال: و أمّا الرجل الذي اعترف باللواط فإنّه لم يقم عليه البيّنة و إنّما تطوّع بالإقرار من نفسه و إذا كان للإمام الذي من اللّه أن يعاقب عن اللّه كان له أن يمنّ عن اللّه أما سمعت قول الله: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب «3».

عفو الحاكم مشروط بتحقّق التوبة؟

ثم إنّه هل يعتبر في جواز عفو الحاكم و عدم إجراءه الحدّ تحقّق التوبة أم لا؟.

ظاهر المحقق و جماعة منهم ذلك لكن لا تعرّض في الروايات لهذا القيد كما عرفت ذلك من هذه الأخبار المنقولة آنفا.

نعم بعض الروايات قد ورد في مورد التوبة و ذلك كرواية مالك بن عطيّة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: بينما أمير المؤمنين عليه السلام في ملأ من أصحابه إذ أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنّي أوقبت على غلام فطهّرني فقال له: يا هذا امض إلى منزلك لعلّ مرارا هاج بك. فلمّا كان من غد عاد إليه فقال له: يا أمير المؤمنين إنّي أوقبت على غلام فطهّرني فقال له: اذهب إلى منزلك لعلّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من مقدّمات الحدود ح 3.

(2) راجع ج 2 ص 467 في بحث الزناء.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 331 ب 18 من مقدّمات الحدود ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 68

مرارا هاج بك حتّى فعل ذلك ثلاثا بعد مرّته الأولى فلمّا كان في الرابعة: قال له:

يا هذا إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيّهن شئت. قال: و ما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف على عنقك بالغة ما بلغت

أو إهداب- إهداء- من جبل مشدود اليدين و الرجلين أو إحراق بالنار قال: يا أمير المؤمنين أيّهن أشدّ عليّ؟ قال: الإحراق بالنّار قال: فإنّى قد اخترتها يا أمير المؤمنين فقال: خذ لذلك أهبتك فقال: نعم قال: فصلّى ركعتين ثم جلس في تشهّده فقال: اللّهم إنّي قد أتيت من الذنب ما قد علمته و أنّي تخوّفت من ذلك فأتيت إلى وصي رسولك و ابن عمّ نبيك فسألته أن يطهّرني فخيرني ثلاثة أصناف من العذاب. اللّهم فإنّي أخذت أشدهنّ. اللهمّ فأني أسئلك أن تجعل ذلك كفّارة لذنوبي و أن لا تحرقني بنارك في آخرتي ثم قام و هو باك حتّى دخل الحفيرة الّتي حفرها له أمير المؤمنين عليه السلام و هو يرى النار تتأجّج حوله، قال: فبكى أمير المؤمنين عليه السلام و بكى أصحابه جميعا فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قم يا هذا فقد أبكيت ملائكة السماء و ملائكة الأرض فإنّ اللّه قد تاب عليك فقم و لا تعاودنّ شيئا ممّا فعلت «1».

فإنّه لا إشكال في أنه قد تاب و ناجى اللّه تعالى بتلك الفقرات المهيّجة و الكلمات المحرقة. فعفى عنه الإمام عليه السلام بعد أن حكم بإحراقه بالنار.

و لكن هل هذا يوجب التقييد حتّى يكون عفو الإمام بعد إقرار المجرم مقيّدا بما إذا تاب عن ذنبه و لا يجوز له ذلك لو لم يتب عن ذنبه؟.

الإنصاف أنه و إن لم تكن الرواية المذكورة خالية عن نوع من الإشعار بذلك الّا أنه لا يوجب التقييد.

و يمكن أن يقال إنّ نفس الحضور عند الحاكم و في موضع إجراء الحدّ لتطهيره عن المعصية و الإقرار عنده توبة في الحقيقة و هو حاك عن ندامته الباطنة إذا كانت التوبة

مجرّد الندامة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 69

الّا أن يقال: إنّ اللازم هو التوبة الخاصّة لا مجرّد الندامة.

نعم قال السيد صاحب الرياض قدّس سرّه: ليس في شي ء منها- أي الروايات- اعتبار التوبة كما هو ظاهر الجماعة و لعلّ اتّفاقهم عليه كاف في تقييدها انتهى.

و كيف كان فالمتيقّن هو الاكتفاء بما إذا كانت مع الإقرار التوبة. فإذا شكّ في جواز العفو بدون التوبة فمقتضى الإكتفاء بالقدر المتيقّن عدم جواز ذلك.

و إن شئت فقل: إنّه مع إقراره و توبته كان الإمام مخيّرا فمع عدم توبته يشكّ في جواز العفو و من المعلوم أنه لم يكن العفو واجبا حتى مع ثبوت توبته فكيف بما إذا لم يكن قد تاب، و على هذا فالاحتياط هو إجراء الحدّ لاحتمال وجوبه بخصوصه و لا مورد للتمسّك بحرمة إيذاء المؤمن، و في الحقيقة أن الشك بالنسبة إلى العفو راجع إلى الشك في الجواز و الحرمة و أمّا بالنسبة إلى الحدّ فهو راجع الى الشك في الجواز و الوجوب و الاحتياط يقتضي اختيار الحدّ هذا.

هل التخيير يختصّ بالإمام؟

ثم إنّه هل هذا التخيير يختصّ بالإمام أو يعم الإمام و غيره؟.

قال في الرياض: و ظاهره- أي خبر تحف العقول- كباقي النصوص و الفتاوى قصر التخيير على الإمام فليس لغيره من الحكّام، و عليه نبّه بعض الأصحاب و احتمل بعض ثبوته لهم أيضا و فيه إشكال و الأحوط إجراء الحدّ أخذا بالمتيقّن لعدم لزوم العفو انتهى.

أقول: إذا كان المراد من الغير هو الحاكم الجامع للشرائط فإلحاقه بالإمام غير بعيد.

نعم لو كان المراد به الأعمّ منه و من غيره فيشكل الإلحاق، و الاحتياط يوجب إقامة

الحدّ و ذلك لأن العفو ليس بلازم حيث إنّه قد تقدّم و تحقّق أنه مع إقراره و توبته يتخيّر الإمام بين إقامة الحدّ و العفو عنه، فهنا نشك في هذا التخيير

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 70

و في جواز العفو و الأصل عدمه.

بما ذا يثبت السحق؟

بقي الكلام هنا في أن السحق يثبت بما ذا و قد قال صاحب الجواهر بعد تقريره تخيير الإمام: بل هي أيضا مثلهما في الثبوت بالإقرار أربعا قطعا و بشهادة الأربع رجال بل كاللواط في عدم الثبوت إلّا بشهادة الرجال خاصّة للأصل و غيره إلخ.

يعني كما أن السحق تكون كالزنا و اللواط في تخيير الإمام عند الإقرار، و التوبة، كذلك تكون مثلهما في الإثبات بالإقرار أربعا.

و قد ذهب إلى ذلك غيره من العلماء.

قال في كشف اللثام (عند قول العلّامة: و يثبت بشهادة أربعة رجال لا غير):

خلافا لابني زهرة و حمزة و قد مرّ في القضاء (ثمّ قال): و اشتراط هذا العدد مجمع عليه في الظاهر (ثمّ قال):

و يدلّ عليه قوله تعالى وَ اللّٰاتِي يَأْتِينَ الْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ «1» و قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ. «2».

و قد جعل رحمه اللّه الفاحشة في الآية الأولى أعمّ من الزنا و غيرها ممّا يناسبها و يلحق بها.

و هذا خلاف ما هو الظاهر من بعض التفاسير ففي تفسير الصافي للكاشاني رحمة اللّه عليه: قيل: الفاحشة: الزنا سمّي بها لزيادة قبحها و شناعتها انتهى.

و لم أقف بعد على ورود ذلك في الروايات الشريفة.

و كيف كان فقد خالف في ذلك المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه و ذهب إلى كفاية

______________________________

(1) سورة النساء الآية 15.

(2) سورة النور الآية 4.

الدر

المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 71

الإقرار مرّتين في إثبات السحق.

أقول: و ما أفاده ليس ببعيد و ذلك لظهور الآيتين في الزنا لا الأعم منها و ممّا يلحق بها و كأنه قيل في الآية الأولى: و اللّاتي يأتين الزنا من نساءكم و في الآية الثانية وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ، بالزنا.، و إذا لم يكن دليل على اعتبار الأربع في المقام فلا محالة يرجع إلى عموم أدلّة الشاهدين كقوله تعالى:

وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ «1» و غير ذلك و على هذا فيكتفى في إثبات السحق بشهادة شاهدين.

هذا بالنسبة إلى الشهادة، و أما بالنسبة إلى الإقرار فيكفي الإقراران في إثبات ذلك- لأنه بحكمها- بل يمكن يقال بكفاية الإقرار الواحد.

حكم الأجنبيتين في إزار واحد

قال المحقق: و الأجنبيّتان إذا وجدتا في إزار مجرّدتين عزرت كلّ واحدة دون الحدّ.

أقول: البحث هنا هو البحث في اضطجاع الرجلين تحت إزار واحد كما صرّح بذلك في المسالك.

و في الجواهر: و مقتضاه أن المشهور حينئذ من ثلاثين إلى تسعة و تسعين انتهى. (و قد مرّ أن مقتضى الجمع بين خبر سليمان بن هلال و خبر معاوية بن عمّار ذلك أي ما بين الثلاثين إلى تسعة و تسعين).

و اختار ذلك شيخ الطائفة قدّس سرّه في النهاية و ابن البرّاج: و إذا وجدت امرأتان في إزار واحد مجردتين من ثيابهما و ليس بينهما رحم و لا أحوجهما إلى ذلك ضرورة من برد و غيره كان على كلّ واحدة منهما التعزير من ثلاثين سوطا

______________________________

(1) سورة البقرة الآية 282.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 72

إلى تسعة و تسعين حسب ما يراه الإمام أو الوالي. «1»

لكن قال الشيخ في أشربة الخلاف: لا يبلغ بالتعزير حدّا كاملا بل يكون

دونه و أدنى الحدود في جنية الأحرار ثمانون فالتعزير فيهم تسعة و سبعون جلدة و أدنى الحدود في المماليك أربعون و التعزير فيهم تسعة و ثلاثون. «2»

و ظاهر عبارته أنه قائل بذلك في مطلق الحدّ و أيّ حدّ كان في حين صرّح البعض «3» بأنه إذا كان الموجب للتعزير ممّا يناسب الزنا و نحوه ممّا يوجب مأة جلدة فالتعزير فيه دون المائة و إن كان ممّا يناسب شرب الخمر أو القذف ممّا يوجب ثمانين فالتعزير فيه دون الثمانين.

و قد حمل ابن إدريس رضوان اللّه عليه كلام الشيخ في أشربة الخلاف على ذلك و جعل الملاك هو الحدّ الكامل الذي هو المائة فالتعزير مطلقا دونه و قد عدّ ما يظهر ممّا ذكره الشيخ، من أقوال المخالفين و اجتهاداتهم و قياساتهم قال:

و الذي يقتضيه أصول مذهبنا و أخبارنا أن التعزير لا يبلغ الحدّ الكامل الذي هو المائة أي تعزير كان سواء كان ممّا يناسب الزنا أو القذف و إنّما هذا الذي لوّح به شيخنا، من أقوال المخالفين و فرع من فروع بعضهم و من اجتهاداتهم و قياساتهم الباطلة و ظنونهم العاطلة انتهى [1].

و كيف كان فمقتضي الجمع بين الأخبار هو الحكم بتعزير هما من ثلاثين إلى تسعة و تسعين، و الاختيار فيهما و ما بينهما إلى الحاكم.

______________________________

[1] السرائر ج 3 ص 466، أقول: و قد ردّ عليه العلّامة في المختلف ص 766 بقوله: و أمّا ما ذكره الشيخ من تقدير التعزير فهو جيّد حسن لأنا لا نبلغ بما يناسب الفعل، و يقرب منه، و ليس به حدّ ذلك الفعل و حاشا شيخنا أن يقلّد غيره من علمائنا فكيف من لا يعتقد صحّة مذهبه الى آخر كلامه زيد

في علو مقامه فراجع.

______________________________

(1) النهاية ص 707 و المهذّب ج 2 ص 533، و اللفظ للشيخ.

(2) الخلاف ج 3 كتاب الأشربة مسئلة 14.

(3) كأبي الصلاح الحلبي فراجع الكافي ص 420.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 73

و أمّا ما ورد في بعض الروايات من تعزير هما بما دون الأربعين كما في رواية حمّاد بن عثمان «1» أو بالعشرة إلى العشرين كما في رواية إسحاق بن عمّار [1] فهي معرض عنها و العامل بها شاذّ.

كما أن ما ورد فيها من أنهما يضربان الحدّ كما في صحيح الحلبي «2» فيمكن أن يراد من الحدّ التعزير فإنّه قد يستعمل في التعزير و قد يستعمل في الأعمّ من الحدّ و التعزير و على الجملة، فإطلاق الحدّ هنا من باب المجاز.

هذا كلّه إذا صدر ذلك مرّة فلو تكرّر ذلك فإليك حكمه:

حكم وقوع هذا العمل مرارا

قال المحقّق: و إن تكرّر الفعل و التعزير مرّتين أقيم عليهما الحدّ في الثالثة فإن عادتا

قال في النهاية: قتلتا و الأولى الاقتصار على التعزير احتياطا في التهجّم على الدماء.

و في الجواهر (بعد قول المصنّف: في الثالثة): بلا خلاف أجده إلّا ما يحكى عن ظاهر الحلّي من القتل فيها لأنه كبيرة و كلّ كبيرة يقتل فاعلها في الثالثة بعد تخلّل الحدّ أو التعزير أقول: قال ابن إدريس بعد الحكم بتعزير الامرأتين اللّتين وجدتا في إزار واحد: فإن عادتا إلى مثل ذلك نهيتا و أدّبتا فإن عادتا ثالثة أقيم عليهما الحدّ كاملا مأة جلدة على ما روى.

ثمّ قال: أورده شيخنا في نهايته و قال: فإن عادتا رابعة كان عليهما القتل.

______________________________

[1] مستدرك الوسائل ج 18 ص 194 ب 6 من أبواب بقية الحدود ح 2: قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام

عن التعزير، قلت: كم هو؟ قال: ما بين العشرة إلى العشرين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقية الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 74

ثمّ قال: قال محمد بن إدريس: إنّ قتلهما في الرابعة لقولهم عليهم السلام:

أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة و الصحيح أنّهم يقتلون في الثالثة انتهى «1».

فمستند ابن إدريس القائل بالقتل في الثالثة بعد تحقق التعزير مرّتين خبر يونس عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلّها إذا أقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة «2».

نعم قد خرج عن ذلك باب الزنا لرواية أبي بصير قال: قال: أبو عبد اللّه عليه السلام: الزاني إذا زنا يجلد ثلاثا و يقتل في الرابعة، يعني يجلد ثلاث مرّات «3».

و قد قال الشيخ: الأوّل مخصوص بغير الزنا.

و على هذا ففي غير الزنا يحدّ أو يعزّر في المرّة الأولى و كذا الثانية ثمّ في الثالثة يقتل.

لكن الشيخ في النهاية صرّح في المقام بتعزيرهما ثلاثا ثمّ قتلهما في الرابعة «4» و وافقه في ذلك ابن البرّاج و كذا العلّامة في المختلف.

و مستنده في ذلك أمران:

إحداهما رواية أبي خديجة قال: لا ينبغي لامرأتين تنامان في لحاف واحد إلّا و بينهما حاجز فإن فعلتا نهيتا عن ذلك فإن وجدهما بعد النهي في لحاف واحد جلدتا كلّ واحد منهما حدّا حدّا فإن وجدتا الثالثة في لحاف حدّتا فإن وجدتا الرابعة قتلتا «5».

ثانيهما أنه كبيرة و كلّ كبيرة يقتل بها في الرابعة.

و لكن فيه أن الرواية مع ضعف سندها لا تنطبق على ما ذكره كاملا فإنّ

______________________________

(1) السرائر ج 3 ص 467.

(2) وسائل

الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

(4) النهاية ص 707.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب الزنا ح 25.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 75

مقتضاها هو أنه لا شي ء في المرّة الأولى سوى النهي إلّا أن يحمل على صورة الجهل بالحكم، و يبقى مع ذلك التعبير بالحدّ بالنسبة إلى المرّة الثانية و الثالثة و الحال أنه لا يقول بالحدّ بل هو قائل بالتعزير اللهم إلّا أن يراد من الحدّ التعزير و بعد ذلك كلّه يكون الحكم بالقتل بحسب ذلك في المرّة الثالثة لأن المرّة الأولى لم تكن مقتضية للتعزير على ما تقدّم من الحمل على صورة الجهل و أين ذلك من القتل في الرابعة الذي يقول به.

و امّا الاستدلال الثاني ففيه ما أفاده في المسالك من أنه إن أراد مع إيجابها الحدّ فمسلّم لكن لا يقولون به هنا و إن أراد مطلقا فالظاهر منعه و من ثمّ اختار المصنف الاقتصار على التعزير مطلقا و هو الأوجه إن لم نقل بالحدّ كما اختاره الصدوق و إلّا كان القول بقتلهما في الثالثة أو الرابعة أوجه انتهى.

أقول: و لا يخفى عليك ما في نسبة المسالك إلى المحقّق من الإشكال و ذلك لأنه نسب إليه اختيار الاقتصار على التعزير مع أنه قدّس سرّه صرّح بالحدّ في الثالثة.

و قد تعرّض صاحب الرياض لذكر الدليلين ثمّ تنظّر فيهما لما ذكره في المسالك ثمّ قال: و من ثمّ اختار الفاضلان و الشهيدان و أكثر المتأخرين كما في المسالك الاقتصار على التعزير مطلقا إلّا في كل ثالثة فالحدّ و لا ريب أنه أحوط

انتهى.

نعم أورد على صاحبي. المسالك و الرياض، في الجواهر بقوله: و فيه أوّلا إنّ المتّجه بناءا على ما ذكراه القتل في التاسعة أو الثانية عشر لتخلّل الحدّ حينئذ لا أن الحكم كذلك مطلقا و ثانيا قد سمعت الصحيح و معقد الإجماع الدّالين على قتل أصحاب الكبائر في الثالثة.

ثم قال: نعم يقال في المقام بالرابعة إلحاقا له بالزنا و احتياطا في الدماء.

أقول: فاللازم هنا البحث في أن المراد من قتل أصحاب الكبائر بعد إجراء الحدّ عليهم مرّتين مثلا هل هو الحدّ المصطلح و خصوصه أو المراد منه الأعمّ منه و من التعزير.

قال في المسالك: مقتضى الحكم بالتعزير عدم الحكم بالقتل مطلقا و إليه ذهب

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 76

أكثر المتأخرين انتهى.

و على هذا فتصل النوبة إلى البحث في أنه يعتبر التعاقب في الحدّ مرّتين أو ثلاث مرّات بحيث لو حصل الانفصال لا يجوز القتل أو أنه يكفى في القتل إجراء الحدّ مرّتين أو ثلاث مرّات مطلقا؟.

و الظاهر هو الثاني و عليه فيتحقّق في كلّ ثلاث مرّات من وقوع الفعل حدّ واحد مسبوق بتعزيرين فيكفي في الحكم بالقتل إجراء الحدّ عليهما ثلاث مرّات مثلا و إن لم تكن متعاقبة بل وقع كلّ منهما عقيب تعزيرين.

و امّا القول بتعزيره في المرّة الأولى و الثانية و إقامة الحدّ عليه في الثالثة مطلقا بلغ ما بلغ و مهما تكرّر منه الجرم، فهو خلاف الظاهر جدّا و هو يفضي إلى أن لا يقتل أصلا مهما أتى بهذا الفعل الشنيع و المعصية العظيمة.

و الإجماع المذكور في خبر أبي خديجة و إن كان يقتضي الحكم بعدم القتل لأن الأصل عدم جوازه، و الاحتياط أيضا يقتضي ذلك إلّا أن الروايات

الدّالة على قتل مرتكب الكبيرة في المرّة الثالثة، أو الرابعة كما في باب الزنا يوجب الحكم بالقتل في المقام.

نعم لا يبعد الحكم بذلك في الرابعة و التأخير في قتله إليها و إن قلنا بالقتل في الثالثة في سائر المعاصي و المحرّمات، و ذلك لأنه لا يقتل في الزنا إلّا في الرابعة و بعد أن أجرى عليه الحدّ ثلاث مرّات فكيف يقال في المقام بالقتل في الثالثة و الحال أنه لم يكن شي ء سوى كونهما تحت لحاف واحد.

و لعلّ نظر الشيخ قدّس سرّه من الحكم بقتلهما في الرابعة هو إلحاقه بالزنا و إن كان قد يورد عليه بأنه قياس مع الفارق و لكنّ الإنصاف أن الحكم بالقتل في الزنا في الرابعة، و في المقام في الثالثة بعيد.

فتحصّل أنه يحكم بقتلهما بعد ارتكاب هذا العمل اثنى عشر مرّة و بعد أن عزّرا في المرّتين الأوليين من كلّ ثلاث و حدّا في كلّ ثالثة من الثلاثة الأولى و الثانية و الثالثة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 77

الكلام في عدم جريان الكفالة في الحدّ

اشارة

قال المحقّق قدّس سرّه: مسألتان:

[الأولى: لا كفالة في الحدّ و لا تأخير فيه]

الأولى: لا كفالة في الحدّ و لا تأخير فيه مع الإمكان و الأمن من توجّه الضرر و لا شفاعة في إسقاطه.

أقول: قد ذكر قدّس سرّه في المسألة الأولى ثلاثة من أحكام الحدّ أوّلها أنه لا كفالة فيه.

و الكلام هنا في علّة ذلك و وجهه. فقال الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك بعد التصريح بفورية وجوب الحدّ عند ما ثبت موجبه: و من ثمّ لم يجز فيه الكفالة لأدائها إلى تأخيره و هو غير جائز مع إمكان تعجيله انتهى و ردّ عليه صاحب الجواهر رضوان اللّه عليه فقال عند توجيه عدم الكفالة في الحد: لا لأدائه إلى التأخير إذ قد يكون العذر حاصلا في تأخيره بل للحسن أو الصحيح عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا كفالة في حدّ، و نحوه عن أمير المؤمنين عليه السلام انتهى.

فقد علّل هو بورود النصوص و وجّه ذلك بالتعبّد.

و تظهر الثمرة في أنه على الأوّل لو كان هناك عذر يمنع عن التعجيل فإنّه يقبل الكفالة حينئذ لجواز التأخير. بخلاف ما لو كان العلّة هو النصّ فإنّه لا يجوز الكفالة أصلا.

قال بعض معاصرينا قدّس اللّه روحه عند بيان عدم الكفالة في الحدّ: و هذا الكلام يمكن أن يراد منه أنه لا تقبل كفالة أحد إذا لزم الحدّ للزوم تأخير الحدّ فإذا فرض لزوم التأخير كما لو لزم إرضاع ولد بحيث يموت الولد مع ترك الأمّ الإرضاع، و من استحقّ الحدّ يمكن أن يهرب بحيث لا يمكن إجراء الحدّ عليه فإن كان النظر إلى هذا فلا بدّ من التقييد و هذا كما يقال: لا يجوز تأخير الحدّ فمع جواز التأخير

لا مانع من الكفالة.

ثم قال: و يمكن أن يكون المراد أنه لا يصحّ الكفالة وضعا بحيث لو تعهّد الكفالة لا يصحّ و على هذا يكون الكفالة باطلة نظير البيع الغرري و على الأوّل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 78

يكون نظير البيع وقت النداء يوم الجمعة «1».

أقول: الظاهر أنه لا يمكن حمل الكلام على الوجه الأوّل لأنه نظير: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب الذي معناه أنه إذا كان جميع أجزاء الصلاة و شرائطها موجودة فهناك لا تتحقق الصلاة إلا بفاتحة الكتاب و لا يشمل الصلاة الباطلة مع قطع النظر عن قراءة فاتحة الكتاب و عدمها فيها ففي المقام لا معنى للكفالة في الحدّ الفوري و عند ما لم يكن التأخير جائزا لعذر من الأعذار فإنّه لا بدّ حينئذ من إجراء الحدّ بالفور و إنّما يجري بحث الكفالة فيما كان يجوز التأخير، فهنا الذي يتصوّر فيه الكفالة يقال: لا كفالة في الحدّ بمعنى عدم صحّتها لا حرمتها، فإذا جاز التأخير و لم يجب الفور فهنا و إن كان يتصوّر الكفالة بأن يتعهّد الكفيل إحضاره في الوقت الخاص لكن تبطل هذه الكفالة شرعا لعدم مشروعيّة الكفالة في الحدود.

و بعبارة أخرى معنى العبارة الشريفة أن الكفالة المشروعة في سائر الموارد غير مشروعة في الحدّ.

و لعلّ الوجه في عدم جريان الكفالة في باب الحدود و سرّه أن لازم الكفالة و مقتضاها هو جواز استيفاء الحقّ من الكفيل مع عدم إمكان استيفائه من المكفول له و هذا لا يمكن في باب الحدود لأنه لا يحدّ أحد بمعصية غيره و إنّما يتحقّق ذلك في باب الأموال و لذا ترى أنه لا كفالة في القتل و تكون في الدية.

و الحاصل

أنه يتعيّن الوجه الثاني من الوجهين و هو عدم مشروعيّة الكفالة في الحدّ الذي لو لا الدليل لصحّت فيه الكفالة و ليس هو إلّا الحدود المؤجلة.

ثمّ إنّه لو كان الحدّ شاملا للتعزير أيضا كما هو الظاهر فالأمر واضح، و أما لو قلنا بأنّ المراد من الحدّ هو الحدّ المصطلح و اختصاصه بالحدّ المخصوص أعني غير التعزير فحينئذ نقول: إنّ المناط في كليهما واحد فكما لا يجوز و لا يمكن أن يقام الحدّ على الكفيل كذلك لا يمكن ان يعزّر الكفيل و على هذا فلا يجوز الكفالة

______________________________

(1) جامع المدارك الطبع الأوّل ج 7 ص 87 و 88.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 79

في التعزير.

عدم جواز التأخير في الحدّ

هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم الأوّل أعني عدم جواز الكفالة.

و أمّا الحكم الثاني أي عدم جواز التأخير فنقول: إن التأخير في الحدّ غير جائز و ذلك للنهي عنه.

ففي رواية عمران أو صالح بن ميثم عن أبيه في حديث طويل: إنّ امرأة أتت أمير المؤمنين عليه السلام فأقرّت عنده بالزنا أربع مرّات قال: فرفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم إنّه قد ثبت عليها أربع شهادات و إنّك قد قلت لنبيّك صلّى اللّه عليه و آله فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطّل حدّا من حدودي فقد عاندني و طلب بذلك مضادّتي «1» و عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه السلام في حديث قال: ليس في الحدود نظر ساعة «2».

و عن محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام قال: إذا كان في الحدّ لعلّ أو عسى فالحدّ معطّل. «3»

و هل يختص عدم الجواز بما إذا كان على نحو يصدق عليه التعطيل؟

قال في الجواهر: و كذا لا تأخير فيه على وجه يصدق عليه التعطيل انتهى.

و لكن الظاهر أنه غير جائز مطلقا و إن فرض عدم صدق ذلك عليه بل مجرّد الإمهال غير جائز (كما هو مقتضى الرواية الثانية) لو لم نقل بأن الإمهال أيضا نوع من التعطيل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب مقدّمات الحدود ح 6.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 80

ثمّ إنّه يستثني من ذلك ما إذا لم يمكن التعجيل أو لم يكن هناك أمن من الضرر، و ذلك كالمرض و الحبل فإنّه لا بد معهما من التأخير الحدّ إلى أن يبرأ أو تضع حملها.

ثمّ إنّ كون الاختيار بيد الإمام في بعض الموارد كما إذا ثبت بالإقرار فله العفو و الإقامة قد يوجب توهّم جواز التأخير له.

و فيه عدم ملازمة بين كون الاختيار بيده و أن لا يجوز له التأخير في ذلك فعليه أن يختار واحدا من الأمرين فورا.

عدم جواز الشفاعة في الحدّ

الثالث أنه لا شفاعة في إسقاط الحد.

و قد استدلّ على ذلك بوجهين:

أحدهما أن استيفائه حقّ واجب على الإمام و من ثمّ لم تجز فيه الشفاعة لأنه لا يشفع إلّا فيما هو حقّه- كذا في المسالك.

أقول: و على هذا فلو فرض في مورد كون الأمر بيد الإمام و أنه جاز له العفو كما في غير مورد ثبوته بالبيّنة فلا بدّ من جواز ذلك هناك.

ثانيهما الروايات:

فعن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان لأمّ سلمة زوج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمة فسرقت من قوم

فأتى بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكلمّته أم سلمة فيها فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا أم سلمة هذا حدّ من حدود اللّه لا يضيع فقطعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1» و عن مثنى الحناط عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لأسامة بن زيد: لا يشفع في حدّ «2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 81

و عن سلمة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان أسامة بن زيد يشفع في الشي ء الذي لا حدّ فيه فأتى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله بإنسان قد وجب عليه حدّ فشفع له أسامة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تشفع في حدّ. «1»

و عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يشفعنّ أحد في حدّ إذا بلغ الإمام فإنّه لا يملكه و اشفع فيما لم يبلغ الإمام إذا رأيت الندم و اشفع عند الإمام في غير الحدّ مع الرجوع من المشفوع له و لا يشفع في حقّ امرئ مسلم و لا غيره إلّا بإذنه. «2»

و ظاهر هذه الأخبار أنه لا أثر للشفاعة في باب الحدود مطلقا و أن الحد ممّا لا يقبل الشفاعة.

و لو كان المراد هو التحريم فهو أيضا كاف في إثبات المطلوب لأنه كيف يترتّب الأثر على ما هو حرام؟

نعم ربما يستظهر من التعليل الوارد في خبر السكوني: (فإنّه لا يملكه) أنه لا

شفاعة فيما ليس له العفو و ليس هو مالكا للحدّ و أمّا إذا كان مالكا له كما إذا ثبت الحد بالإقرار فهناك لا بأس بالشفاعة فيه.

فالأمر يدور بين تخصيص الروايات السابقة الدالّة على أنه لا شفاعة في حدّ بأن يقال: لا يشفع في حدّ إذا لم يكن الإمام مالكا للعفو و الإقامة، أو يؤخذ بالنكرة في سياق النفي و يوجّه التعليل الوارد في المقام بأنه لا يملك الشفاعة و إن كان مالكا للعفو.

و على الجملة فالإشكال الوارد في المقام هو أن العلّة ليست صريحة في عدم ملكه للعفو كي يقال: بأنه إذا كان مالكا للعفو يجري حينئذ الشفاعة، فلعلّ المراد أنه لا يشفعنّ أحد فإنّ الإمام ليس مالكا لذلك أي لقبول الشفاعة و لا بعد أصلا في إرادة هذا المعنى، و بناءا عليه فيقدّم النكرة في تلو النفي و يحكم بأنه لا أثر

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدّمات الحدود ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 82

للشفاعة في باب الحدود.

قال في الجواهر: قد يقال: إنّ مقتضى التعليل المزبور جواز الشفاعة فيه في مقام التخيير له إلّا أن إطلاق الأصحاب ينافيه انتهى.

المسألة الثانية في المرأة التي وطئها زوجها فساحقت بكرا فحملت

قال المحقّق: لو وطئ زوجته فساحقت بكرا فحملت قال في النهاية على المرأة الرجم و على الصبية جلد مأة بعد الوضع و يلحق الولد بالرجل و يلزم المرأة المهر.

أقول: إذا جامع الرجل زوجته ثم ساحقت هذه المرأة بكرا فحملت البكر من مائها الذي كان من الزوج فهناك أحكام:

أحدهما أنه ترجم المرأة و العلّة في ذلك أنها محصنة فإنّ المفروض أن زوجها قاربها عن قريب و

قد تقدّم أن الشيخ قال في باب السحق بأنه ترجم مع الإحصان و تحدّ مع عدمه.

ثانيها أنه تجلد الصبيّة مأة جلدة، و وجهه أن المفروض رضاها بذلك فتجلد مأة كما هي حدّها و المفروض انّها بكر لا زوج لها، نعم يؤخّر حدّها الى أن تضع حملها.

ثالثها أنه يلحق هذا الولد بالرجل صاحب الماء و ذلك لأنه قد تكوّن و نشأ منه.

رابعها أنه يلزم المهر للبكر على المرأة المساحقة.

ذهب إلى ترتّب هذه الأحكام الأربعة شيخ الطائفة في النهاية.

و يدل على ذلك صحيح محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليهما السلام يقولان: بينما الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين عليه السلام إذ أقبل قوم فقالوا يا أبا محمّد أردنا أمير المؤمنين. قال: و ما حاجتكم؟ قالوا أردنا أن نسأله عن مسألة قال: و ما هي تخبرونا بها؟ قالوا امرأة جامعها زوجها فلمّا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 83

قام عنها قامت بحمومتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها فوقعت النطفة فيها فحملت فما تقول في هذا؟ فقال الحسن: معضلة و أبو الحسن لها و أقول، فإن أصبت فمن اللّه و من أمير المؤمنين و إن أخطأت فمن نفسي فأرجو أن لا أخطئ إن شاء اللّه: يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أوّل وهلة لأن الولد لا يخرج منها حتّى تشقّ فتذهب عذرتها ثم ترجم المرأة لأنها محصنة و ينتظر بالجارية حتّى تضع ما في بطنها و يردّ الولد إلى أبيه صاحب النطفة ثم تجلد الجارية الحدّ قال: فانصرف القوم من عند الحسن عليه السلام، فلقوا أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ما قلتم لأبي محمّد و ما قال

لكم؟ فأخبروه فقال: لو أنّني المسئول ما كان عندي فيها أكثر ممّا قال ابني «1» و قد عمل بها الشيخ و أتباعه و لعلّ المسالك أيضا يرتضيه. و قد وافقه المحقّق قدّس سرّه في ثلاثة من هذه الأحكام و خالف في واحد منها و هو الرجم و إليك نصّه في البحث الآتي:

رأي المحقّق و ابن إدريس حول المسألة

قال المحقّق: امّا الرجم فعلى ما مضى من التردّد و الأشبه الاقتصار على الجلد و أمّا جلد الصبية فموجبه ثابت و هو المساحقة و أمّا لحوق الولد فلأنّه ماء غير زان و قد انخلق منه الولد فيلحق به و أمّا المهر فلأنّها سبب في إذهاب العذرة، و ديتها مهر نسائها و ليست كالزانية في سقوط دية العذرة لأن الزانية أذنت في الافتضاض و ليست هذه كذلك. انتهى.

أقول: و ابن إدريس خالف في المسألة و ردّ الأحكام كلّها عدا إثبات الجلد على البكر نظرا إلى وجود مقتضيه و هو المساحقة قال رحمة اللّه عليه: فإن عضد هذه الرواية دليل من كتاب أو سنّة متواترة أو إجماع و إلّا السلامة التوقّف فيها

______________________________

(1) (چ) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ السحق ح 1، و راجع أيضا ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 84

و ترك العمل بها و النظر في دليل غيرها لأنا قد قلنا إنّ جلّ أصحابنا لا يرجمون المساحقة سواء كانت محصنة أو غير محصنة و استدللنا على صحة ذلك فكيف توجب على هذه الرجم، و إلحاق الولد بالرجل، فيه نظر يحتاج إلى دليل قاطع لأنه غير مولود على فراشه و الرسول عليه السلام قال: الولد للفراش، و هذه ليست بفراش للرجل لأن الفراش عبارة في الخبر عن

العقد و إمكان الوطي و لا هو من وطئ شبهة بعقد الشبهة، و إلزام المرأة المهر أيضا فيه نظر، و لا دليل عليه لأنّها مختارة غير مكرهة و قد بيّنا أن الزاني إذا زنا بالبكر الحرّة البالغة لا مهر عليه إذا كانت مطاوعة، و البكر المساحقة هاهنا مطاوعة قد أوجبنا عليها الحدّ لأنّها بغيّ، و النبيّ عليه السلام نهى عن مهر البغي فهذا الذي يقال على هذه الرواية فإن كان عليها دليل غيرها من إجماع و غيره فالتسليم للدليل دونها، فليلحظ ما نبّهنا عليه و يتأمّل و لا ينفي في الديانة أن يقلّد أخبار الآحاد و ما يوجد في سواد الكتب انتهى «1».

و يؤل كلامه و إيراداته إلى إيرادين:

الأوّل أن الرواية من قبيل أخبار الآحاد الّتي لا يعمل بها.

الثاني أن الرواية على خلاف مقتضى القواعد فإنّ الحكم في السحق هو الجلد مطلقا دون الرجم و إن فصل الشيخ قدّس سرّه بين المحصنة و غيرها فأوجب الرجم في الأولى، و هذه الرواية تتضمّن الحكم بالرجم.

أمّا الأوّل فهو ممّا يقول به على خلاف المشهور.

و أمّا اشتمال الرواية على خلاف مقتضى القواعد فأمّا حكم السحق فهو و إن كان الجلد دون الرجم على ما عليه جلّ الأصحاب إلّا أنه لا يرد إشكال لو قيل هنا بالرجم بمقتضى الرواية بعد البناء على العمل بخبر الواحد فإنّ هذه مخصّصة للروايات الدالّة على أن حدّ السحق هو الجلد و إن كان هذا خلاف ظاهر العموم، لكن يقال به عملا بهذه النصوص و جمعا بينها و بين ما تقدّم من الدليل

______________________________

(1) السرائر ج 3 ص 465.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 85

على عدم رجم المساحقة مطلقا كما ذكره في

الرياض.

سلّمنا أن هذه الجملة غير معمول بها، و أنه لا بدّ من الأخذ بروايات الجلد في السحق و ترجيحها على رواية الرجم و لكن هذا لا ينافي العمل بباقي فقرأتها، و عدم العمل بقطعة من الرواية لا يضرّ بما سواها منها.

و الإنصاف أن احتمال العمل بتلك الرواية في خصوص المورد لإيجابه حمل البكر، يدفعه اشتمالها على التعليل المقتضي تسرية الحكم إلى كلّ محصنة.

و أمّا ما أورده من عدم إلحاق الولد بالرجل معلّلا بأنه ليس مولودا على فراشه كي يلحق به ففيه أنه مخلوق من مائه و متكوّن من نطفته و لم يكن هو بزان فيلحق به شرعا كما يلحق به لغة و عرفا، فإن ولد الرجل فيهما هو من تكوّن من مائه مطلقا و إن كان من زنا غاية الأمر أن الشارع الأقدس نفى ولدية المتكوّن من زنا في قسم من الأحكام كالإرث مثلا دون المحرميّة و حرمة النكاح.

و أمّا قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الولد للفراش فهو لا يفيد النحصار بل هو لبيان حكم ما إذا كان هناك شبهة بأن يتردّد الولد بين شخصين فلا يفيد أن المتكوّن في غير الفراش ليس بولد.

و على الجملة فخروجه بدوا من بين الصلب و الترائب يقتضي إلحاقه بالرجل فإنّه منشأ حياته و تكوّنه و ليس المقام من باب الزنا كي لا يلحق به شرعا.

و أمّا عدم الإلحاق بالأب في باب الحيوانات فهو أمر عرفي لا يتعلّق ببحثنا.

و استشكل صاحب الجواهر قدّس سرّه في إلحاقه به بقوله: إنّ ذلك لا يكفي في لحوق الولد شرعا ضرورة كون الثابت من النسب فيه الوطي الصحيح و لو شبهة و ليس هذا منه و ليس مطلق التولّد

من الماء موجبا للنسب شرعا ضرورة عدم كون العنوان فيه الخلق من مائه و الصدق اللغوي بعد معلوميّة الفرق بين الإنسان و غيره من الحيوان بمشروعيّة النكاح فيه دونه بل المراد منه تحقّق النسب. إلى آخر كلامه.

و فيه أن هذا خلاف اللغة و العرف بل و ما هو المستفاد من الروايات فإنّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 86

النسب يحصل من الماء و لا مدخليّة للوطي فيه، و لذا لا خلاف في أنه إذا لا عب الرجل زوجته فسبق الماء و حملت من ذلك بدون وطي فإنّ الولد ملحق به، مع أن الماء قد حصل في المقام من الوطي الصحيح و إنّما المرأة عصت في نقله إلى رحم البكر و إلحاق الولد بالصّبية.

و هكذا بالنسبة إلى السؤال الوارد علينا و الذي يستفتوننا فيه و لعلّه واقع الآن أو أنه سيقع في القابل من الأزمان و هو أنه إذا أخذت نطفة الرجل و جعلت في ظروف مساعدة مناسبة كالمكائن و المصائع الخاصّة تحت حرارة لازمة كحرارة الرحم فتكونّ منها ولد، فهل لا يكون هذا الولد ملحقا بصاحب النطفة! [1] قال قدّس سرّه: و من ذلك يظهر الإشكال في لحوق ولد المكرهة بها إذا لم يثبت كون ذلك من الشبهة شرعا.

يعنى ممّا ذكرنا من عدم كفاية مجرّد التكوّن من الماء في صدق الولد و اعتبار تحقّق النسب يظهر الإشكال في الحكم بلحوق ولد المكرهة على الزنا بها إذا لم يثبت كون وطيها من الشبهة بحسب الشرع فإنّه إذا أكره رجل امرأة على الوطي بتصوّر أنّها زوجته ثمّ بان أنها كانت أجنبيّة فحيث كان الوطي شبهة لا يرد إشكال في لحوق الولد بها لمكان الشبهة بخلاف

ما إذا أكرهها و لم يكن هناك شبهة فإنّه لا وجه للحوق الولد بالمرأة بعد أن كان الأب زانيا و الأمّ مكرهة و ذلك لعدم الفراش الشرعي و لا الشبهة.

و فيه أنه لا وجه للإشكال هنا أيضا بعد صدق الولد لغة و عرفا نعم لا يلحق بالأب شرعا كما مرّ لمكان الزنا.

ثم قال: كما أن من ذلك يظهر لك أن المتجه عدم لحوقه بالصبيّة و إن لم تكن زانية كما في المسالك بل في القواعد: إنه الأقرب، بعد الإشكال فيه و كأنّ وجهه

______________________________

[1] بل صرّح بعض بأنه لو صبّ ماء الرجل بعد الوطي، من رحم زوجته ثم اجتذبه رحم امرأة أخرى و تكوّن منه ولد فهو منتسب إلى هذا الرجل و المرأة الثانية دون الواسطة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 87

ممّا عرفت و من صدق عدم الزنا، مع الولادة و لا دليل على كونه بحكمه في ذلك أيضا كما هو واضح نعم لا إشكال في عدم لحوقه بالكبيرة لعدم الولادة.

أقول: يرد عليه إنّ انتفاء الوطي عن عقد صحيح ليس موجبا لعدم إلحاق الولد بالصبية مع تولّده منها فإنّ اللّه تبارك و تعالى الحق عيسى على نبيّنا و آله و عليه السلام بمريم و آبائها و أورثه منهم مع أنه لا عقد هناك و لا وطئ و لا ماء منهم فإنّه قد تكوّن بإرادة اللّه تبارك و تعالى كما قال اللّه سبحانه فَنَفَخْنٰا فِيهٰا مِنْ رُوحِنٰا «1» و مع ذلك فانتسب في لسان الوحي و غيره إلى مريم و عدّه اللّه و جعله من ولد الأنبياء و ورثتهم بمجرّد خلقه في رحم مريم بمشيّة اللّه تعالى و إرادته.

و على الجملة فالظاهر أنه لا

إشكال في إلحاق الولد و أن مجرّد تكوّن الولد في رحم امرأة و بطنها كاف في نسبته إليها و إلحاقه بها. ففي المقام يلحق بالبكر و ينتسب إليها خصوصا بلحاظ إمكان تهييج منيّها و دخلها في تكوّن الولد مضافا إلى تكونه في جوفها و الحاصل أن ما اختاره في الرياض من إلحاقه بالصبية لا إشكال فيه.

نعم ما أفاده من عدم لحوقه بالكبيرة صحيح و ذلك لأنه لم يتولّد منها و إنّما كانت هي سببا لتكوّنه و تولّده.

اللهم إلّا أن يكون لمائها أيضا تأثير في تكوّن الولد و شركتها في تحقّقه بأن يكون الولد متكوّنا من ماء الرجل و ماء الكبيرة المنتقل بالمساحقة إلى البكر و لكن هذا غير معلوم فيرفع.

و قال: إنّها بعد الإذن بوضع النطفة فيها مع فرض علمها بوطي الزوج أو احتمالها لا تستحقّ المهر ضرورة كونها أقوى منها.

و حاصل إيراده أنه لا وجه لإلزام المهر على المساحقة لأن البكر رضيت بذلك فكانت مختارة غير مكرهة، و الزنا بالمختارة لا يوجب المهر و هي كانت عالمة بأنّ المرأة حاملة لماء الزوج و لا أقلّ من أنّها تحتمل ذلك فإذا أذنت و الحال

______________________________

(1) سورة الأنبياء الآية 91.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 88

ذلك فهي بغي و لا مهر لبغيّ.

و فيه أن البكر قد رضيت بالمساحقة لا في الحمل الذي هو سبب لإزالة عذرتها، و لا يقاس المقام بباب الزنا للفرق بينهما و هو أن الزانية رضيت و أذنت في الافتضاض و إذهاب العذرة فلا عوض لها، و هذه لم تأذن في ذلك و إنما رضيت و أذنت في المساحقة و الملاصقة. [1]

و إلى إشكال ابن إدريس نظر المحقّق بقوله في عبارته

الآتية:

رأي بعض المتأخرين

قال المحقّق: و أنكر بعض المتأخّرين ذلك و ظنّ أن المساحقة كالزانية في سقوط دية العذرة و سقوط النسب.

أقول: و قد ظهر الجواب عنه.

ثم إنّه قد أورد صاحب الجواهر على النص- بعد أن أقرّ بأن العمدة حينئذ العمل بالنّص المزبور- بقوله: بل قد يشكل ما فيه أيضا من تعجيل المهر بأنه غرامة قبل تحقّق السبب المحتمل للعدم بالموت و التزويج و نحوه.

يعنى كيف يحكم على الكبيرة بالمهر الآن و معجّلا و الحال أنه غرامة لم يتحقّق سببه و يحتمل أن لا يحصل أصلا بالموت أو تزويجها مثلا و بعبارة أخرى إنّه كالحكم بالقصاص قبل الجناية و ذلك لأن المفروض أنه لم يخرج الحمل بعد فالعذرة باقية فلا مهر و لا غرامة.

و هذا أيضا قابل للدفع لإمكان أن يكون المراد بيان أصل الاستحقاق فيكون تنجزه بالولادة و زوال البكارة كما أنه قدّس سرّه أجاب بذلك أيضا.

و قد تبيّن بما ذكر في المقام أنه ليس في تلك الأحكام ما يخالف القواعد أصلا

______________________________

[1] قال في كشف اللثام: و احتمالها الحمل مع علمها بأن وطئها زوجها أو احتمالها ذلك لا يكفي في الإذن. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 89

و لو فرض كونها خلاف القاعدة فنحن في فسحة بعد ورود النص الصحيح الدّال على ذلك مع عمل الأكثر به.

نعم ابن إدريس رحمه اللّه عليه فهو معذور على حسب مبناه من عدم العمل بأخبار الآحاد.

ثمّ إنّه يتفرّع على الحكم بالإلحاق أي لحوق الولد بالرجل أنه تجب نفقة الصبيّة في مدّة الحمل على هذا الرجل الذي هو زوج المساحقة [1] بناء على أن النفقة للحمل إذا بانت من زوجها.

و يتفرّع عليه أيضا وجوب الاعتداد ما دام الحمل

إلى أن تضع حملها إن تزوّجت بغير زوج الكبيرة.

و من الفروع المتعلقة بالمقام أنه لا يجوز إقامة الحدّ عليها ما دامت حاملا بل تؤخر في الجلد إلى أن تضع و يستغني الطفل. إلى غير ذلك من الفروع و الأحكام، كلّ ذلك لترتّب أحكام الولد كلّها على هذا الحمل كما في الحمل الصحيح و من حملت عن زوجها.

______________________________

[1] قال في كشف اللثام ج 2 ص 229: و النفقة على الصبيّة مدّة الحمل على زوج المساحقة إن قلنا إن النفقة على الحامل إذا بانت من زوجها للحمل و إلّا فلا.

و أقول: راجع الجواهر أيضا ج 31 ص 321.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 90

الكلام في القيادة

اشارة

قال المحقّق: و أمّا القيادة فهي الجمع بين الرجال و النساء للزنا أو بين الرجال و الرجال للّواط.

أقول: و زاد بعض العلماء على العبارة المذكورة: أو بين النساء و النساء للسحق [1].

______________________________

[1] قال السيد أبو المكارم بن زهرة في الغنية: فصل في حدّ القيادة: من جمع بين رجل و امرأة أو غلام و بين المرأتين للفجور فعليه جلد خمسة و سبعين سوطا رجلا أو امرأة حرّا أو عبدا مسلما أو ذميّا. الجوامع الفقهيّة ص 622.

و قال ابن سعيد في الجامع ص 557: و يحدّ الجامع بين الرجال و النساء و النساء و الرجال و الغلمان للفجور خمسا و سبعين جلدة رجلا كان أو امرأة عبدا أو حرّا مسلما أو كافرا.

و قال في كشف اللثام (بعد قول العلّامة: القوّاد هو الجامع بين الرجال و النساء للزنا أو بين الرجال و الصبيان للّواط): و بين النساء و النساء للسحق انتهى.

و يقرب من ذلك عبارة صاحب الرياض قدّس سرّه فراجع كما أن علم التقى

الشيخ المرتضى قدّس سرّه قال: القيادة حرام و هي السعي بين الشخصين لجمعهما على الوطي المحرّم و هي من الكبائر.

أقول: و قد وردت في حرمتها روايات منها ما رواه في الوسائل ج 12 ص 314 ب 27 من أبواب آداب التجارة ح 11 عن كتاب تنبيه الخواطر للشيخ ورّام بن أبي فراس عن النبي صلى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عليه السلام قال: اطلعت في النار فرأيت واديا في جهنّم يغلي فقلت يا مالك لمن هذا؟ فقال: لثلاثة المحتكرين و المدمنين الخمر و القوّادين.

و منها ما رواه في ج 14 ص 266 ب 27 من أبواب النكاح المحرّم ح 1 عن إبراهيم بن زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 91

و لكن قال في الجواهر بعد نقل ذلك عن جمع منهم: لم أتحققه لغة بل و لا عرفا انتهى.

و ذلك لأن الظاهر من القيادة هو الدلالة و الوساطة في الزنا.

كما قال في مجمع البحرين: القوّاد بالفتح و التشديد هو الذي يجمع بين الذكر و الأنثى حراما.

و الروايات الدّالة على حرمتها لا تتعرّض لغير الجميع بين الرجال النساء للزنا مثل ما رواه الصدوق في عقاب الأعمال عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و من قاد بين امرأة و رجل حراما حرم اللّه عليه الجنّة و مأواه جهنّم و ساءت مصيرا و لم يزل في سخط اللّه حتّى يموت «1».

و كذلك ما ورد في حدّ القوّاد و هو خبر عبد اللّه بن سنان [1] الآتي فإنّها لم تتعرّض لبيان ماهيّة القيادة [2] و مجرّد إطلاق القيادة

على الجمع بين الرجل و المرأة لا يفيد النحصار.

و خبر ابن سنان و إن كان مسبوقا بسؤال الراوي عن القوّاد لكن مع ذلك

______________________________

الواصلة و المستوصلة يعني الزانية و القوّادة.

و منها رواية سعد الإسكاف قال: سئل أبو جعفر عن القرامل الّتي يضعها النساء في رءوسهنّ يصلن شعورهنّ قال: لا بأس على المرأة بما تزيّنت به لزوجها قال: فقلت له: بلغنا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن الواصلة و المستوصلة فقال: ليس هناك إنّما لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الواصلة الّتي تزني في شبابها فإذا كبرت قادت النساء إلى الرجال فتلك الواصلة و الموصولة. المكاسب ص 21.

[1] وسائل الشيعة ج 18 ص 429 ب 5 من أبواب حدّ السحق و القيادة ح 1 أقول: و ظاهر هذا الخبر و هو خبر عبد اللّه بن سنان هو حصر القيادة في ذلك فراجع.

[2] أقول: إذا كان ذلك تاما في رواية الصدوق فإنّه لا يتم جدّا في خبر ابن سنان فإنّ ظاهره الحصر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 266 ب 27 من النكاح المحرّم ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 92

يمكن تعرّض الإمام عليه السلام لواحد من أفراده الشائع بين أهل العصيان و هو الجمع بين الرجل و المرأة للزنا كما أنه يمكن إرادة الخصوص.

و لا يخفى أن الحكم في جميع الصور معلوم و هو الحرمة بل لعلّها من الضروريّات كما أن الحكم في القيادة هو الحرمة و الحدّ إلّا أن النزاع في أن الجمع بين الذكرين أو بين الأنثيين أيضا من باب القيادة أم لا؟ و قد علم أن تعميم حكم القوّاد في الفرضين الأخيرين لا يستفاد من الروايات

لعدم تعرّضها لهما.

إذا فلو شكّ في شمول الحكم للموردين فلا يجوز إجراء حكم القيادة أعني الحدّ بل لا بدّ من الحكم بالتعزير.

نعم تمسّك بعض المعاصرين رضوان اللّه عليه في إلحاق الجامع بين الذكر و الذكر، بالأولويّة القطعية «1».

و فيه أن الجزم بالحدّ بالأولويّة مشكل، لأن استفادة حكم الجامع بين الرجلين من حكم الجامع بين الرجل و المرأة- و إن كان اللواط أفحش و آكد حرمة و أشدّ مبغوضيّة- بالطريق الأولى محلّ تأمّل و شبهة و الحدود تدرء بالشبهات.

و حينئذ لم يبق ما يتمسّك به لإثبات الحكم في الموردين إلّا أن يكون هناك إجماع فإن كان فيحكم بتساوي الموارد في هذا الحكم أعني الحدّ و إلّا فلا بدّ من الحكم بالتعزير فيهما.

و لعلّ الإجماع قائم على وحدة الحكم و اشتراك الموارد في الحدّ، و لو كان إشكال فإنّما هو في الإطلاق اسما و الشمول مفهوما و إلّا فالظاهر أن الحكم مجمع عليه بين الأصحاب.

______________________________

(1) راجع جامع المدارك ج 7 ص 90.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 93

فيما تثبت به القيادة و منها الإقرار

قال المحقّق: و يثبت بالإقرار مرّتين مع بلوغ المقرّ و كماله و حريّته و اختياره.

و في الجواهر بعد ذلك: بلا خلاف أجده فيه و كأنّه لفحوى اعتبار الأربع في ما تثبته شهادة الأربع و لذا قال في محكيّ المراسم: كلّ ما يثبته شاهدان من الحدود فالاقرار فيه مرّتان و نحوه عن المختلف.

أقول: فقد تمسّك قدّس سرّه باعتبار خصوص المرّتين في المقام دون الأقلّ بفحوى ما ورد في باب الزنا من قيام أربعة أقارير مقام الشهادات الأربعة فإنّه يستفاد منه أن الميزان و الملاك في الإقرار هو الشهادة فلو كانت القيادة تثبت بالشاهدين فهي تثبت بالإقرارين أيضا.

و فيه

أنه لا محصّل لهذه الفحوى كما لا يخفى لأنه على ذلك لم يبق مورد يكفي فيه الإقرار الواحد و يلزم أن لا يقبل الإقرار مرّة واحدة أبدا فإنّ أيّ مورد فرض لا أقلّ في الشهادة به من اثنين، فأين يقبل الإقرار الواحد؟.

و قد تمسّك أيضا ببناء الحدود على التخفيف و أن الأصل عدم ثبوته إلّا بالمتيقّن الذي هو الإقرار مرّتين.

و فيه إنّه لا مورد لهذا البناء و الأصل مع حجيّة أدلّة الإقرار مرّة واحدة في الموارد بإطلاقها و لا مجال لهما بعد هذا الظهور العامّ.

و في الرياض و مقتضى العموم الثبوت بالإقرار و لو مرّة و لكن لا قائل به أجده بل ظاهرهم الاتّفاق على اعتبار المرّتين و مستندهم من دونه غير واضح.

كما أن صاحب الجواهر أيضا اعترف بالإجماع بقوله بلا خلاف أجده فيه.

و على هذا فلو أقرّ مرّة واحدة فإنّه لا يحدّ نعم يعزّر لاعترافه بالكبيرة.

ثمّ إنه اعتبر في المقرّ أمور- على ما تقدّم في عبارة الشرائع-:

أحدها البلوغ فلا بدّ أن يكون المقرّ بالغا و ذلك لكون الصبيّ مسلوب العبارة نعم لو أقرّ بالقيادة فإنّه يؤدّب فإنّ لضربه عنوان التأديب لا التعزير.

ثانيها كماله بالعقل فلا عبرة بإقرار المجنون أيضا فإنّه كالصبيّ مسلوب

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 94

العبارة.

ثالثها الحرّيّة فلا يقبل إقرار العبد فإنّه و إن لم يكن العبد كالصبيّ و المجنون- مسلوب العبارة بل إقراره حجّة في حدّ ذاته إلّا أنه لا بدّ في الإقرار أن يكون في حقّ نفسه لا في حقّ الغير و بضرره، و هذا الشرط مفقود في إقرار العبد لأنه مال المولى فإقراره إقرار في حقّ المولى يتوجه به الضرر إليه فهو غير مقبول.

رابعها الاختيار فلو

كان مكرها على الإقرار فلا حدّ عليه كما في كلّ ما يوجب الحدّ و في سائر الموارد و ذلك لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رفع ما استكرهوا عليه «1».

هذا لو كان مكرها في الإقرار، و لو أقرّ مختارا بالقيادة مستكرها يقبل منه و لا يحدّ.

يثبت القيادة بشهادة الشاهدين

قال المحقّق: و بشهادة شاهدين.

أقول: فكما تثبت بالإقرار كذلك بشهادة شاهدين، و من المعلوم اعتبار اجتماع شرائط القبول كالعدالة.

و مقتضى العبارة أنه لا تثبت بشهادة غير الرجلين العدلين مع العلم بأنه تقبل شهادة رجل و امرأتين عن شهادة الرجلين في بعض الموارد كما في الدين حيث قال اللّه تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ «2».

قال في الجواهر (بعد كلام المحقق): بلا خلاف و لا إشكال بعد إطلاق ما دلّ على حجّيتها الشامل للمقام، و لا تثبت بشهادة النساء منفردات أو منضمّات لما عرفته في محلّه انتهى.

و لا بدّ من المراجعة إلى الأدلّة كي يعلم أنه هل الأدلّة الدالّة على قيام المرأتين

______________________________

(1) توحيد الصدوق ص 413.

(2) سورة البقرة الآية 282.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 95

مقام الرجل الواحد قد خصّصت في المقام فلا أثر لشهادة المرأة هنا مطلقا أو أن الموارد الّتي صرّحت بجواز شهادة المرأة فيها قد خرجت بالدليل و إلّا فالقاعدة عدم نفوذ شهادة النساء و الاقتصار في الشهادة على الرجال و إنّما خصّصت بالدليل في تلك الموارد الخاصّة. و لعلّ الظاهر هذا و أنه لا خلاف فيه كما يظهر من عبارة الجواهر المذكورة آنفا.

في حكم القيادة

قال المحقّق: و مع ثبوته يجب على القوّاد خمس و سبعونه جلدة.

أقول: و هذا ثلاثة أرباع حدّ الزاني. و استدلّ على ذلك بالإجماع و الأخبار أمّا الإجماع ففي المسالك: اتّفق الجميع على أن حدّ القيادة مطلقا خمس و سبعون جلدة انتهى.

و قال في الانتصار: و ممّا انفردت به الإماميّة القول بأن من قامت عليه البيّنة بالجمع بين الرجال و النساء أو الرجال و الغلمان للفجور وجب أن يجلد خمسا و سبعين جلدة (إلى أن

قال): و الحجّة لنا فيه إجماع الطائفة انتهى.

و قال في الغنية: من جمع بين رجل و امرأة أو غلام و بين المرأتين للفجور فعليه جلد خمسة و سبعين سوطا رجلا أو امرأة (إلى أن قال:) كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة انتهى.

و أمّا الأخبار ففي خبر عبد اللّه بن سنان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أخبرني عن القوّاد ما حدّه؟ قال: لا حدّ على القوّاد أ ليس إنّما يعطى الأجر على أن يقود؟ قلت: جعلت فداك إنّما يجمع بين الذكر و الأنثى حراما قال:

ذاك المؤلّف بين المذكر و الأنثى حراما فقلت: هو ذاك قال: يضرب ثلاثة أرباع حدّ الزاني خمسة و سبعين سوطا و ينفى من المصر الذي هو فيه «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ السحق ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 96

و هو و إن كان ضعيفا لأن في طريقة محمّد بن سليمان و هو مشترك بين جماعة منهم الثقة و منهم غيرها إلّا أنه بناءا على القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور فهو مجبور و بهذا الاعتبار يكون قويّا.

و على الجملة فلا خلاف و لا كلام في وجوب ذلك و إنّما اختلفوا في ثبوت حكم آخر معه كالنفي و الحلق و الشهرة و قد كان النفي مذكورا في خبر عبد اللّه بن سنان و سيأتي حكم الحلق و الشهرة.

في حلق رأس القوّاد و تشهيره

قال المحقّق: و قيل يحلق رأسه و يشهّر

أقول: و ممّن أفتى بذلك الشيخ في النهاية فقال: الجامع بين النساء و الرجال و الغلمان للفجور إذا شهد عليه شاهدان أو أقرّ على نفسه بذلك يجب عليه ثلاثة أرباع حدّ الزاني خمسة و سبعون جلدة و يحلق

رأسه و يشهّر في البلد ثم ينفى عن البلد الذي فعل ذلك فيه إلى غيره من الأمصار «1».

ثمّ إنّ المحقّق قدّس سرّه قد عبّر بلفظ المجهول إشعارا بضعفه، لكن في الجواهر أنه مشهور بين الأصحاب الذين منهم ابن إدريس ثمّ نقل الإجماع المنقول عن السيّدين في الانتصار و الغنية، ثمّ قال: و لعلّ ذلك كاف في ثبوت مثله مضافا إلى إشعار النفي المراد منه شهرته بذلك.

فاعتمد هنا و اطمأن بلزوم الأمرين أوّلا بالشهرة و الإجماع المنقول ثم بذكر النفي في رواية ابن سنان المشعر باعتبار الشهرة بسبب نفيه عن البلد و حلق رأسه، و أن اللّازم صيرورته مشهورا بالشناعة. و حيث اعتمد على ذلك أورد على المحقّق و غيره بقوله: فما عساه يظهر من المصنّف من التردّد في ذلك بل عن ابن الجنيد الاقتصار على مضمون الخبر المزبور بل مال إليه في المسالك في غير

______________________________

(1) النهاية ص 710.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 97

محلّه انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: و الظاهر أن تردد المحقق المستفاد من نسبة ذلك إلى القيل في محلّه و هو أحسن و أولى من تجزّم الجواهر على اعتبار الحلق، و ما ذكره من الوجهين لا يتمّ بهما المطلوب.

أمّا الأوّل فإثبات الحكم في مثل هذه الموارد بمجرّد الشهرة و الإجماع المنقول في غاية الإشكال و ذلك لأنه لا شكّ في كون كلّ من الحلق أو الشهرة موجبا لإيذاء المؤمن و هتك عرضه و يشكل الجزم بذلك بهما. نعم لو حصل الجزم و القطع بهذا الإجماع يؤخذ به لكنّه مشكل خصوصا و أن السيد ابن زهرة ينقل الإجماع كثيرا مع عدم تحقّقه في كثير من الموارد الّتي يدّعيه. و أمّا الثاني

ففيه أن مجرّد نفي البلد غير مستلزم لذلك لإمكان تبعيده عن مصره بلا ترتّب الشهرة عليه. و لو شكّ في وجوب شي ء زائدا على أصل الحد فقاعدة درء الحدود تقتضي الاقتصار على المتيقّن.

هذا كلّه بالنسبة إلى الحلق و الشهرة و أمّا النفي من البلد فقد مرّ التصريح به في رواية ابن سنان.

الكلام في أنه ينفى في أوّل مرّة أم لا

نعم هنا بحث في أنه هل ينفى في أوّل مرّة أتى بهذا الفعل الشنيع أو أنه ينفى في المرّة الثانية؟.

قال المحقق: و هل ينفى بأوّل مرّة؟ قال في النهاية: نعم، و قال المفيد: ينفى في الثانية، و الأوّل مرويّ.

أقول: ظاهر الروايات كخبر ابن سنان هو الأوّل و قد تقدم ذكره، و في خبر فقه الرضا عليه السلام: و إن قامت بيّنة على قوّاد جلد خمسة و سبعين و نفي عن المصر الذي هو فيه، و روي: النفي الحبس سنة أو يتوب «1» و قد أفتى به الشيخ

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 18 ص 87 ب 5 من حدّ القيادة و السحق ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 98

الطوسي قدس سره في النهاية كما مرّ كلامه آنفا و تبعه بعض الأعلام، خلافا للشيخ المفيد قدس سره حيث إنّه أفتى بنفيه في المرّة الثانية. و قد ذهب إليه جمع آخر من الأعلام كابن زهرة و ابن حمزة و سلّار و غيرهم.

ففي المقنعة بعد الحكم بجلد القوّاد و حلق رأسه و تشهيره في البلد: فإن عاد المجلود على ذلك بعد العقاب عليه جلد كما جلد أوّل مرّة و نفي عن المصر الذي هو فيه إلى غيره انتهى «1» و قد قال المحقّق بأن الأوّل مرويّ انتهى و ظاهره الميل إليه.

و في الجواهر: لا

ريب أن الأحوط الثاني بل عن الغنية الإجماع عليه.

و فيه: أنه لا مورد للاحتياط بعد الاعتراف بأن الأصل في المسألة الخبر و الاعتراف بظهوره في النفي بأوّل مرّة.

و لو سلّم أنه مجمل فالأمر يدور بين وجوب تعجيل النفي بأوّل مرّة و حرمته إلى أن يتكرّر و من المعلوم أنه لا معنى للاحتياط عند دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة، اللّهم إلّا أن يقال: إنّه لما ذهب جمع إلى عدم جواز النفي إلّا في المرّة الثانية فلا محالة يصير النفي في المرّة الأولى مشكوكا و موردا للشبهة و الحدود تدرء بالشبهات. و لكن فيه إنّه لا وجه للترديد و الشبهة بعد ظهور الرواية المعمول بها في النفي بأوّل مرّة.

و بذلك يظهر ما في الرياض من قوله: و الأحوط القول الثاني بل لعلّه المتعيّن للأصل و دعوى الإجماع عليه في الغنية و هو أرجح من الرواية المذكورة من وجوه منها صراحة الدلالة فتقيّد به الرواية انتهى.

أمّا الاحتياط فقد تقدّم ما فيه من الإشكال. و أمّا الأصل فلا مورد له مع وجود الرواية. و أمّا الإجماع المنقول فالكلام في حجيّته فضلا عن تقدّمه على الرواية.

و يمكن أن يقال بالنسبة إلى عمل المشهور بأنا لا نجزم بعمل المشهور بهذه

______________________________

(1) المقنعة الطبع الجديد ص 791.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 99

القسمة أيضا من الرواية إذا فيزول الوجوب بدرء الحدود.

و كيف كان فلا وجه للتمسّك بالاحتياط في المقام.

الكلام في منتهى أمد النفي

ثمّ إنّه و إن كان أصل النفي مذكورا في رواية عبد اللّه بن سنان إلّا أنه لا تعرّض فيها لمدّته و نهاية أجله و لم يتعرّض العلماء لتحديده كما رأيت ذلك في عبارة المحقّق نعم في عبارة الجواهر نوع تعرّض

له كما سيأتي. و قال ابن إدريس:

و ينفى عن البلد إلى غيره من الأمصار من غير تحديد لمدّة نفيه انتهى.

فنقول: إنّه بعد عدم التعرض لذلك في الأدلّة و الكلمات يأتي هنا احتمالات:

أحدها: تحقّق مجرّد النفي و صدق ذلك و عليه فيكفي أن ينفى من قم مثلا إلى تهران، و مجرّد وصوله إليها كاف في ذلك و له أن يرجع و يعود بمجرّد وصوله إليها. لكن هذا الاحتمال واضح الفساد و لا يصار إليه.

ثانيها: ما ذكره صاحب الجواهر رضوان اللّه عليه من أنه لا بدّ أن يكون هناك إلى أن يتوب فإذا تاب يجوز له العود إلى وطنه. قال: ليس في الخبر تحديد له فينبغي أن يكون حدّه التوبة إذ بدونها يصدق عليه اسمه [1] و حاصل التعليل أنه ما دام لم يتب يصدق عليه (القوّاد) و بقاء الاسم و صدق العنوان موجب لبقاء الحكم. و أمّا الحدّ فقد أقيم عليه فلا يتكرّر بدون تكرار الفعل- بلا خلاف- و فيه أن الحكم ليس متعلقا بالاسم و جاريا عليه بل الموجب له هو عمل القوّاد، و الملاك هو الفعل المحرّم الخاصّ و هو قد انعدم بعد وجوده، و لأجل أن الحكم متعلق بذات الفعل فلو عاد إلى فعل القيادة ثانيا يجلد ثانيا و ينفى من

______________________________

[1] الظاهر أن أصل هذا المطلب من كشف اللثام فإنه قال: و لم يحدّ أحد منهم مدّة النفي لإطلاق الخبر، و حدّه المصنّف إلى أن يتوب لأنه قضيّة الإطلاق لدلالة اللفظ على نفي القوّاد و ما لم يتب يصدق عليه اسمه فيجب نفيه انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 100

البلدة المنفيّ إليها إلى غيرها أيضا. اللّهم إلّا أن يقرّر المطلب

بأن علّة الحدوث علة البقاء فإذا وجدت علّة الحدوث و هو صرف الوجود من القيادة الموجب لإخراجه من بلده فهو كاف في استمرار هذا النفي إلى أن يتوب فهذا الفعل كاف في استمرار النفي إلى أن يحصل العلّة الرافعة له و هي التوبة و حينئذ تنقطع العلّة و إن كان الصدق الاسمي باقيا بعد تلبّسه بالمبدإ أوّلا فإنّ هذا لا يوجب دوام الحكم أي النفي.

و إن أمكن الإشكال بأنّه على فرض كفاية الحدوث في البقاء و كون علّة الحدوث علّة البقاء و الاستمرار يلزم الحكم مطلقا و قطع هذا الحكم بالتوبة يحتاج إلى دليل.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 100

لكنّ الإنصاف عدم وروده لأن مقتضى قوله صلّى اللّه عليه و آله: التائب من الذنب كمن لا ذنب له «1» هو صيرورته كمن لم يأت بهذا العمل القبيح فلا عقوبة عليه سواء كان أخرويّا كالعذاب أو دنيويّا كالنفي و لا وجه لاحتمال كون المراد من عدم ذنب عليه هو العقوبة و العذاب و ذلك لكون النفي أيضا نوعا من العقوبة فهو كالعذاب الأخروي.

لا يقال: فعلى هذا فلا قضاء على من ترك صلاته و صيامه بعد أن تاب إلى اللّه تعالى و الحال أنه لا شكّ في لزوم القضاء عليه.

لأنا نقول: إنّ مسألة القضاء مسألة أخرى غير العقوبات و الذي يرتفع بالدليل المزبور هو العقوبات وحدها.

و على الجملة فرفع النفي عنه بسبب التوبة و قطع هذا الحكم عنه بذلك أمران بينهما كمال المناسبة و الملائمة فإنّ التوبة كالماء بعينه الذي يزيل النجاسة، و تعمل

التوبة في نفس الإنسان بالنسبة إلى المعصية ما يعمله الماء في بدن الإنسان أو ثوبه بالنسبة إلى القذارة أو النجاسة الحاصلة فيهما.

ثالثها ما ورد في خبر من التحديد بالسّنة أو يتوب ففي خبر الفقه الرضوي

______________________________

(1) بحار الأنوار طبع بيروت ج 6 ص 21.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 101

المتقدّم آنفا: و روي: النفي هو الحبس سنة أو يتوب «1» قال في كشف اللثام: و في بعض الأخبار النفي هو الحبس سنة. و فيه أنه مرسل يفسّر النفي بالحبس سنة و لا يصحّ رفع اليد عن الظاهر به.

قال في الرياض: و ظاهر النفي في الفتوى و النصّ إنّما هو الإخراج من البلد و لكنّ في الرضوي و غيره: روي أن المراد به الحبس سنة أو يتوب، و الرواية مرسلة فلا يعدل بها عن الظاهر بلا شبهة انتهى.

أقول: بل إنّ رواية ابن سنان التي هي الأصل في الحكم بالنفي كالصريحة بخلاف ذلك، و ذلك لأن لفظها: و ينفى من المصر الذي هو فيه، فكيف يقال بأن النفي هو الحبس سنة، و الحال هذه؟.

إلّا أن يقال: إنّ غرض الشارع من نفيه عن البلد عدم كونه في المجتمع الذي ارتكب فيه هذا العمل الشنيع و هذا الفرض كما يحصل بإخراجه من البلد كذلك يحصل بالحبس. و هو كما ترى [1].

لا فرق في حكم القوّاد بين الحرّ و العبد.

قال المحقّق: و يستوي فيه الحرّ و العبد و المسلم و الكافر.

أقول: و قد استدلّ لذلك بالإطلاق و ذلك لأن لسان رواية عبد اللّه بن سنان:

أن الجامع بين الذكر و الأنثى حراما يضرب ثلاثة أرباع حدّ الزاني خمسة و سبعين سوطا إلخ و هذا مطلق شامل للحرّ و العبد و هكذا يشمل المسلم و الكافر.

لكن لا

يخفى أن هذا لا يساعد و لا يلائم الروايات الناطقة بأن حدّ العبد نصف الحرّ و هي أيضا بإطلاقها شاملة للمقام. ففي رواية سليمان بن خالد عن أبي عبد

______________________________

[1] أقول: و يمكن أن يقال إنّ كميّة مقدار النفي موكول بنظر الحاكم بل هو وجه وجيه و إن لم يذكره سيدنا الأستاذ الأكبر دام ظله.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 18 ص 87 ب 5 من حدّ القيادة و السحق ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 102

اللّه عليه السلام قال: قيل له فإن زنى و هو مكاتب و لم يؤدّ شيئا من مكاتبته؟

قال: هو حق اللّه يطرح عنه من الحدّ خمسين جلدة و يضرب خمسين «1».

و عن محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام في عبد بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه ثمّ إنّ العبد أتى حدّا من حدود اللّه قال: إن كان العبد حيث أعتق نصفه قوّم ليغرم الذي أعتقه نصف قيمته، فنصفه حرّ يضرب نصف حدّ الحرّ، و يضرب نصف حدّ العبد، و إن لم يكن قوّم فهو عبد يضرب حدّ العبد «2» فإنّ ظاهر هاتين و أمثالهما هو العموم و إنّ الملاك هو حدّ من حدود اللّه سبحانه فإنّه ينصّف و من المعلوم أن الحدود كلّها حقّ اللّه، و حدود اللّه، و من جملتها حدّ القيادة.

و هذه الرواية إمّا حاكمة أو مخصّصة و ذلك لأنه إن كان موضوعها الحدّ فتكون ناظرة إلى أدلّة الحدود المقرّرة على المعاصي الخاصّة كالدليل الدّالّ على أن حدّ شرب الخمر ثمانون جلدة و حدّ الزنا مأة إلى غير ذلك من الحدود.

فروايات العبد تقول بأن حدّ العبد في الموارد

المختلفة هو النصف فتكون حاكمة، و لو كان الموضوع فيها هو العبد فهي مخصّصة و كأنّه قيل: كلّ من زنى يجلد مأة إلّا العبد فإنّه يضرب خمسين و كلّ من شرب الخمر فإنّه يجلد ثمانين إلّا العبد فإنّه يجلد أربعين و هكذا.

هذا مضافا إلى اشتمال بعض الأخبار الواردة في المقام على التعليل في الحكم بالنصف، فعن مروان بن مسلم عن عبيد بن زرارة أو بريد العجلي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أمة زنت، قال: تجلد خمسين جلدة، قلت: فإنّها عادت قال: تجلد خمسين، قلت: فيجب عليها الرجم في شي ء من الحالات؟

قال: إذا زنت ثماني مرات يجب عليها الرجم قلت: كيف صار في ثماني مرّات؟

فقال: لأن الحرّ إذا زنى أربع مرّات و أقيم عليه الحدّ قتل، فإذا زنت الأمة ثماني

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 31 من أبواب حدّ الزنا ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 33 من أبواب حدّ الزنا ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 103

مرّات رجمت في التاسعة قلت: و ما العلّة في ذلك؟ قال: لأن اللّه عزّ و جلّ رحمها أن يجمع عليها ربق الرّق و حدّ الحرّ قال: ثمّ قال: و على إمام المسلمين أن يدفع ثمنه إلى مواليه من سهم الرقاب «1».

قال المحدّث الحرّ العاملي: و رواه الصدوق بإسناده عن إبراهيم بن هاشم نحوه إلّا أنه قال: في عبد زنى.

فقد علّل تنصيف الحدّ في المملوكة بأن اللّه رحمها و لم يجمع عليها حبل الملكيّة و حدّ الحرّية.

فمقتضى هذه الروايات و هذا التعليل هو الحكم بالنصف في المقام أيضا و لم يتعرّض العلماء لهذا البحث في المقام.

نعم قد تعرّض له بعض المعاصرين إشارة و

بصورة الترديد و الإجمال قال قدّس سرّه: و إطلاق الحدّ على فرض الحجيّة يشمل جميع ما ذكر فلا بدّ من ملاحظة ما دلّ على تنصيف الحدّ بالنسبة إلى المملوك هل يشمل المقام أو لا؟. «2».

و التحقيق أنه لو كان المعتمد في الحكم بعدم الفرق إطلاق رواية ابن سنان فمقتضى القاعدة تقديم روايات العبد خصوصا بلحاظ التعليل المزبور، و اللازم العمل بها و الحكم بالنصف في المقام أيضا و على ذلك فليس الإطلاق وجها في الحكم بتساوي الحرّ و العبد و عدم الفرق بينهما في الحكم.

نعم يمكن أن يقال إنّ المعتمد هو الشهرة أو الإجماع كما عن الانتصار و الغنية ادّعاؤه على عدم الفرق بينهما.

و في الرياض: بلا خلاف عليه بل الإجماع في الانتصار و الغنية و هو الحجّة انتهى. و في الجواهر: لا خلاف، أيضا إلى غير ذلك من الكلمات و على الجملة فهم قد صرّحوا هنا بعدم الفرق بين الحرّ و العبد [1] و لو لا ذلك فقاعدة الدرء

______________________________

[1] يقول المقرّر: و ممّن صرّح بذلك أبو الصلاح الحلبي في الكافي ص 410 و المحقّق في

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 32 من حدّ الزنا ح 1.

(2) جامع المدارك ج 7 ص 90.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 104

أيضا تقتضي العمل بروايات العبد.

متى يقتل القوّاد

قال السيد أبو المكارم ابن زهرة قدّس سرّه في الغنية، بعد أن ذكر حكم القوّاد في المرّة الأولى و أنه في الثانية يجلد و ينفى عن المصر: و روي أنه إن عاد ثالثة جلد، فإن عاد رابعة عرضت عليه التوبة فإن أبى قتل، و إن أجاب قبلت توبته و جلد فإن عاد خامسة بعد التوبة قتل من غير أن

يستتاب انتهى.

فقد نسب ذلك إلى الرواية و أرسلها. و أفتى بذلك الحلبي في الكافي قال: فإن عاد رابعة استتيب فإن تاب قبلت توبته و جلد، و إن أبي التوبة قتل، و إن تاب ثم أحدث بعد التوبة خامسة قتل على كلّ حال انتهى. «1».

و قد تعرّض العلّامة أعلى اللّه مقامه لنقل كلام أبي الصلاح و قال بعد ذلك:

و نحن في ذلك من المتوقّفين «2» فتوقّف و لم يوافقهما على ذلك.

و قال في الجواهر: بل ينبغي العمل بما دلّ على قتل أصحاب الكبائر في الثالثة أو الرابعة بعد تخلّل الحدّ.

حكم المرأة

قال المحقّق: و أمّا المرأة فتجلد و ليس عليها جزّ و لا شهرة و لا نفي.

أقول: إنّ ما ذكر إلى الآن كان حكم الرجل و أمّا لو كان القوّاد امرأة فهي أيضا تجلد الحدّ المخصوص و لكن سائر الأحكام كالجزّ و الشهرة و النفي فلا تجري في حقّها.

______________________________

الشرائع و النافع، و العلّامة في التحرير ص 225.

[1] الكافي ص 410.

______________________________

(1) المختلف ص 767.

(2) الكافي ص 767.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 105

و استدلّ على ذلك في الرياض بقوله: بلا خلاف أجده بل عليه الإجماع و في الانتصار و الغنية: و هو الحجّة، و مضافا إلى الأصل، و اختصاص الفتوى و الرواية بحكم التبادر بالرجل دون المرأة، مع منافاة النفي و الشهرة لما يجب مراعاته من ستر المرأة انتهى كلامه رفع مقامه. كما أنه في الجواهر قال: اتّفاقا على الظاهر منهم كما اعترف به في كشف اللثام، كما أنه وافقه في الأصل لكن أورد عليه فيما أفاده بعد ذلك بأنّه لا دليل حينئذ على جلدها يعني إذا كان المتبادر من الفتوى و الرواية، و الموضوع فيهما

هو الرجل فكما أنه لا شهرة و لا حلق و لا نفي في غيره أعني الرجل كذلك لا وجه لجلد غيره أي المرأة و لا دليل عليه.

و نحن نقول: إنّ السؤال في خبر عبد اللّه بن سنان عن القوّاد و هو بظاهره هو الرجل القوّاد و ليس السؤال عن القوّادة فلا حاجة إلى التبادر بعد هذا الظهور.

إلّا أن الظاهر من أمثال هذه الأسئلة و الكلمات هو أنه لا خصوصيّة للرجل و لا اختصاص عند السائل و المسئول للرجل بما هو رجل بل المقصود هو المكلّف حتّى فيما إذا ذكر لفظ الرجل و التصريح به كما في قولهم: رجل شكّ بين الثلاث و الأربع، فإنّ السؤال راجع إلى الشاكّ و المكلّف من دون نظر إلى الرجل، بل إنّ خصوصية الرجولية ملغاة و حينئذ فالملاك الكلّي و المعيار الأصليّ في المقام هو القيادة و الوساطة بين شخصين لاجتماعهما على الحرام و حصول العمل الشنيع سواء كان المقدم عليه رجلا أو امرأة و بلحاظ المناط نعلم أن الموضوع هو الأعمّ و إن كان لفظه ظاهرا في الخاصّ و على هذا فالجلد حكم مطلق من صار واسطة لاقتراف الزنا مثلا لا لخصوص الرجل الذي كان كذلك، و لا تبادر في مثل المقام.

و أمّا عدم جريان الحلق و الشهرة و النفي بالنسبة إليها فلعلّه لما هو معلوم من مذاق الشارع في أمر النساء، و اهتمامه البالغ في سترهنّ و عفافهنّ و عدم تبرّزهن و أن النساء عيّ و عورة فإنّ جزّ رأسهن و إبرازهن و الإطافة بهن في البلد و كذا إخراجهنّ إلى بلد آخر ينافي هذا المقصد السامي، فالشارع الذي يجدّ و يهتمّ في ستر النساء بحيث يحكم مثلا

بتجريد الرجل للحدّ دون المرأة فإنّه لا يرضى بتلك الأمور المنافية له.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 106

في حدّ القذف

اشارة

قال المحقّق: و النظر في أمور أربعة الأوّل في الموجب و هو الرمي بالزنا أو اللواط كقوله: زنيت أو لطت، أو ليط بك أو أنت زان أو لائط و ما يؤدّي هذا المعنى صريحا.

أقول: القذف في اللغة الرمي يقال: قذف بالحجارة أي رماها و في الاصطلاح رمي الغير بالزنا أو اللواط، و كأنّ السّابّ يرمي المسبوب بالكلمة المؤذية و لم يتعرّض المحقّق لتعريف القذف و تفسيره لأن مورد الحاجة و محلّ الابتلاء هو ما يوجب الحدّ المذكور هنا.

و قد عرّفه في الرياض بقوله: و شرعا قيل رمي المسلم الحرّ الكامل المستتر بالزنا أو اللواط.

و في مجمع البحرين: القذف الرمي يقال: قذفت بالحجارة قذفا من باب ضرب رميت بها و قذف المحصنة رماها بالفاحشة.

و يدلّ على حرمته و حدّه الكتاب و السّنة و الإجماع.

أمّا الكتاب فهو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ الْغٰافِلٰاتِ الْمُؤْمِنٰاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ «1» و قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2».

و أمّا الأخبار فهي كثيرة و سيأتي بعضها إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1) سورة النور الآية 23.

(2) سورة النور الآية 4 و 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 107

و كيف كان فالكلام هنا في الموجب و قد ذكر أنه الرمي بالزنا أو اللواط و لا شكّ في أن الرمي بهذين موجب للحدّ [1].

و أما

الرمي بالسحق فهو و إن كان حراما بلا كلام إلّا أن في إيجابه الحدّ كلاما و استشكل فيه العلّامة في القواعد، قال في اللواحق من باب القذف: و لو قذفه بالإتيان بالبهيمة عزّر و كذا لو قذفه بالمضاجعة أو التقبيل أو قذف امرأة بالمساحقة على إشكال. و هذا الإشكال ناش من جريان وجهين في المقام أحدهما يقتضي الحدّ و الآخر عدمه فمن حيث إنّه كالزنا و لذا كان فيه حدّ الزنا و اعتبرت في شهادة الأربع أو الإقرار أربعا فيعمّه آية الرمي فيحكم على الرمي بالمساحقة الحدّ، و من حيث أن الأصل هو العدم و البراءة فلا حدّ كما أن خبر عبد اللّه بن سنان أيضا يدلّ على الوجه الثاني و سيأتي ذكره.

قال فخر المحقّقين قدّس سرّه عند تقرير الإشكال: قال المصنّف: فيه إشكال، ينشأ من أن المساحقة كالزنا و من أصالة البراءة و الأقوى عندي اختيار المصنّف في المختلف و هو التعزير «1».

و أمّا الرواية فعن عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: قضى أمير المؤمنين عليه السلام أن الفرية ثلاث يعنى ثلاث وجوه: إذا رمى الرجل الرجل بالزنا، و إذا قال: إنّ أمّه زانية، و إذا دعا لغير أبيه، فذلك فيه حدّ ثمانون «2» تقرير الاستدلال بها إفادتها حصر الفرية في ثلاث، و ليس المقام منها.

و فيه: إنّ الرواية ليست في مقام الحصر و لذا لا تعرّض فيها للرمي باللواط بل إنّما هي في مقام التعرّض لبيان وجوه نسبة الزنا فلا يتمّ التمسّك بها في إثبات

______________________________

[1] يقول المقرّر: و لكن المستفاد من كلمات بعض العلماء أن القذف خصوص الرمي بالزنا قال سلّار في المراسم ص 255: و من

قذف لا بالزنا عزّر و قال في ص 256: و ما عدا الرمي بالزنا ففيه التعزير.

______________________________

(1) إيضاح الفوائد ج 4 ص 509.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 108

عدم كون الرمي بالسحق قذفا موجبا للحدّ.

و الظاهر منها أن الرمي لا ينحصر في رمي شخص المخاطب بنفسه و قذفه بالزنا بل يتحقّق القذف إذا تكلّم بكلام كان معناه رمي غير المخاطب فإذا رمى أمّ المخاطب بالزنا أو ادّعى لغير والده فقد تحقّق القذف و يوجب الحدّ و كان ذو الحق هو المنسوب إلى الزنا دون المخاطب.

و أمّا الأصل فإن كان المقصود أصالة عدم الحدّ ففيه أنه معارض بأصالة عدم التعزير فإنّ كان المقصود أصالة عدم الحدّ ففيه أنه معارض بأصالة عدم التعزير فإنّ الأصل في كلّ منهما العدم. نعم لو كان المقصود من الحدّ الجلد و التعزير فيمكن أن يقال: إنّ ما دون الحدّ معلوم، و الزائد حتّى يبلغ الحدّ مشكوك فيه و الأصل عدمه.

و بعبارة أخرى إنّ العلم الإجمالي حاصل بأنه إمّا أن يلزم عليه ثمانون جلدة لو كان الرمي بالسحق كالرمي بالزنا، و إمّا أنه يجب عليه دون ذلك بعنوان التعزير بناءا على أن كلّ معصية كبيرة يجب فيها التعزير، و المتيقّن هو الأقلّ.

و أمّا الوجوه التي تمسّك بها لتقريب الوجه الأوّل أي إلحاق الرمي بالمساحقة بالرمي بالزنا و إقامة الحدّ على الرامي هنا أيضا، فلا يصحّ التمسك بها أيضا لإثبات المطلوب فإنّ إثبات ذلك بوحدة الحدّ في الزنا و المساحقة و اعتبار الأربعة في الشهادة و الإقرار في كلام الموردين يشبه القياس، و كيف يمكن إثبات حكم اللّه تعالى به.

و

على الجملة فإثبات أصل السحق بالأربعة شهادة و إقرارا و عدم إثباته بأقل منها كما في باب الزنا بعينه و كذا كون حدّ أصل السحق كحدّ الزنا لا يدلان على أن الرمي بالسحق كالرمي بالزنا. و ليس في المقام تنقيح مناط قطعيّ كما أن التمسك بإطلاق الزنا على المساحقة في بعض الروايات أيضا لا يوجب إثبات حدّ الرمي بالزنا للرمي بالمساحقة فإن هذا الإطلاق من باب المبالغة و إظهار شدّة فظاعة هذه المعصية. أضف إلى ذلك أن الرواية المتضمّنة لهذا التشبيه ليست

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 109

في المجاميع الروائية الأصليّة الصحاح بل هي منقولة في المستدرك و الجعفريّات مثلا.

و على الجملة فلا دليل على كون الرمي بالسحق كالرمي بالزنا و إيجابه الحدّ و لذا قوّى صاحب الجواهر عدم ترتّب الحدّ عليه وفاقا للمحكيّ عن السرائر و المختلف فيبقى أنه حيث كان من الكبائر يجب فيه التعزير، بناء على وجوب التعزير على ارتكاب كلّ كبيرة.

ثم لا يخفى أن إشكال العلّامة كما هو صريح عبارته أو ظاهرها متعلّق بالتعزير حيث إنّه حكم أوّلا بالتعزير في القذف بإتيان البهيمة و كذا على القذف بالمضاجعة أو التقبيل ثم استشكل في قذف المرأة، و الحال أن ظاهر عبارة الجواهر أن الإشكال في الحدّ. فالعلّامة رحمه اللّه يستشكل في جريان التعزير لاحتمال الحدّ، و صاحب الجواهر ينسب إليه أنه استشكل في الحدّ المستفاد منه أنه يحتمل التعزير. ثم إنّ تعبير الآيات الكريمة هو الرمي إلّا أنه لمّا ورد في الروايات التعبير بالقذف فلذا صار عنوان الباب في كلمات الفقهاء بالقذف نعم ورد في الروايات التعبير بالفرية و الافتراء أيضا.

و لعلّه يبدو في الذهن أنه لماذا سمّي بالفرية

و الحال أن القاذف رأى و علم ذلك من المقذوف؟ لكنّه مدفوع بأنه افتراء تعبّدا كما في الآية الكريمة فَأُولٰئِكَ عِنْدَ اللّٰهِ هُمُ الْكٰاذِبُونَ «1» حيث أطلق على الذين جاءوا بالإفك و لم يأتوا بأربعة شهداء: الكاذبين.

ثم إنّ المحقّق قدّس سرّه ذكر مصاديق للقذف الموجب للحدّ:

منها أن يقول القاذف للمقذوف: زنيت بفتح التاء- أي بلفظ المخاطب- و منها أن يقول له: لطت، كذلك حتّى يكون خطابا و نسبة إلى المخاطب.

و منها أن يقول: ليط بك، بلفظ المجهول.

و منها قوله: أنت زان.

______________________________

(1) سورة النور الآية 13.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 110

و منها قوله: أنت لائط.

و منها قوله: أنت منكوح في دبره. ثم قال رحمه اللّه: و ما يؤدّي هذا المعنى صريحا.

و مثّل له صاحب الجواهر بقوله بعد ذلك: كالنيك و إدخال الحشفة حراما انتهى و ظاهر كلام المحقق الذي اعتبر الصراحة في المعنى أنه لو كان اللفظ ظاهرا في الرمي و نسبة الفاحشة إليه فهو لا يؤثّر في إيجاب الحدّ.

و الظاهر أنه خلاف التحقيق و لذا قال في الجواهر: و لعلّ المراد بالصراحة ما يشمل الظاهر عرفا و إن أشكل بوجود الاحتمال الذي يدرء به الحدّ لكن ظاهرهم كما اعترف به الاتّفاق على الحدّ بذلك، و لعلّه للنصوص المزبورة و لصدق الرمي انتهى.

و التحقيق أن الظاهر معنى مستقلّ و مفهوم بحياله في قبال النص، و المتعارف في المحاورات و التفاهمات العرفيّة هو الظهورات بل لعلّ الصريح أقلّ قليل، فانصراف الرمي إلى الصريح منه خلاف الظاهر، فهذه الأخبار و الروايات العديدة الّتي هي ظهورات، لا تنافي احتمال الخلاف فاشتراط الصراحة في المقام لا وجه له بل كما يؤخذ بالصريح كذلك يؤخذ بالظهور و لذا

قال رضوان اللّه عليه: لعلّ المراد بالصراحة ما يشتمل الظاهر عرفا.

لا بدّ من معرفة القائل باللغة التي رمي بها

قال المحقّق: مع معرفة القائل بموضوع اللفظ بأيّ لغة اتّفق.

أقول: لا بدّ في تحقّق القذف أن يكون القاذف عارفا بمعنى اللفظ الموضوع له كي يصدق أنه قد نسب هذه النسبة القبيحة إلى المقذوف فإذا لم يكن عارفا بالمعنى و تفوّه بالكلمة السيّئة فهو و إن ذكر اللفظة لكنّه حيث لا يعلم معناها بل ربّما تخيّلها كلمة حسنة و نسبة فأخره فلا حدّ عليه. نعم لو كان يعلم إجمالا أن هذه الكلمة تؤذي المخاطب أو توجب وهنه فحينئذ يجب تعزيره للإيذاء

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 111

و التوهين.

قال في النافع بعد ذكر بعض ألفاظ القذف: إذا كانت مفيدة للقذف في عرف القائل و لا يحدّ مع جهالته فائدتها.

و أورد عليه بعض المعاصرين بقوله: و أمّا ما ذكر من أنه لا يحدّ مع جهالته فائدتها ففي إطلاقه نظر فإنّ الجاهل تارة لا يخطر بباله أن كلامه رمي فلا إشكال فيه، و أخرى يحتمل، فمع الاحتمال كيف يكون معذورا و هذا كما لو قال أحد في مقام العداوة: قل لفلان كذا و كذا من الألفاظ الصريحة في الرمي أو الشتم و قال الواسطة: الألفاظ المذكورة، لفلان المذكور مع احتمال الواسطة أن يكون القول المذكور رميا أو شتما فهل يكون الواسطة معذورا؟ كما لو أمر كاتبه: اكتب لفلان كذا و كذا بلغة لا يعرفها الكاتب مع احتمال الرمي و الشتم، فالكاتب ليس معذورا عند المكتوب إليه.

و حاصل كلامه و إشكاله الفرق بين الجاهل المركّب و البسيط فلو كان جاهلا محضا لا يلتفت إلى المطلب فالأمر كما ذكر، و أمّا إذا كان جاهلا شاكّا متوجّها إلى

جهله و ملتفتا إليه فإنّه يحتمل عند نفسه أن يكون كلامه شتما و قذفا فهنا لا يتمّ القول بأنّه معذور للجهالة.

ثم تعرّض لإشكال و جوابه بقوله: لا يقال: مع الاحتمال يكون القائل معذورا لكون الشبهة بدويّة كسائر الشبهات البدويّة لأنه مع صدق الرمي يترتّب الحكم كما لو رأى الزنا أو اللواط و تخيّل أنه مع الرؤية يجوز الرمي، و كما لو رأى الأربعة و بناءهم على الشهادة مجتمعين فشهد بعضهم و لم يشهد بعض آخر مع الاجتماع، و ثانيا الجواز معلّق على جواز ما يحتمل كونه إيذاء للمؤمن و لا أظنّ أن يلتزم به و البناء على الاستحلال إذا صدر كلام فيه شبهة إساءة الأدب «1».

و نحن نقول: إنّ الاحتمال هنا و إن كان منجّزا للتكليف حيث إنّ عرض المسلم كدمه و يتوجّه عدم المعذوريّة للاهتمام البالغ بذلك و وجوب الاحتفاظ

______________________________

(1) جامع المدارك ج 7 ص 92 و 93.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 112

به، إلّا أن الكلام في إجراء الحدّ فهل مجرّد ذلك كاف في الحكم بالحدّ؟ و كيف يحكم بذلك و الحال أن الموضوع مشكوك فإنّ الموضوع للحدّ هو القذف و الآن يشكّ في كونه قذفا فإنّه حين إلقاء الكلمة لا يقطع بذلك بل يشكّ فيه و على الجملة فمع كون الشبهة بدويّة موضوعيّة كيف يترتّب أحكام الموضوع؟ و هل يحدّ من شرب مشكوك الخمريّة؟ فمن ارتكب ما لا يعلم أنه قذف لا يترتّب عليه الأحكام كالحدّ.

و ما ذكره قدّس سرّه من شهادة بعض و إباء بعض آخر مع اجتماعهم لذلك و وجوب حدّ من أقدم على الشهادة. ففيه: أن الرمي هناك قد تحقّق، غاية الأمر أنه كان يزعم أن

رميه هذا حلال و جائز لتخيّل أن الشهادات تتمّ بالأربعة فكانت شهادته الرمي و القذف بخلاف المقام فإنّه لا يعلم أن قوله هذا رمي أم لا و هكذا في مثال رؤية الزنا و اللواط.

فتحصّل أنه مع معرفة اللافظ أن لفظة كذا رمي فهي لا توجب الحدّ، نعم إذا علم أنه سبّ و توهين للمؤمن فهو يوجب التعزير كما تقدّم آنفا.

ثم إنّه هل يعتبر مضافا إلى معرفة القاذف باللغة و معناها القصد إلى الرمي أو يكفي في القذف مجرّد إلقاء اللفظ و لو لم يقصد المعنى كما إذا سأل أحد عن تفسير القذف فأجاب المسئول: هو أن أقول لك: يا زاني، فإنّ القائل لم يقصد بهذه الكلمة الرمي و إنّما ألقاها قاصدا المثال. من المعلوم أن هذا ليس قذفا لعدم صدق الرمي و الحال هذه، لكن إذا ألقى تلك الكلمة مزاحا لا جدّا كما هو دأب جهلة الناس و الفئة غير المبالين فهل هذا يعتبر رميا بعد أن كان حراما بلا ترديد و إشكال؟.

يمكن أن يقال: إنّ مقام الفحش و الشتم غير مقام النسبة حقيقة ألا ترى أنه لو واجه إنسانا بقوله: يا كلب بن كلب كما قد اتّفق ذلك بالنسبة إلى بعض الأعلام [1] فإنّ هذا قد شتم المخاطب لا أنه أراد أن يقول إنّه كلب و أبوه كلب

______________________________

[1] في الفوائد الرضويّة ص 609: في ترجمة خواجه نصير الدين: أن ورقة حضرت إليه من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 113

و قد يرى من يتفوّه بكلمة خبيثة و حين ما يعترض عليه المخاطب في قوله هذا يجيب بأنّي قد أردت المزاح لا الجدّ، و الحاصل أن الفحش و الشتم غير القذف فإنّ القذف

هو النسبة فإلقاء الكلمة فحشا لا يؤثّر في إيجاب الحدّ.

و مع ذلك كلّه من الممكن أن يقال: إنّه يحسب قذفا لترتّب الأثر على الظاهر إلّا أن يأتي قرينة على ذلك عند إلقائه. كما و أنه قد أجاب بعض عن الكلام الأوّل بأن كونه فحشا باعتبار النسبة و لو لاها لم ينتزع الفحش أصلا.

و على الجملة فلو ألقى اللفظ الصريح في الزنا لكن بلا قصد للرمي بل قاصدا به المجاز فهل هو كالإنشاءات الّتي لا تتحقّق بدون القصد فلا يحصل الملك مثلا بدون قصده؟ الظاهر أن هذه اللفظة لفظة الرمي و القذف فإنّ الرمي ليس شيئا وراء ما يوجب فضيحة المخاطب مثلا و هي قد حصلت بهذه اللفظة و يصدق قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ إلخ على من ألقى تلك الكلمة سواء قصد القذف أم لا.

و الحقّ أن المسألة محلّ الإشكال و إنّي أقول في هذا المقام ما قاله العلّامة أعلى اللّه مقامه في بعض المسائل و المقامات: إنّي في ذلك من المتوقّفين.

ثمّ إنّه لو كان اللفظ مجملا فلا يترتّب عليه الحدّ.

و لو عادى أنّي ما كنت أعرف معناه أو ما قصدت ذلك فإنّه يقبل منه و يصدّق في ذلك إن أمكن ذلك في حقّه بأن أمكن عدم معرفته بذلك مثلا و أمّا إذا كان ناشئا بين العارفين بها لم يقبل قوله. و أمّا صدق القاذف أو كذبه فلا دخل له في القذف و إجراء الحدّ عليه.

______________________________

شخص من جملة ما فيها: يا كلب بن كلب فكان الجواب: أمّا قوله: يا كذا فليس بصحيح لأن الكلب من ذوات الأربع و هو نابح طويل الأظفار و أمّا أنا فمنتصب القامة بادي البشرة عريض الأظفار ناطق ضاحك فهذه الفصول

و الخواصّ غير تلك الفصول و الخواص و أطال في نقض كلّ ما قاله هكذا ردّ عليه بحسن طوية و تأنّى غير منزعج و لم يقل في الجواب كلمة قبيحة انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 114

ثم إنّ صاحب الجواهر مثّل (لقول المحقّق: و ما يؤدّي هذا المعنى صريحا) بقوله: كالنيك و إدخال الحشفة حراما انتهى. و يشبه ذلك كلام بعض آخرين «1» و الغرض من قيد (الحرام) في لفظ الجواهر و غيره، اعتبار نسبة الرامي الفعل القبيح إلى المقذوف مع كونه حراما على المقذوف فلو نسب إليه الزنا مكرها عليه أو صغيرا أو مجنونا فليس على القاذف حدّ في ذلك كما أنه إذا قال له أنت منكوح في دبره مقهورا عليه و مكرها عليه فلا حدّ عليه و إن كان يعزّر إذا كان ذلك إيذاء و توهينا للمخاطب.

و استشكل في ذلك بعض المعاصرين رضوان اللّه عليه بقوله: ثم إنّ المذكور في كلماتهم اشتراط كون ما رمي به على الوجه المحرّم و أمّا لو كان على وجه يكون الرمي معذورا ككونه مقهورا أو نائما فلا يترتّب عليه الحدّ مع كون المذكور إيذاء و توهينا للمرميّ يكون الكلام حراما لكونه إيذاء و يترتّب عليه التعزير.

ثم قال: و استفادة هذا من الأخبار مشكل ففي حسنة عبد اللّه بن سنان قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السلام: قضى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أن الفرية ثلاثة يعني ثلاث وجوه: إذا رمى الرجل بالزنا و إذا قال: إنّ أمّه زانية و إذا دعاه لغير أبيه فذلك فيه حدّ ثمانون، و قال أيضا في خبر عبّاد بن صهيب: كان عليّ عليه السلام يقول: إذا قال الرجل للرجل: يا معفوج

و منكوحا في دبره فإنّ عليه حدّ القاذف. و في خبر وهب بن وهب عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السلام: إنّ عليّا عليه السلام: لم يكن يحدّ في التعريض حتّى يأتي بالفرية المصرّحة مثل يا زان و يا ابن الزانية أو لست لأبيك، و نحوه خبر إسحاق بن عمّار. ثم قال في مقام استظهار الإطلاق من هذه الأخبار: فإنّ المرميّ يمكن أن يكون مقهورا أو مكرها بنحو يكون معذورا «2». و كأنّه رضوان اللّه عليه يقول:

ليس مجرّد عدم استفادة ما ذكر من الأخبار بل يستفاد و يستظهر منها خلاف

______________________________

(1) راجع تحرير العلّامة ص 237 ج 2 و كشف اللثام ج 2 ص 231.

(2) جامع المدارك ج 7 ص 93 و 94.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 115

ذلك فإنّ إطلاق هذه الأخبار تدلّ على عدم اعتبار هذا الشرط و إنّما الملاك هو مجرّد النسبة فهو كاف في إيجاب الحدّ عليه.

و فيه: أنه و لو فرض إطلاق لهذه الروايات فشرط الأخذ بالإطلاق عدم قيام دليل في قباله يقيّده، و ما نحن فيه ليس كذلك لأن تلك المطلقات مقيّدة بروايات منها عموم: من لا حدّ عليه لا حدّ له، المراد منه أن من لم يكن عمله كقذفه للغير موجبا للحدّ فهذا العمل الصادر من الغير بالنسبة إليه لا يوجب حدّا كما إذا قذفه الغير فعن أبي مريم الأنصاريّ قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الغلام لم يحتلم يقذف الرجل هل يجلد؟ قال: لا و ذاك لو أن رجلا قذف الغلام لم يجلد «1». ترى أنه نفى عن الغلام القاذف، الحدّ لأنه لو قذفه رجل لما كان على هذا الرجل حدّ.

و عن أبي

بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقذف الجارية الصغيرة قال: لا يجلد إلّا أن يكون قد أدركت أو قاربت «2».

و قد عنون الشيخ الكليني قدّس سرّه بابا باسم: باب أنه لا حدّ لمن لا حدّ عليه، فيه روايتان: عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

لا حدّ لمن لا حدّ عليه و تفسير ذلك: لو أن رجلا مجنونا قذف رجلا لم يكن عليه شي ء و لو قذفه رجل لم يكن عليه حدّ «3»، و الثانية عن الفضيل بن يسار قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لا حدّ لمن لا حدّ عليه. يعني لو أن مجنونا قذف رجلا لم أر عليه شيئا و لو قذفه رجل فقال له: يا زان- يا زاني- لم يكن عليه حدّ [1].

و يمكن أن يقال إنّ ما نسبه إلى العلماء رضوان اللّه عليهم أجمعين هو ما يستفاد

______________________________

[1] الكافي ج 7 ص 253 ح 2 و في مرآة العقول ج 23 ص 393 إن التفسير من إسحاق أو ابن محبوب، و في تذييلات الوسائل ج 18 ب 19 من مقدّمات الحدود إنّه من إسحاق أو الفضيل.

______________________________

(1) الكافي ج 7 ص 205 ح 5.

(2) الكافي ج 7 ص 209 ح 22.

(3) الكافي ج 7 ص 253 ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 116

من الآية الشريفة من اعتبار كون المقذوف محصنا و قد ذكروا أن الإحصان عبارة عن البلوغ و العقل و غير ذلك [1] فلا بدّ من أن يكون العمل الذي رماه به حراما في حقّه.

و التحقيق أن المقصود من هذا البحث كون القاذف بصدد نسبة فعل الحرام إلى المقذوف بحيث

لو كان المقذوف عادلا اقتضى هذا الفعل فسقه و هذا يستفاد من بعض الأخبار جدّا فعن حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سئل عن ابن المغصوبة يفتري عليه الرجل فيقول: يا بن الفاعلة فقال: أرى أن عليه الحدّ ثمانين جلدة و يتوب إلى اللّه ممّا قال [2].

فإنّ المغصوبة هي الّتي غصبت و أجبرت على الزنا و حيث إنّ عملها لم يكن محرّما عليها لهذه الجهة فلذلك يحدّ المفتري ثمانين جلدة لأنه نسب إليها الحرام مع أنه لم يكن كذلك.

______________________________

[1] أقول: إنّ سيّدنا الأستاذ الأكبر دام ظلّه قد عدل في تقرير المطلب إلى هذا البيان حتّى تستقيم النسبة إلى العلماء التي صرّح بها في جامع المدارك، و الحال إنّه يشكل من جهة أخرى و ذلك لأنه لو كان المقصود من هذا البحث هو الذي ذكروه في شرائط المقذوف فقد تعرّض في جامع المدارك تبعا لمختصر النافع لشرائط المقذوف و ذكر هناك روايات لا حدّ لمن لا حدّ عليه و لسائر الأخبار فكيف قال قدّس سرّه هنا: و استفادة هذا من الأخبار مشكل انتهى؟

فالظاهر أن البحث في المقام أمر وراء ما ذكروه من شرائط المقذوف و أن الكلام هنا في أنه لا بدّ من أن يكون القاذف قد نسب إلى المقذوف الزنا المحرّم فلو نسبه إلى الزنا حلالا بالإكراه مثلا لم يكن عليه حدّ و إن كان يعزّر للإيذاء و غيره. و هذا مذكور في كلام جمع من الأعلام كالعلّامة في التحرير و الأصبهاني في كشف اللثام و صاحب الجواهر فيه فلا يرد ما كان يؤكّد دام ظلّه عليه من أن جامع المدارك نسب ذلك إلى العلماء و الحال أنه ليس ذلك في كلماتهم.

[2] وسائل

الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب القذف ح 4، أقول: و مثله الرواية 6 عن ابن محبوب عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل وقع على جارية لأمّه فأولدها فقذف رجل ابنها فقال:

يضرب القاذف الحدّ لأنّها مستكرهة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 117

إذا نفى ولده عن نفسه

قال المحقّق: و لو قال لولده الذي أقرّ به: لست ولدي، وجب عليه الحدّ، و كذا لو قال لغيره: لست لأبيك.

أقول: إذا نفى عن نفسه ولديّة من أقرّ بكونه ولدا له فهو قذف لأمّه و يوجب الحدّ [1] و مثله ما لو قال لمن ثبت بحكم الشرع أنه ولده: لست ولدي، و ذلك لأنه لا خصوصيّة للإقرار بل يكفي في ذلك مجرّد كون الولد محكوما بأنّه ولده و لذا أضاف صاحب الجواهر قوله: أو حكم له به شرعا انتهى.

و مثله أيضا كلّ ما كان في حكم الإقرار كما إذا لم يتلفّظ و لم ينطق بأنه ولده إلّا أنه أقام لولادته حفلة التهنئة و مراسم الفرح و السرور مثلا إلى غير ذلك من الوجوه الّتي توجب إلحاق الولد به لأنه لا خصوصيّة للإقرار القولي كما أنه إذا قال لشخص آخر: لست لأبيك فهو أيضا قذف و يوجب الحدّ و لا شكّ أن توجيه هذا الخطاب إلى من عرف بين الناس بأنّه ولد فلان يحسب قذفا.

و في الجواهر بعد ذكر اللفظين من عبارة المحقق: بلا خلاف أجده فيه بيننا.

و الظاهر أنه ادّعى عدم الخلاف من الإماميّة بالنسبة إلى الفرضين كما يدلّ

______________________________

[1] فعن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من أقرّ بولد ثمّ نفاه جلد الحدّ و ألزم الولد، وسائل الشيعة ج 18 ب 23 من أبواب القذف

ح 1 و أمّا خبر علاء بن فضيل عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: الرجل ينتفي من ولده و قد أقرّ به قال: فقال: إن كان الولد من حرّة جلد الحدّ خمسين سوطا حدّ المملوك و إن كان من أمة فلا شي ء عليه. الوسائل ج 18 ب 23 من أبواب حدّ القذف ح 2، الدّال على عدم الحدّ ففيه ما ذكره في كشف اللثام ج 2 ص 231 بقوله: و هو ضعيف متروك انتهى.

و قال الشيخ في الإستبصار ج 4 ص 233: الوجه في هذا الخبر أن نحمله على أنه و هم من الراوي- في قوله خمسين سوطا- و في الوسائل: و يمكن حمله على التعزير مع عدم التصريح بالقذف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 118

على اتّحاد حكمهما الأخبار.

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك: عند ذكر اللفظة الأولى: و هذه الصيغة عندنا من ألفاظ القذف الصريح لغة و عرفا فيثبت بها الحدّ لأمّه انتهى.

و لكن قد اختلف بعض العامّة و فرّق بين الصيغتين فجعل الثانية قذفا بلا كلام دون الأولى. و استند في ذلك إلى أن الأب يحتاج إلى مثل ذلك في تأديب ولده زجرا له عمّا لا يليق بنسبه و لوما له على أنه ليس مثله في الخصال الحسنة التي يتوقّعها منه و ليست فيه. و أورد عليه في الجواهر بأن الظاهر عدم الحدّ مع فرض إرادة ذلك كما هو مستعمل في العرف كثيرا ضرورة عدم الرمي بمثله عرفا، و إنّما الكلام في ثبوت القذف به مع عدم القرينة على إرادة التجوّز المزبور به و لا ريب في صدق القذف عرفا به انتهى.

أقول: و يمكن دفع هذا

الإيراد بأن الأبوّة كالبنوّة دائميّة فهي قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي. و إن شئت قلت: إنّ المقام نظير إرادة الاستحباب من صيغة الأمر الذي قال صاحب المعالم رضوان اللّه عليه: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمة عليهم الصلاة و السلام أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة إلخ «1» فكأن شيوع الاستعمال و كثرة إطلاق الصيغة في مقام الزجر و حمل الولد على مكارم الصفات و محامد أخلاقه صار سببا لرجحان هذا المجاز على الحقيقة فهو من المجازات الراجحة التي لا تحتاج إلى القرينة و لا أقل من كونها مساوية للمعنى الحقيقي فلو فرض أنه ورد في الروايات أو الكلمات أن هذه الصيغة تكون قذفا فهو محمول على ما إذا كان هناك نزاع و مرافعة، و آل الأمر إلى إلحاق الولد به و نسبته إليه ثمّ بعد ذلك قد نفاه عن نفسه في طيّ نزاع و مرافعة مثلا و قال لست ولدي فإنّ القرينة حاصلة على أن المقصود ليس هو التأديب و تعييره على عدم اتّصافه بمحامد أخلاقه و معالي شيمه، و إلّا فالحقّ مع هذا البعض و إن كان عاميّا فإنّ

______________________________

(1) معالم الأصول للشيخ حسن بن زين الدين ص 44.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 119

عدم اتّصاف الولد بصفات والده يحمل كثيرا له على أن ينفيه عنه بل قد يقع ذلك بالنسبة إلى الغير أيضا نظير ما ورد في القرآن الكريم حكاية عن بني إسرائيل خطابا لمريم يٰا أُخْتَ هٰارُونَ مٰا كٰانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ مٰا كٰانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «1».

و نحن جميعا نعلم أنه إذا كان هناك رجل عظيم ذو

وجهة عالية و مكانة معنوية سامية و كان ولده على سبيل النشأ و الأحداث غير مبال بالآداب و لا معتن بمبادئ الدين فإنّه يقال له: إنّك لست ولد أبيك أو ولد فلان، و القرائن تشهد بأن هذا ليس رميا بل تستعمل الكلمة المزبورة تعييرا و زجرا له، و في مقام النصحية فلا يوجب ذلك حدّا.

صور من القذف

قال المحقّق: و لو قال زنت بك أمّك أو يا بن الزانية فهو قذف للأمّ و كذا لو قال زنى بك أبوك أو يا بن الزاني فهو قذف لأبيه و لو قال: يا بن الزانيين فهو قذف لهما و يثبت به الحدّ و لو كان المواجه كافرا لأن المقذوف ممّن يجب له الحدّ.

أقول: اللّفظان الأوّلان يحسبان رميا للأمّ و إن كان المواجه هو الابن لأن النسبة كانت إلى الأمّ، و الرمي قد تعلّق بهما. و أمّا الثالث و الرابع فهما قذف لأبيه لأنه نسب الزنا إلى أب المخاطب تارة بلفظ الماضي و أخرى بلفظ اسم الفاعل كالصورتين السابقين. و أمّا اللفظ الخامس فهو قذف لكليهما حيث أتى بلفظ التثنية فيجب الحدّ إذا ففي جميع الصور الخمس قد تحقق القذف بالنسبة إلى الغائب و لا خلاف في ذلك و لا فرق بين كون المواجه مسلما أو كافرا فإنّ القذف ليس بالنسبة إليه و لا الحدّ ليس لأجله و هذا هو فائدة تمييز المواجه عن المقذوف، فإنّ الحدّ يتعلّق بالقذف و هو حقّ للمقذوف فلا بدّ من أن يعلم من هو صاحب الحق هل هو المخاطب أو أبوه أو أمّه أو كلاهما، و إجراء الحدّ موقوف

______________________________

(1) سورة مريم الآية 28.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 120

على طلب صاحب الحق

فإن لم يكن القذف متوجّها إلى المخاطب كالولد فليس له طلب ذلك نعم يعزّر القاذف لأجله إذا كان المواجه مسلما و قد أوذي أو هتك بذلك.

نعم هنا بحث و هو أنه هل التعزير حقّ للمواجه كالقذف حتى يسقط بعفوه و يحتاج إلى المطالبة أو أنه حقّ اللّه تعالى و لا يسقط بعفوه و يقام بلا حاجة إلى مطالبة أحد؟.

من المعلوم أن التعزير على المعاصي و ترك الواجبات و ارتكاب المحرّمات عند عدم تعيين حدّ هناك حقّ اللّه محضا لا يتوقف على شي ء فلو ترك الصلاة أو أفطر صيامه بلا عذر فإنّه يعزّره الحاكم بلا حاجة إلى مطالبة أحد لأنه لا حقّ هناك لأحد سوى اللّه تعالى. و إنما البحث فيما إذا كان للعمل تعلّق بالغير مثل الغيبة و التهمة فهل التعزير فيه حق الناس حتى يحتاج إلى مطالبة المغتاب (بالفتح) مثلا و له أن يعفو عنه أو أنه حقّ اللّه محضا يقيمه الحاكم بلا توقّف على المطالبة؟ و من هذا الباب ما نحن فيه.

و لا بدّ من التحقيق في ذلك و لم أجد في هذه العجالة من تعرّض لهذا المطلب و لا يبعد الثاني لو لم يدلّ هناك دليل [1].

______________________________

[1] أقول: قال العلّامة في القواعد في المطلب الخامس من باب القذف: لو كان المقذوف عبدا كان التعزير له لا لمولاه فإن عفى لم يكن لمولاه المطالبة و كذا لو طالب انتهى.

و يستفاد من هذا أن أمر التعزير هنا بيد صاحب الحق لكن يظهر من كلام سيّدنا الأستاذ دام ظله في مجمع المسائل ج 3 ص 206 في جواب سؤال 65 خلاف ذلك.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 121

اللفظ المشتبه في الرمي

قال المحقق: و لو قال:

ولدت من الزناء ففي وجوب الحدّ لأمّه تردّد لاحتمال انفراد الأب بالزنا و لا يثبت الحدّ مع الاحتمال.

أقول: الظاهر أن المراد أنه لو كان هناك حدّ فهو للأمّ و ذلك لأن النسبة بمقتضى العبارة إلى الأمّ لكون الولادة منتسبة إليها و مقتضى ذلك رمي الأمّ إلى الزنا.

لكن فيه إشكال و ذلك لانتساب الولادة إليهما فإنّ نسبة الولد إلى الوالدين واحدة و ليس له مزيد اختصاص بأحدهما و من المعلوم أن نشى ء ولد الزنا تارة يكون بزناء الأب و أخرى بزناء الأمّ و ثالثة بزناء كليهما و القذف و الرمي إلى الزنا أيضا كذلك. فإذا ألقى الصيغة الخاصّة فيمكن أن يكون بصدد رمي الأب أو رمي الأمّ، أو رميهما جميعا و ذلك لإمكان كون واحد منهما مكرها أو مشتبها عليه بأن يكون الأب مثلا زانيا و الأمّ مكرهة على الزنا و يمكن عكس ذلك كما أنه يمكن كون كلّ واحد منهما زانيا واقعا و على ذلك فلا يعلم أنه قد قذف هذا بالخصوص أو ذلك بالخصوص أو كليهما فالمقذوف بخصوصه غير معلوم و المستحقّ بشخصه غير معيّن فتحصل الشبهة الدارئة للحدّ، و صراحة اللفظ في القذف لا تنفع مع اشتباه المقذوف لأنّها لا توجب الحقّ لتوقّف الاستيفاء على المطالبة، و المطالبة لا بدّ أن تكون من ناحية المستحق للحق و هو غير معلوم.

و التحقيق أن في المسألة ثلاثة وجوه:

أحدها: أن الصيغة المزبورة توجب الحدّ لأنّها قذف صريح و متعلّقه هو الأمّ لاختصاصها بالولادة ظاهرا و قد تعدّت الولادة إلى الزنا بحرف الجرّ و مقتضاه نسبة الأمّ إلى الزنا. و قد ذهب إلى هذا الشيخان و القاضي و المحقّق في نكت النهاية و جماعة أخرى.

ثانيها أنه قذف

صريح إلّا أن متعلّقه الأبوان كلاهما لأن نسبته إليهما واحدة و لا اختصاص لأحدهما دون الآخر لأن الولادة إنّما تتمّ بهما فيكون كلّ منهما

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 122

مطالبا مستقلّا و هو أحد قولي العلّامة و الشهيد في شرح الإرشاد.

ثالثها: أنه لا حدّ أصلا لا للمواجه و لا لأيّ واحد من الوالدين أمّا المواجه فواضح لأنه ليس بمقذوف و أمّا الأبوان فلاحتمال الاشتباه و الإكراه في الأمّ أو الأب فلا يعلم كونه قذفا لأحدهما بالخصوص و لا المستحقّ فتحصل الشبهة.

و استشكل في ذلك الشهيد الثاني في المسالك قائلًا: و يمكن الفرق بانحصار ذلك الحق في المتنازع في الأبوين فإذا اجتمعا على المطالبة تحتّم الحدّ لمطالبة المستحقّ قطعا و إن لم يعلم عينيّته. ثم قال: لعلّ هذا أجود نعم لو انفرد أحدهما بالمطالبة تحقّق الاشتباه و اتّجه عدم ثبوت الحدّ حينئذ لعدم العلم بمطالبة المستحق به، انتهى.

فقد فصل قدّس سرّه بين ما إذا طالب كلاهما الحدّ و بين ما إذا كان المطالب واحدا منهما فأثبت الحدّ في الأوّل و نفاه في الثاني، و ذلك لأنّه في الثاني لا يعلم أن صاحب الحق قد طالب به بخلاف الأوّل فإنّه لا شكّ في أن صاحب الحق قد طالب بحقّه و إن لم يعرف بشخصه.

و ردّ عليه صاحب الجواهر بقوله: قلت: قد يمنع ظهور الأدلّة في ثبوت الحدّ في الفرض الذي ذكره أيضا و الأصل العدم مضافا إلى بنائه على التخفيف و سقوطه بالشبهة انتهى.

أقول: و هذا هو الأقوى لو لم نقل بالقول الأوّل أي قول الشيخين فإنّ النسبة مردّدة لم تتحقّق بالأب و لا بالأمّ بل النسبة إلى كلّ منهما ليس إلّا احتمال الزنا

و لا أظنّ أحدا يقول إنّه يحدّ من قال يحتمل أن يكون زيد زانيا، و المقطوع هو الفرد المردّد لا كلّ واحد منهما معيّنا و إذا كان نسبة احتمال الزنا إلى رجل يوجب الحدّ فلا بدّ من أن يقال في المقام بوجوب حدّين لأنه نسب إلى كلّ منهما احتمال الزنا و لا يلتزم به و على الجملة فإنّ حدّ القذف لا بدّ من أن يطالبه مستحقّه و المستحق مردّد حسب الفرض و قد ظهر بما ذكرنا أنه لا مجال للتمسّك بالعلم الإجمالي و لزوم مخالفته.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 123

ثمّ إنّه قد اتّضح أنه لا تردّد في المطلب على الوجه الأوّل و الثاني لأنه على الأوّل قذف صريح بالنسبة إلى الأمّ، و في الثاني بالنسبة إلى كلّ واحد منهما مستقلّا. و إنّما الترديد و الإشكال جار على الوجه الثالث حيث يحتمل الإكراه و الإجبار و الاشتباه فلا حدّ هناك و إن طالب به كلّ منهما فإنّ الصيغة مردّدة بين زنا هذا أو زنا ذاك و هو في الحقيقة في حكم أن يقال لأحد أنت من زنا أبيك أو أمّك، و بوجه نظير أن يقول أحد لغيره: يحتمل أنّك زنيت، و ذلك لأنّ الزنا بالنسبة إلى كلّ واحد منهما محتمل، و مطالبة كلّ منهما بالحدّ لا يؤثّر شيئا لأن معنى مطالبة الأب أنه إن كان القذف قذفا لي فإنّي أطالب القاذف بالحدّ كما أن معنى مطالبة الأمّ أنه إن كان القذف قذفا لي فأنا أطالب بالحدّ فليس إلّا أن كلّ واحد منهما محتمل المقذوفية و من المعلوم أن موضوع الحدّ هو القذف المسلم لا المحتمل، و كما يعتبر في القذف اللفظ الصريح كذلك

يعتبر في المقذوف التعيّن، و على ذلك فالشكّ في تحقّق القذف لا في المستحقّ حتّى يقال إنّ كلّ واحد منهما مطالب بالحق و الحدّ، فيجب إقامته، فإنّ الاستحقاق مشروط بالقذف و المفروض الشكّ في تحقّقه. و قد ظهر بذلك أنه لا يتمّ ما أفاده في الجواهر بقوله:

قد يمنع ظهور الأدلّة في ثبوت الحدّ في الفرض الذي ذكره أيضا و الأصل العدم إلخ. فإنّ الحقّ أنه لا يصدق القذف و الحال هذه و لا تصل النوبة إلى البحث عن ظهور الأدلّة و عدمه [1].

ثمّ إنّ ممّا ذكر في المقام يتّضح الحال في فرع آخر ذكره العلّامة في القواعد حيث قال- في البحث عن المقذوف و عند الكلام عن مثل: يا خال الزاني أو الزانية مثلا-: فإن اتّحد المنسوب إليه فالحدّ له و إن تعدّد و بيّن فكذا، و إن أطلق ففي المستحقّ إشكال ينشأ من المطالبة له بالقصد أو إيجاب حدّ لهما و كذا لو قال:

______________________________

[1] أقول: لا يخفى أن صاحب الجواهر قدّس اللّه نفسه قد تفطّن لذلك و لذا قال في آخر البحث ص 406 ج 41: الإنصاف تحقّق الاشتباه موضوعا و حكما انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 124

أحدكما زان أو لائط [1].

قال في الجواهر بعد اختيار عدم الحدّ في الفرع السابق لا للمواجه و لا للأب و لا للأمّ: و من ذلك يعلم الحال في ما لو قال أحدهما زان، لا على التعيين الذي استشكل فيه في القواعد من ثبوت حقّ في ذمّته و قد أبهم فلنا المطالبة بالقصد و من أن في ذلك إشاعة الفاحشة و زيادة في الإيذاء و التعيير فليس إلّا إيجاب حدّ لهما لا يقام إلّا عند

اجتماعهما لانحصار الحدّ فيهما و في كشف اللثام: و هو الأقوى: و فيه ما سمعته انتهى.

أقول: الكلام في هذا الفرع هو الكلام في الفرع السابق و الظاهر عدم تحقّق القذف و ليس إلّا احتماله بالنسبة إلى كلّ واحد منهما. و أمّا مطالبته بالبيان و توضيح المراد و القصد ففيه أنه لا داعي إلى ذلك و لا دليل على جوازه و ليس وظيفة الحاكم التجسّس عن ذلك بعد أن فيه إشاعة الفحشاء و مزيد الإيذاء حيث إنّه إذا طولب بالبيان و شرح ما قصد فيؤل الأمر إلى استحقاق الحدّ بعد أن استحقّ التعزير بالكلام المبهم و على هذا فيكتفي بالتعزير و يختم الدعوى. و أضف إلى ذلك أنه لا يجري المطالبة بالقصد في جميع صور المسألة بل إنما يجري في بعضها.

توضيح ذلك إنّ رمى غير المعيّن قسمان: فتارة يعرف هو الشخص المجرم

______________________________

[1] قال فخر الدين قدّس سرّه في الإيضاح ص 503 عند البحث في كلام العلّامة المذكور: إذا قال له يا خال الزاني و تعدّد ولد أخته أو يا عمّ الزاني و تعدّد أولاد أخيه أو يا جدّ الزاني و تعدّد ولد ولده، فإن بيّن من مراده، بالقذف كان حقّ الحدّ له و إن لم يبيّن ففيه إشكال يحتمل أن يلزم بالبيان لأن في ذمّته حقّا قد أبهم مستحقّه ليلزم تبيانه بحيث يستوفي له و هذا ضعيف لأنه أمر بإشاعة الفاحشة و الأولى عندي أن يتوقّف على مطالبتهما و اجتماعهما فيقام الحدّ عليه لأنّه لا يخرج الحقّ عنهما انتهى.

و في كشف اللثام ج 2 ص 233 ذكر الوجهين و اختار الثاني بقوله: و هو الأقوى، و قد ذكر وجهه قبل ذلك بقوله: لانحصار الحقّ فيهما.

الدر

المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 125

لكنّه لا يعيّنه بل يرميه مبهما، و أخرى لا يعلم و لا يعرف هو أيضا المجرم بعينه كما إذا علم و رأى أن أحدهما قد زنى و لم يدر أيّا منهما كان هو الزاني، و ما ذكر من المطالبة بالقصد إنّما يتمّ و يأتي في الفرض الأوّل دون الثاني لأنه إذا لم يكن يعرفه فكيف يطالب بقصده فهو في الحقيقة لم يقصد إلّا الواحد المردّد لا المعيّن.

و قد تحصّل من جميع الأبحاث أن الأقوى عندنا أنه لا حدّ في المقام و إنّما يعزّر الرامي.

مخالفة سيّدنا الأستاذ للشرائع و الجواهر

قال المحقّق: أمّا لو قال: ولدتك أمّك من الزناء فهو قذف للأمّ و هذا الاحتمال أضعف و لعلّ الأشبه عندي التوقّف لتطرّق الاحتمال و إن ضعف. انتهى

و ذكر في الجواهر أنه لا يخلو عن قوّة.

و فيه أن العبارة المذكورة و إن كان يجري فيها احتمال كون زنا الأمّ عن إكراه مثلا إلّا أن هذا الاحتمال ضعيف كما صرّح بذلك المحقّق قدّس سرّه، فإنّ اللفظة ظاهرة عرفا في أنّها زنت باختيارها لا أنّها كانت مكرهة على ذلك، و مع الظهور العرفي لا يعتنى باحتمال الخلاف و لا يؤخذ بالإمكان العقلي.

و على الجملة فقوله: ولدتك أمّك من الزنا ليس كقوله: ولدت من الزنا و ذلك لتحقق الظهور العرفي، في المقام دونه فلذا يجب حدّ الرامي.

رمي المنسوب إليه لا المواجه

قال المحقّق: و لو قال: يا زوج الزانية فالحدّ للزوجة و كذا لو قال: يا أبا الزانية أو يا أخا الزانية فالحدّ لمن نسب إليها الزناء دون المواجه.

أقول: و هذا واضح فإنّ نسبة الزنا في المثال الأوّل إلى زوجة المخاطب دونه و في الثاني إلى بنت المخاطب دونه و في الثالث إلى أخت المخاطب دونه فالحدّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 126

للزوجة و للنبت و للأخت دون المواجه نعم يعزّر القاذف لحقّ المواجه.

قذف واحد أو قذفان؟

قال قدّس سرّه: و لو قال: زنيت بفلانة أو لطت بفلان فالقذف للمواجه ثابت و في ثبوته للمنسوب إليه تردّد قال في النهاية و المبسوط: يثبت حدّان لأنه فعل واحد متى كذّب في أحدهما كذّب في الآخر و نحن لا نسلّم أنه فعل واحد لأن موجب الحدّ في الفاعل غير الموجب في المفعول و حينئذ يمكن أن يكون أحدهما مختارا دون صاحبه.

إذا قال القاذف لمخاطبه: زنيت بفلانة أو لطت بفلان فرماه إلى الزنا في الأوّل و اللواط في الثاني. و قد اتّفقوا على تحقّق القذف بالنسبة إلى المخاطب لدلالة لفظه على وقوعه منه اختيارا و إنما اختلفوا في أنه قذف واحد فيجب حدّ واحد أو قذفان: قذف المخاطب و هو معلوم و قذف الرجل المنتسب إليها الزنا، و فلان المنتسب إليه اللواط؟.

ذهب الشيخ المفيد و الشيخ الطوسي في النهاية و المبسوط و الخلاف «1» إلى الثاني و مال المحقّق و جمع آخر إلى الأوّل.

و استدلّ للقول بوجوب الحدّين لتحقّق القذفين بأن الزنا فعل واحد يقع بين اثنين و نسبة أحدهما إليه بالفاعليّة و الآخر بالمفعولية فيكون قذفا لهما و لأن كذبه في أحدهما يستلزم كذبه في الآخر لاتّحاد الفعل.

و

قد ردّ على ذلك، المحقّق قدّس سرّه بعدم تسلّم وحدة الفعل حيث أن موجب الحدّ في الفاعل غير الموجب في المفعول.

و وجهه كما في المسالك أن الموجب في الفاعل التأثير و في المفعول التأثّر و هما

______________________________

(1) راجع المقنعة ص 793 و النهاية ص 725 و المبسوط ج 8 ص 16 و الخلاف كتاب الحدود مسألة 49.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 127

متغايران، و جاز أن يكون أحدهما مكرها و الآخر مختارا فتحقّق القذف بالنسبة إلى المخاطب لا يستلزم ذلك بالنسبة إلى المنسوب إليه أيضا.

و وافق الشهيد الثاني الشيخين و الأتباع قال: و الأقوى ثبوته لهما إلّا مع تصريحه بالإكراه فينتفي بالنسبة إلى المكره و حيث يحكم بثبوته لهما يجب لهما حدّان و إن اجتمعا في المطالبة لأنّ اللفظ هنا متعدّد بدليل أنه لو اقتصر على قوله:

زنيت من دون أن يذكر الآخر تحقّق القذف للمواجه فيكون قذف الآخر حاصلا بضميمة لفظ كذا ذكره المصنّف في النكت انتهى.

و في كشف اللثام عند بيان إشكال العلّامة في مورد المنسوب إليه: ينشأ من احتمال الإكراه بالنسبة إليه و لا تحقّق الحدّ مع الاحتمال، و هو خيرة الدروس و مال إليه في التحرير، و من أن كلّا من الزنا و اللواط فعل واحد فإن كذب فيه بالنسبة إلى أحدهما كذب بالنسبة إلى الآخر، و وهنه واضح، و لعدم الاعتداد بشبهة الإكراه في الشرع، و لذا يجب الحدّ إجماعا على من قال: يا منكوحا في دبره، و لتطرّق الاحتمال بالنسبة إلى كلّ منهما فينبغي اندراء الحدّ عنه بالكليّة انتهى.

و قد ذكر في كلامه عند توجيه الوجه الثاني الذي هو مختار الشيخين ثلاثة أمور:

1- أنّ الزنا مثلا فعل واحد

فإن كان هناك كذب بالنسبة إلى المنسوب إليها فهو كذب بالنّسبة إلى المواجه به قضاءا لوحدة الفعل.

2- إنّ احتمال الإكراه لا يعتنى به في الشرع كما أن لفظة يا منكوحا في دبره، توجب الحدّ مع كونه مساويا للعبارة المبحوث عنها.

3- إنّه إذا كان تطرّق الاحتمال بالنسبة إلى غير المواجه موجبا لسقوط الحدّ عنه فإنّ الاحتمال جار بالنسبة إلى المواجه أيضا فيلزم أن لا يحدّ هو أيضا، و على هذا فيلزم الحكم بحدّ كلّ واحد منهما.

ثم استشكل في ذلك بقوله: و فيه إنّ المكره على الزنا أو اللواط ليس زانيا و لا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 128

لائطا.

أقول: و هذا كلام عجيب.

أمّا أوّلا فلأنه إذا لم يكن المكره زانيا و لا أنه يطلق عليه الزاني فكيف يقول:

يكره على الزنا و يعبّر بأن المكره على الزنا أو اللواط كذا فهو بنفسه قد جمع بين التعبير بالزنا و الإكراه.

و ثانيا إنّ هذا الإطلاق عرفيّ و العرف ينسب المكره إلى الزنا كالمختار بعينه.

و على الجملة فالظاهر أنه يطلق هذا اللفظ عند العرف على الفعل المخصوص سواء صدر من الفاعل أو المفعول اختيارا أو إكراها و إن لم يترتّب على المكره أحكام الزنا المحرّم شرعا.

لا يقال: إنّ الإشكال الثاني و إن كان واردا إلّا أن الإيراد الأوّل قابل للدفع و ذلك لأن الزنا المذكور في كلامه قد ذكر باعتبار الفاعل المكره دون القابل المكره و لا شكّ في تحقّق الزنا بالنسبة إلى الأوّل [1].

لأنا نقول: إنّ الإكراه لا يتعلّق بفعل الفاعل بل إكراهه يتعلّق بفعل القابل فإذا الإشكال بحاله.

ثمّ إنّ الحقّ في المقام هو ظهور الصيغة المبحوث عنها في الزنا الاختياري و إمكان كون الزنا في جانب

المنسوب إليها بالإكراه لا يدفع الظهور العرفي.

و بعبارة أخرى لا إشكال فيما أفادوا من إمكان اختلاف الزانيين في زناء واحد بأن يكون أحدهما مختارا و الآخر مكرها إلّا أن مجرد إمكان ذلك لا ينافي كون اللفظ ظاهرا في رمي الطرفين و نسبة الزنا إلى الشخصين بنحو واحد و باختيار الطرفين و إلّا لجرى هذا الاحتمال بالنسبة إلى المواجه المخاطب بهذا الخطاب فإنّ ظاهر النسبة أنها بالنسبة إليهما على و زان واحد و حدّ سواء بلا تفاوت بينهما أصلا فالصيغة المبحوث عنها نظير قولك: صافحت زيدا و باحثت عمرا و غير ذلك من التراكيب فهل يحتمل أحد أن زيدا كان مكرها على

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب دام ظله العالي بما في المتن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 129

المصافحة أو أن عمرا كان مقهورا على المباحثة [1]؟.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر أعلى اللّه مقامه قال (تقريبا و تأييدا لما ذهب إليه المحقّق من ثبوت قذف واحد و حدّ واحد لإمكان أن يكون أحدهما مختارا دون صاحبه): فهو حينئذ إن لم يكن متعدّدا حقيقة فحكما باعتبار اختلاف الحكم فلا أقلّ من تحقّق الشبهة الدارئة بذلك.

«ثمّ قال:» بل قيل: إنّه يدلّ عليه ظاهر الصحيح الوارد في نظير البحث.

أقول: و الصحيح الذي ذكره صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في رجل قال لامرأته يا زانية، أنا زنيت بك، قال: عليه حدّ واحد لقذفه

______________________________

[1] يقول المقرّر: الذي بدا لي في هذا المقام أن النسبة الفاعليّة نسبة الصدور و البروز و هي ظاهرة في الاختياري بلا كلام كما في كل فعل يستند إلى الفاعل إلّا في موارد خاصّة و هذا بخلاف النسبة المفعوليّة فإنّ

المفعول هو من يقع عليه الفعل و كأنّه أشرب في معنى المفعول القهر و الغلبة كالمقتول و المضروب فهو غير ظاهر في الاختيار لو لم يكن ظاهرا في غير الاختيار.

ثمّ إنّي قد وقفت بعد ذلك على كلام لفخر الدين قدّس سرّه يناسب ما ذكرناه قال في الإيضاح ج 4 ص 504 بعد أن نقل عن ابن إدريس أنه ليس عليه إلّا حدّ واحد للمواجه إذا نسب إليه فعل الزنا أو اللواط و أمّا الذي نسب إليه بأنه فعل به لا فعل هو فإنه لا حدّ عليه) فهنا قال: أمّا الأوّل فلأنّه نسبة إلى فاعل قادر عليه عالم به إنّه فعله و ذلك يكفي في وجوب الحدّ إجماعا لأنّ هذه النسبة تقتضي صدور الفعل منه حقيقة و أمّا الثاني فلأنّه نسب المزنيّ بها إلى الانفعال لا إلى الفعل و هو أعمّ من المطاوعة على ذلك لصدقه حقيقة في المكرهة، و العامّ لا دلالة له على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث و لا حدّ مع الاحتمال فكيف مع عدم السبب المقتضي له و اختار المصنّف في المختلف قول الشيخ في النهاية لأنه هتكه و لو لم يجب في ذلك الحدّ لم يجب في قوله: يا منكوحا في دبره، و التالي باطل فالمقدّم مثله و الملازمة ظاهرة لأن دلالة اللفظ على النسبة إليهما واحدة فإنّه كما يحتمل أن تكون هي مكرهة في صورة النّزاع يحتمل في قوله: يا منكوحا في دبره، فلو اقتضى المنع ثمة لاقتضاه هنا و أمّا بطلان التالي فبالإجماع للاتفاق على وجوب حدّ القذف به و لأن الأصل المطاوعة و لدلالته عرفا على نسبة الفعل إليهما و الأقوى ما اختاره المصنف في المختلف انتهى.

الدر المنضود في

أحكام الحدود، ج 2، ص: 130

إيّاها، و أمّا قوله: أنا زنيت بك فلا حدّ فيه إلّا أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام «1».

قال قدّس سرّه في وجه دلالته: من حيث نفي الحدّ فيه أصلا و إن كان فيه ما فيه، و ترتّب الحدّ بقوله: منكوح في دبره، للإجماع و النصّ أو للدلالة العرفيّة لا يقتضي ثبوته في الفرض انتهى.

أقول: أمّا حديث الشبهة ففيه إنّه لا مجال بعد ما ذكرنا من الاستظهار.

و أمّا الرواية ففيها أن قوله: يا زاني قد أوجب الحدّ للقذف فقوله بعد ذلك بلا فصل: أنا زنيت بك لا يزيد شيئا بعد أن قذف و لم يحدّ بعد.

و قد علم بما ذكرنا أن قوله عليه السلام: و أمّا قوله: أنا زنيت بك لا يراد به فرض آخر فإنّه ليس إلّا فرض واحد و هو قول الرجل: يا زاني أنا زنيت بك و كأنّه عليه السلام قال: إنّه يحدّ حدا لرميه بقوله: يا زاني و أمّا ذيل الكلام فلا يوجب شيئا آخر.

و أمّا ما ذكره صاحب الجواهر بقوله: و إن كان فيه ما فيه انتهى فهو لأن الإقرار بالزنا ليس رميا حتّى يترتّب عليه حدّ القذف، و الزنا لا يثبت بالإقرار إلّا إذا وقع أربع مرّات.

و أمّا ما أفاده من الفرق بين المقام فلا حدّ و بين قول القاذف: فلان منكوح في دبره، فيجب الحدّ مع أنه بعينه كالمزنيّ بها في جملة زنيت بفلانة و كالمنكوح و الملوط في جملة: لطت بفلان بأن ذلك للإجماع. يعني إنّه للدليل الخارجيّ و إلّا فهو أيضا كمحلّ البحث و مقتضى القاعدة أن يقال إنّه يحتمل كونه مكرها في صيرورته منكوحا في دبره.

ففيه: أن الإجماع

لو كان فهو لأجل الظهور العرفي في كونه باختياره و أمّا كونه إجماعا تعبّديّا بلا لحاظ هذه الجهة فهو بعيد جدّا و إجراء الحدّ تعبّدا من دون الرّمي مقطوع العدم، و أمّا الدلالة العرفيّة فهي صحيحة لكن لا فرق بين الجملتين

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 13 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 131

في ظهور هما في وقوع الفعل عن اختيار لا عن إكراه.

فتحصّل أنه كما كانت نسبة الزنا أو اللواط في محل البحث إلى المخاطب ظاهرة في الاختياري فكذلك بالنسبة إلى المنسوب إليها أو إليه.

قذف الملاعنة

قال المحقّق: و لو قال لابن الملاعنة: يا بن الزانية فعليه الحدّ.

إذا لا عن الرجل امرأته ثم بعد ذلك نسب رجل ابن هذه المرأة إلى الزنا بأن يقول له: يا بن الزانية فإنّه يوجب الحدّ و ذلك لصدق القذف الموجب له و كذا لو قال لهذه المرأة نفسها: يا زانية، و قد ادّعى عدم الخلاف في وجوب الحدّ عليه.

و الوجه في وجوب الحدّ على القاذف في الفرضين أن هذه المرأة محصنة و نسبة الزوج لها إلى الزنا لا يخرجها عن ذاك و لذا ترى أن لها أن تدافع عن نفسها و تدفع الحدّ عنها باللعان و ذلك لعدم ثبوت الزنا عليها فقاذفها قاذف المحصنات الذي يقام عليه الحدّ بنص الكتاب. سواء قذفها بلا واسطة أو بواسطة ابنها.

و تدلّ على وجوب الحدّ على القاذف، عدّة روايات:

عن سليمان يعنى ابن خالد عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السلام قال: يجلد قاذف الملاعنة «1».

و عن ابن محبوب عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: يحدّ قاذف اللقيط و يحدّ قاذف

الملاعنة «2».

و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل قذف ملاعنة قال: عليه الحدّ «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حدّ القذف ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 132

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن رجل قذف امرأته فتلاعنا ثم قذفها بعد ما تفرّقا أيضا بالزنا أ عليه حدّ؟ قال: نعم عليه حدّ «1».

و هذه الروايات كما ترى صريحة في وجوب الحدّ على القاذف.

قذف المحدودة قبل التوبة أو بعدها

قال المحقق: و لو قال لابن المحدودة قبل التوبة لم يجب به الحدّ و بعد التوبة يثبت الحدّ.

أقول: إذا زنت امرأة و أقيم عليها الحدّ ثم نسبت إلى الزنا بلا واسطة كما إذا قال الرامي لها: يا زانية أو بواسطة ولدها بأن قال له: يا بن الزانية فلا يخلو عن أنه قال بذلك قبل أن تتوب أو بعد ذلك فعلى الأوّل لا حدّ على القاذف و على الثاني يجب حدّ القذف عليه أمّا الأوّل فللأصل و لأنّه لا فرية هنا لأن المفروض قيام البيّنة على زناها، و ثبوت الزنا بذلك و حدّت عقيب ذلك و هي لم تتب بعد، فقد خرجت عن المحصنات فلا تشملها آية الرمي الواردة في قذف المحصنات العفيفات و عليه فلا يترتّب على قذفها شي ء و أمّا الثاني فلأنّه و إن أقيمت الشهادة على زناها و قد ثبت ذلك بشهادة الأربع و حدّت لكنّها قد تابت من عملها الشنيع و صارت بذلك محصنة فيكون قذفها قذف المحصنات الموجب للحدّ.

و يدلّ

على ذلك خبر فضل بن إسماعيل الهاشمي عن أبيه قال: سألت أبا عبد اللّه و أبا الحسن عليهما السلام عن امرأة زنت فأتت بولد و أقرّت عند إمام المسلمين بأنّها زنت و أن ولدها ذلك من الزنا فأقيم عليها الحدّ و إنّ ذلك الولد نشأ حتّى صار رجلا فافترى عليه رجل هل يجلد من افترى عليه؟ فقال: يجلد و لا يجلد فقلت: كيف يجلد و لا يجلد؟ فقال: من قال له: يا ولد الزنا لم يجلد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 13 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 133

و يعزّر و هو دون الحدّ و من قال له: يا بن الزانية جلد الحدّ كاملا قلت له: كيف (صار) جلد هكذا؟ فقال: إنّه إذا قال له: يا ولد الزنا كان قد صدق فيه و عزّر على تعييره أمّه ثانية و قد أقيم عليها الحدّ فإن قال له: يا ابن الزانية جلد الحدّ تامّا لفريته عليها بعد إظهار التوبة و إقامة الإمام عليها الحدّ «1».

ثم إنّه قد اتّضح ممّا تقدّم، الفرق بين الملاعنة و المحدودة قبل التوبة و وجه الحكم بثبوت حدّ القذف في الأولى دون الثانية فإنّ اللعان ليس طريقا لثبوت الزنا بل هو سبب لسقوط الحدّ فهي بعد لم تخرج عن كونها محصنة و هذا بخلاف المحدودة غير التائبة فإنّها خرجت عن كونها محصنة بإقامة الشهود الشهادة على زناءها، و إجراء الحدّ عليها مع عدم توبتها فلا يوجب قذفها حدا لأنّها ليست من المحصنات و الحال هذه.

إذا قال لامرأته: زنيت بك.

قال المحقّق: و لو قال لامرأته: زنيت بك فلها حدّ على التردّد المذكور و لا يثبت في طرفه حدّ الزنا

حتّى يقرّ أربعا.

أقول: وجه التردّد هو احتمال كونها مكرهة فليست العبارة المذكورة قذفا لها و هذا التردّد هو الذي قد ذكره في ما لو قال لمخاطبه: زنيت بفلانة، فراجع.

و في المسالك: و الأقوى ثبوته ما لم يدّع الإكراه بتقريب ما سبق ثم تعرّض لصحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في رجل قال لامرأته: يا زانية أنا زنيت بك قال: عليه حدّ واحد لقذفه إيّاها و أمّا قوله: أنا زنيت بك فلا حدّ فيه إلّا أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام «2» فإنّ ظاهره أنه لا أثر لقوله: أنا زنيت بك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 13 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 134

و أجاب قدّس سرّه عن ذلك بقوله: لا يدلّ على ثبوت الحدّ بقوله أنا زنيت بك و لا نفيه لأن حدّ القذف ثابت على المذكور في الرواية بالكلمة الأولى و هي قوله: يا زانية و يبقى حكم الآخر على الاشتباه و لا يلزم من تعليق الحكم على الاشتباه و لا يلزم من تعليق الحكم على اللفظين ثبوته مع أحدهما إلّا أنه ثابت بالأوّل من دليل خارج انتهى.

أقول: و يمكن إثبات ظهور اللفظة و لزوم حدّ القذف برواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا سألت الفاجرة من فجر بك فقالت: فلان فإنّ عليها حدّين حدّا من فجورها و حدّا من فريتها على الرجل المسلم «1».

و ذلك لعدم الفرق بين: فجر بي فلان، و زنيت بك. و أنت ترى أن الإمام عليه

السلام حكم في الأوّل بالحدّ للفجور فلو لم يكن (زنى بي) ظاهرا في اختيارها فكيف تستحقّ حدّ الفجور مع إمكان أن يكون المزني بها مكرهة و حيث إنه لا فرق بين هذا الكلام و بين قوله: زنيت بك فلا محالة يكون هو أيضا ظاهرا في الاختيار أي اختيارها فيكون قذفا لها، و احتمال الإكراه لا يؤثّر شيئا كما أنه لا ينفع بالنسبة إلى حدّ فجورها فقد حكم بذلك الحدّ أيضا مع احتمال كونها مكرهة على الزنا.

لا يقال: إنّ الموضوع في رواية السكوني هو الفاجرة و هذا العنوان ظاهر جدّا في الإرادة و الاختيار فلا يكون الخبر شاهدا للمقام.

لأنّا نقول: إنّ الفاجرة أيضا قد تكون مكرهة فإنّ حالها تتفاوت بالنسبة إلى الأشخاص و بالنسبة إلى ما يبذل لها.

و أمّا ما يتوهّم من أن الرواية تدلّ على إقامة حدّ الفجور بالإقرار مرّة واحدة.

ففيه أنّها ساكتة عن هذه الجهة لعدم كونها في مقام البيان بالنسبة لها فالمراد

______________________________

(1) التهذيب ج 10 ص 67 ح 12 وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 135

أنّها تحدّ حدّ الفجور بشرائطه.

ألفاظ خاصّة

قال المحقّق: و لو قال: يا ديّوث أو يا كشخان أو يا قرنان أو غير ذلك من الألفاظ فإن أفادت القذف في عرف القائل لزمه الحدّ و إن لم يعرف فائدتها أو كانت مفيدة لغيره فلا حدّ و يعزّر إن أفادت فائدة يكرهها المواجه.

أقول: ظاهر عبارته أن هذه الألفاظ إن أفادت القذف في عرف القائل يلزم هناك الحدّ و إن لم يفد في عرف المواجه و لذا قال صاحب الجواهر بعد ذلك: و كذا لو كانت مفيدة في عرف المواجه

و قالها له جريا على عرفه انتهى.

و فيه إنّ الظاهر أن الأدلّة محمولة على المتعارف بين الناس و هو ما إذا قاله الرامي و فهم منه المخاطب و المقول فيه ذلك، و إلّا فالذي يلقي الكلمة الخبيثة بلا سامع أصلا فهو أيضا مشمول للأدلّة و هو بعيد.

و على الجملة فصدق الرمي بمجرّد الإفادة في عرف القائل غير معلوم بل لو كان في عرف المتكلّم غير مفيد و في عرف المواجه صريحا فصدق الرمي عليه أولى.

و الأولى أن يقال إن كان اللفظ مفيدا في عرفهما فلا إشكال في كونه رميا و أمّا في غير هذه الصورة فصدق الرمي بنحو الإطلاق ممنوع و لا أقلّ من كونه مشكوكا فيه و يدرء الحدّ للشبهة [1].

نعم يمكن أن يوجب الكلمة الخاصة تعزير القائل مع عدم تحقّق القذف إذا أوجب إكراه المواجه و إيذاءه.

______________________________

[1] و قد أوردت عليه دام ظلّه بأنه كيف لم تتعرّضوا لهذا الإشكال في أوّل بحث القذف الذي صرّح المحقّق بقوله: مع معرفة القائل، فأجاب بورود الإشكال هناك أيضا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 136

الكلام في التعريض

قال المحقّق: و كلّ تعريض بما يكرهه المواجه و لم يوضع للقذف لغة و لا عرفا يثبت به التعزير لا الحدّ.

أقول: إنّ التعريض على ما قالوا خلاف التصريح و هو الإيماء و التلويح و لعلّ معناه الظاهر هو الكناية و كون الكلام موهما [1].

قال صاحب الجواهر بعد عبارة المحقّق: بلا خلاف أجده فيه بيننا. ثم قال:

نعم عن مالك أنه يجعله قذفا عند الغضب دون الرضا انتهى.

و كأنّه رحمه اللّه كانت له عناية بنقل ذلك عن مالك.

و كيف كان فعنده أن التعريض إذا كان عند الغضب فهو قذف و هذا الذي

ذكره لا بأس به، و ذلك لتحقّق الدلالة العرفية عند إلقائه في حال الغضب دون مقام الرضا.

قال في الجواهر توجيها لما ذكره مالك من كونه قذفا: يمكن إرادته الدّالّ منه عرفا على ذلك لا غيره ممّا لم يكن كذلك.

ثم قال: اللّهم أن يقال: إنّ التعريض الذي نفوا الحدّ فيه دالّ عرفا بدلالة التعريض إلّا أنّها غير معتبرة في ثبوت القذف للأصل و اعتبار التصريح في ما سمعته من الخبر و بناء الحدّ على التخفيف و غير ذلك، و من هنا صرّح في الرياض بعدم اعتبار التعريض.

و فيه إنّه قد تقدّم عدم خصوصيّة للصريح بمعناه اللغوي بل كان يكفي مطلق الدلالة و إن كان بالظهور لا بالصراحة و حينئذ فإذا كان التعريض دالّا عرفا على

______________________________

[1] في مجمع البحرين: الكناية بالكسر و هي ما دلّ على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة و المجاز بوصف جامع بينهما و يكون في المفرد و المركّب و هي غير التعريض فإنّه اللفظ الدّال على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أو المجازي بل من جهة التلويح و الإشارة فيختصّ باللفظ المركّب كقول من يتوقّع صلة: و اللّه إنّي لمحتاج، فإنّه تعريض بالطلب انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 137

نسبة الزنا مثلا إليه فكيف يقال بعدم الحدّ بعد أن حكم الشارع كتابا و سنة مترتّب على ما يفهم من اللفظ أي القذف فإنّ خطابات الشرع منزّلة على المفاهيم العرفية و على الجملة فلو كانت الدلالة بالتأويل و التوجيه فهو و أمّا إذا كان لفظ التعريض دالّا عرفا فهو من أقسام المصرّح و يترتّب عليه الحدّ.

و على هذا فيكفي في تحقّق القذف الظهور العرفي و لا حاجة إلى الصريح.

و

قد يتمسّك لاعتبار التصريح برواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عليه السلام: إنّ عليّا عليه السلام كان يعزّر في الهجاء و لا يجلد الحدّ إلّا في الفرية المصرّحة أن يقول: يا زان أو يا بن الزانية، أو لست لأبيك «1».

و فيه أنه مع التصريح باعتبار الفرية المصرّحة فقد مثّل عليه السلام بقوله:

لست لأبيك، مع أنه ليس بصريح في الزنا بل هو ظاهر فيه لاستعماله في ولد الشّبهة أيضا و على هذا فالموارد التي نفى الإمام عليه السلام الحدّ فيها لم يكن فيها ظهور عرفيّ.

إن قلت: إنّ النسب التعريضيّة مثل قوله القائل: لست بحمد اللّه بزان أيضا ظاهر في نسبة المخاطب مثلا إلى الزنا [1].

نقول: ليس لهذا التركيب ظهور عرفيّ في ذلك كما أن قولنا: أنت لا تأكل أموال الناس، لا يدلّ على أنّنا نأكل أموال الناس.

ثم إنّ المستفاد من عبارة المحقّق هو أن الملاك في التعريض الموجب للتعزير هو كونه بما يكرهه المواجه.

و فيه إنّه لا خصوصيّة للمواجه فربّما لا يكون النسبة متوجّهة إليه بل النسبة متوجّهة إلى شخص آخر لا تعلّق له بالمواجه به أو أنه و إن كانت بينهما علقة و قرابة لكنّها لا توجب كراهية المواجه فهل يمكن أن يقال: إنّه ليس بتعريض أو

______________________________

[1] من المقرّر، و قد أجاب دام بقاه بما في المتن و لعل مراده أن قول: لست بزان دالّ على عدم زناه قطعا و لا يدلّ على زنا الغير قطعا بل يريد أن يقول هناك احتمال ذلك و هذا لا يوجب الحدّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 138

أنه لا يوجب التعزير استنادا إلى عدم

إيجابه كراهية المواجه؟

و على الجملة فلم يتعرّض بحسب ظاهر كلامه لما يكرهه المنسوب إليه لو سمعه مع أنه أيضا كالأوّل و لا خصوصيّة له.

بل لعلّ ذلك خلاف المستفاد من الروايات، فإنّ الظاهر منها أن مطلق السبّ و الهجاء و ما يوجب كراهية من قيل فيه يقتضي تعزيره و إليك قسما من الروايات الدّالّة على أن السّب مطلقا أو الهجاء للمؤمن حرام و فسوق أو أنه يوجب التعزير و قد ذكر قسم منها في أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج و قسم آخر منها في أبواب القذف:

فمنها عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سباب المؤمن فسوق و قتاله كفر و أكل لحمه معصية و حرمة ماله كحرمة دمه «1».

و عن معلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: قال اللّه عزّ و جلّ: ليأذن بحرب منّي من أذلّ عبدي المؤمن و ليأمن من غضبي من أكرم عبدي المؤمن «2».

و هذه الروايات تدلّ على الحرمة و أمّا ما دلّ على التعزير أيضا:

ففي صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل سبّ رجلا بغير قذف يعرض به هل يجلد؟ قال: عليه تعزير «3».

و عن جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إذا قال الرجل: أنت خبيث (خنث) أو أنت خنزير فليس فيه حدّ و لكن فيه موعظة و بعض العقوبة [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 2، و في المنجد: خنث الرجل فهو خنث، كان فيه لين و تكسّر و تثنّ فكان على صورة الرجال و أحوال

النساء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 8 ص 610 ب 158 من أحكام العشرة ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 8 ص 591 ب 147 من أحكام العشرة ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 452 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 139

و عن أبي مخلّد السّراج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل دعا آخر: ابن المجنون، فقال له الآخر: أنت ابن المجنون فأمر الأوّل أن يجلد صاحبه عشرين جلدة و قال: اعلم أنه مستعقب مثلها عشرين فلمّا جلده أعطى المجلود السوط فجلده عشرين نكالا ينكل بهما «1».

و عن النعمان بن عبد السلام عن أبي حنيفة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل قال لآخر: يا فاسق، قال: لا حدّ عليه و يعزّر «2».

و عن أبي مريم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في الهجاء التعزير «3».

و عن إسحاق بن عمّار عن جعفر عليه السلام: إنّ عليّا عليه السلام كان يعزّر في الهجاء و لا يجلد الحدّ إلّا في الفرية المصرّحة أن يقول: يا زان، أو يا ابن الزانية أو لست لأبيك «4».

و في قرب الإسناد عن جعفر بن محمّد عن أبيه في رجل قال لرجل: يا شارب الخمر يا آكل الخنزير قال: لا حدّ عليه و لكن يضرب أسواطا «5».

و عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين افترى كلّ واحد منهما على صاحبه؟ فقال: يدرأ عنهما الحدّ و يعزّران «6».

و عن أبي ولّاد الحنّاط قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: أتى أمير المؤمنين عليه

السلام برجلين قذف كلّ واحد منهما صاحبه بالزنا في بدنه، قال:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 9 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 5.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 6.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 10.

(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 140

فدرأ عنهما الحدّ و عزّرهما [1].

إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على المقصود و سيأتي بعض آخر منها في طيّ الأبحاث و على الجملة فلا شكّ في أن إيذاء المؤمن من المعاصي الكبيرة و لا في أن سبّه أو تعريضه موجب لإيذائه و هو موجب للتعزير فإذا سبّ مؤمنا فإنّه يعزّر على ذلك سواء كان سبّه له بالمواجهة أو في غيابه.

نعم لو اغتابه بلا سبّ فربّما يكفّره مجرّد الاستحلال منه بلا حاجة إلى التعزير إلّا أن يثبت في محلّه وجوب التعزير لكلّ كبيرة و لا أقلّ من إثبات وجوبه للغيبة.

و أمّا وجوب التعزير لسبّ المؤمن إذا لم يكن مقرونا بالقذف فهو المصرّح به في هذه الرّوايات.

و قد اتّضح أن الأخبار متعرّضة للتعزير في موارد و عند حصول عناوين مختلفة:

أحدها: السّب كما في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه المذكورة آنفا.

ثانيها و ثالثها: قول يا خبيث، أو يا خنث أو يا خنزير كما في رواية المدائني.

رابعها: قول: يا ابن المجنون كما في رواية السّرّاج.

خامسها قول: يا فاسق كما في رواية أبي حنيفة.

سادسها: الهجاء كما في

رواية أبي مريم و رواية إسحاق بن عمّار.

سابعها و ثامنها قول: يا شارب الخمر، يا آكل الخنزير كما في رواية قرب الإسناد.

تاسعها: افتراء كل منهما الآخر كما في رواية عبد اللّه بن سنان.

عاشرها: قذف كلّ منهما الآخر كما في رواية الحنّاط.

لكن لا يخفى أن التعزير هنا مخصوص بما إذا كان قذف كل بالنسبة إلى صاحبه. و أمّا إذا كان بالنسبة إلى والد الآخر أو والدته كما إذا قال: يا بن الزاني

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من أبواب حدّ القذف ح 2- قوله: في بدنه، الظاهر أنه بدنة أي قذف صاحبه في نزاع بينهما في بدنة. راجع الوافي ج 2 أبواب الحدود ص 56.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 141

أو يا بن الزانية فهنا لكلّ من المقذوفين أن يطالب حدّ القاذف فدرء الحد، مخصوص بما إذا قال كلّ للآخر: يا زاني مثلا.

و هنا روايات مشتملة على عناوين أخر في هذا المقام فنقول:

حادي عشرها و ثاني عشرها: لا أب لك و لا أمّ لك ففي رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه السلام قال: من قال لصاحبه: لا أب لك و لا أمّ لك يتصدّق بشي ء و من قال: لا و أبي فليقل أشهد أن لا إله إلّا اللّه فإنّها كفّارة لقوله [1].

أقول: الظاهر أن المراد بقوله: لا أب و لا أمّ لك هو أنه ليس لك أب و أمّ وجيهان لا أن يكون المقصود كونه من الزنا.

ثالث عشرها: احتلمت بأمّك أي رأيتها في المنام و حصل لي الاحتلام بها.

كما في رواية حسين بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إنّ رجلا لقي رجلا على

عهد أمير المؤمنين عليه السلام فقال: إنّ هذا افترى عليّ قال:

و ما قال لك؟ قال: إنّه احتلم بأمّ الآخر قال: إنّ في العدل إن شئت جلدت ظلّه فإنّ الحلم إنّما هو مثل الظلّ و لكنّا سنوجعه ضربا وجيعا حتّى لا يؤذي المسلمين، فضربه ضربا وجيعا «1».

و عن محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام:

إنّ رجلا قال له: إنّ هذا زعم أنه احتلم بأمّي فقال: إنّ الحلم بمنزلة الظّلّ فإن شئت جلدت لك ظلّه ثم قال: لكني أؤدّبه لئلّا يعود يؤذي المسلمين «2»

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 7 و حيث إنّ اللفظين كان من السبّ فلذا قال: فليتصدّق و أمّا قول: و أبي فهو القسم بغير اللّه تعالى و فيه شائبة الشرك فلذا يكفّره بقول: لا إله إلّا اللّه و قد ورد في تفسير آية: و ما يؤمن أكثرهم باللّه إلّا و هم مشركون، يوسف 106 عن الباقر عليه السلام: من ذلك قول الرجل: لا و حياتك، راجع تفسير الصافي ج 1 ص 860.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 142

رابع عشرها: قول الرجل لامرأته: لم أجدك عذراء كما في روايات عديدة و سيأتي الكلام فيه.

خامس عشرها الإيذاء و هو الكلّي الجامع الذي يشمل الموارد المذكورة و يجمعها و هذا العنوان مذكور في هاتين: رواية حسين بن أبي العلا و رواية قضايا أمير المؤمنين عليه السلام ففي الأولى حتّى لا يؤذي المسلمين، و في الأخيرة: لئلا يعود يؤذي المسلمين.

ثم

إنّ في بعض الروايات تعزير من افترى على أهل الذمّة و أهل الكتاب، و عليه فمن العناوين: الافتراء عليهم.

فعن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الافتراء على أهل الذمّة و أهل الكتاب هل يجلد المسلم الحدّ في الافتراء عليهم؟ قال: لا و لكن يعزّر «1».

ثمّ إنّ مقتضى التعليل الوارد في رواية حسين بن أبي العلا و رواية القضايا هو أن الملاك الكلّي الإيذاء و من المعلوم أن إيذاء المسلم حرام يوجب التعزير سواء كان لفظيّا أم فعليّا و سواء كان بالنسبة إلى المواجه أو الغائب إذا كان هناك مخاطب و إن لم يكن النسبة إليه و لا إلى من يلوذ به بل إلى أجنبيّ عنه.

نعم هو منصرف عمّا إذا قال في حقّ أحد كلمة سوء و لم يكن هناك أحد يستمعه و إنّما ذكر ذلك و تفوه بها تحت لحافه مثلا.

ثم إنّه بعد ما استفدنا أن الملاك الكلّي هو استخفاف المؤمن و إيذائه فالظاهر أنه لا اختصاص بتلك الكلمات الواردة في الروايات فدقّق النظر في رواية حسين بن أبي العلا تجد أنه لا خصوصيّة للرؤيا في المنام و لا للتّفوّه بتلك الكلمة الخاصّة أي احتلمت بأمك بل تمام المعيار هو إيذاء المسلم و عليه فالأمثلة الواردة في الروايات كانت من باب المثال لا لخصوصيّة فيها فلذا لو قال له: يا آكل الربا أو يا آكل الدم أو الميتة و غير ذلك فالأمر كما ذكر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب حدّ القذف ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 143

قال المحقّق الأردبيلي (عند قول العلّامة في الإرشاد: و كلّ تعريض بما يكرهه المواجه يوجب التعزير كانت

ولد حرام.): و الظاهر أن كلّ ما يؤذي المسلم بغير حقّ بل كلّ ذنب غير موجب للحدّ موجب للتعزير و ليس بمخصوص بالخطاب إلى مواجه بما يكرهه كما يفهم من تضاعيف الأبحاث و لأنّه لا خصوصيّة له بالمخاطب بل باللّفظ و الكلام أيضا بل سببه كونه معصية و ذنبا فيؤخذ أينما وجد، و أمّا الدليل على الكليّة فلا يكاد أن يوجد ما يكون نصّا فيه نعم قد يوجد في الأخبار ما يمكن فهمه منها و قد مرّ بعضها مثل صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام إلخ فراجع.

و قد ذكر العلماء رضوان اللّه تعالى عليهم أمثلة كثيرة ينطبق على كثير منها السبّ أو ما يؤذي المؤمن من جهة دلالتها على فعل المحرّم أو على ما هو وهن و تحقير له مثل يا خبيث و يا وضيع.

و قد مثّل المحقّق قدّس سرّه لذلك

بقوله: أنت ولد حرام، أو حملت بك أمّك في حيضها أو يقول لزوجته لم أجدك عذراء أو يقول: يا فاسق أو يا شارب الخمر و نحو ذلك و هو متظاهر بالفسق، أو يا خنزير أو يا كلب أو يا حقير أو يا وضيع.

فإنّ الجملة الأولى ليست صريحة و لا ظاهرة في الزنا لاستعماله في غير هذا المعنى أيضا كالحمل في حال الحيض أو الصوم أو الإحرام.

و الجملة الثانية صريحة في معنى آخر غير ما هو ملاك القذف لكنها نسبة توجب الاستخفاف و الفضيحة.

و الجملة الثالثة أيضا ليست صريحة في نسبة الزنا إليها و لا ظاهرة في ذلك فإنّ العذرة قد تزول بأسباب أخر غير المجامعة كما صرّح بذلك في مرسلة الصدوق:

إنّ العذرة قد تسقط من غير جماع قد

تذهب بالنكبة و العثرة و السّقطة [1].

و يدلّ على لزوم التعزير في خصوص هذا القول رواية يونس عن أبي بصير

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 15 ب 17 من أبواب اللعان ح 6 أقول: قال في مجمع البحرين: النكبة في قوله: العذرة يعنى البكارة قد تذهب بالنكبة، يعني الطفرة و العثرة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 144

عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: في رجل قال لامرأته: لم أجدك عذراء قال:

يضرب، قلت: فإن عاد قال: يضرب فإنّه يوشك أن ينتهي «1».

قال الشيخ المحدّث الحرّ العاملي بعد نقل هذا الخبر: و رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن عبيد عن يونس. و زاد: قال يونس:

يضرب ضرب أدب ليس يضرب الحدّ لئلّا يؤذي امرأة مؤمنة بالتعريض.

و أمّا باقي الألفاظ الذي ذكره المحقّق قدّس سرّه فقد صرّح ببعضها في الروايات المتقدّمة كرواية المدائني و السّرّاج. مضافا إلى أن نسبة الفسق أو فسق خاصّ إلى المسلم يوجب إيذاءه و هو يوجب التعزير.

نعم هذا مخصوص بمن يواظب على الستر و الإخفاء و يأبى عن التجاهر بالفسق فلو كان متجاهرا بالفسق فلا بأس برميه به و هو مستحق لذلك و لا تعزير عليه كما سيأتي البحث في ذلك.

و هل إطلاق الكلب و الخنزير على الفاسق أيضا كذلك؟ لا يبعد ذلك.

و التعدّي عن جواز غيبته إلى إطلاق هذه الكلمات عليه لا يخلو عن كلام.

و قد يقال [1] إنّه قد ورد في خصوص المورد ما يفيد الجواز مثل قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمروان: الوزغ بن الوزغ «2».

و قول الإمام أبي جعفر عليه السلام لمن قال له: إنّي أصوم يوما و أفطر يوما فهل يكون

هذا كفّارة لذاك؟: يا بازنة تعمل عمل أهل النار و تريد أن تدخل الجنة «3».

فقد أطلق في الأول لفظ الوزغ على مروان و أبيه و في الثاني لفظ بازنة المراد منه بوزينه، على الشخص الذي كان يزني يوما و يصوم يوما.

أقول: و لعلّه كذلك كما أن رسول اللّه عليه و آله شتم بني قريظة بأمثال هذه

______________________________

[1] قاله هذا العبد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 15 ب 17 من أبواب اللعان ح 2.

(2) الغدير ج 8 ص 260 نقلا عن مستدرك الحاكم- 4- 479.

(3) الوافي ج 2 باب الحدود و التعزيرات ص 34.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 145

الكلمات فقد ورد أنه كان كعب بن أسيد يشتم رسول اللّه و يشتم المسلمين فلمّا دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حصنهم قال: يا إخوة القردة و الخنازير و عبدة الطاغوت أ تشتموني إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباحهم- صباح المنذرين- فأشرف عليهم كعب بن أسيد من الحصن فقال: و اللّه يا أبا القاسم ما كنت جهولا و لا سبّابا فاستحيى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى سقط الرداء من ظهره حياء ممّا قال [1].

ثم إنّه بعد أن ثبت أن إيذاء المسلم حرام قطعا و بلا ترديد يأتي هنا سؤال و هو أنه هل يمكن الحكم بحرمة كلّ ما يتأذّى منه المسلم و إن كان تأذّيه على خلاف القاعدة لكونه بنفسه خلاف المتعارف و كان له شذوذ و حالات خاصّة؟.

الظاهر خلاف ذلك و أنّ المعيار هو تأذّيه المناسب بحيث كان عند متعارف الناس في موضعه و يحكم العرف بأنه كان حقيقا بأن يتأذّى لا ما إذا كان يتأذّى لكونه كثير التوقّع

سريع التأثّر ينتظر من الناس ما لا يطيقونه و يتوقّع منهم ما لا يتحمّله المجتمع في محاوراتهم و مراوداتهم.

و منه قد اتّضح حال فرع آخر و هو أن بعض الناس يتأذّون بمدحهم و بالكلمة الحسنة التي يقال فيهم فإنّه لا مجال للحكم بالحرمة و التعزير هنا.

و على الجملة فالمعيار هو ما كان متعارفا فإيذاءه بهذا النحو و إلقاء كلمة إليه توجب ذلك يوجب التعزير.

و أمّا أنّ كلّ كبيرة أو كل معصية يوجب التعزير أم لا فهو يحتاج إلى مزيد التتبّع و مراجعة الأدلّة و سيأتي البحث عن ذلك إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

[1] بحار الأنوار ج 2 ص 234 و 262، و في السفينة في رواية الطبرسي قال بعد قوله: فساء صباح المنذرين: يا عباد الطواغيت اخسأوا أخساكم اللّه فصاحوا يمينا و شمالا: يا أبا القاسم ما كنت فحّاشا فما بدا لك؟ قال الصادق عليه السلام: فسقطت العنزة من يده و سقط رداؤه من خلفه و رجع يمشي إلى ورائه حياء ممّا قال لهم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 146

إذا كان المقول له مستحقا فلا شي ء على من عرّضه

قال المحقّق: و لو كان المقول له مستحقّا للاستخفاف فلا حدّ و لا تعزير.

و في الجواهر في بيان وجه استحقاق الاستخفاف و موجبه: لكفر أو ابتداع أو تجاهر بفسق.

و حاصل الكلام أنه لو كان الرامي كافرا أو مبتدعا في الدين أو متجاهرا بالمعصية فهو مستحقّ للاستخفاف و الإهانة به و لا بأس بذلك.

و قال عند قول المحقّق: فلا حدّ و لا تعزير،: بلا خلاف بل عن الغنية الإجماع عليه بل و إشكال بل يترتّب له الأجر على ذلك [1].

أقول: أمّا الكافر فهو و إن كان يدلّ على جواز قذفه بعض الروايات إلّا أن في

بعضها الآخر ما يخالف ذلك فعن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّه نهى عن قذف من ليس على الإسلام إلّا أن يطّلع على ذلك منهم و قال: أيسر ما يكون أن يكون قد كذب «1».

و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّه نهى عن قذف من كان على غير الإسلام إلّا أن تكون قد اطّلعت على ذلك منه «2».

______________________________

[1] أقول: محلّ البحث هنا غير منقّح و ذلك لأن الظاهر بمناسبة المطالب السابقة هو إلقاء الألفاظ و العناوين الموهنة إلّا أن نفي الحدّ في كلام المحقّق ينافي ذلك و لذا قال في المسالك:

و يظهر من قوله: فلا حدّ و لا تعزير أن بعض المذكورات يوجب الحدّ و الّا لما كان لنفيه فائدة و ليس كذلك لأنّها في جميعها يوجب التعزير إلّا أن يريد بنفي الحدّ في حقّه على تقدير قذفه بالزنا مع تظاهره به فإنّ القذف ممّا يوجب الحدّ في غيره و لكن سيأتي أنه يوجب التعزير و الأولى ترك الحدّ، و الاقتصار على نفي هذا التعزير كما صنع في القواعد انتهى. أقول: و سيأتي كلام عن سيّدنا الأستاد الأكبر في ذلك الشأن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 147

فمقتضى هاتين الروايتين أن قذف غير المسلم منهيّ عنه مع عدم اطّلاع على فعله و أمّا مع الاطلاع فلا بأس به.

و عليه فالفرق بين المسلم و الكافر في أنه لا يجوز القذف بالنسبة إلى المسلم مطلقا صادقا أو كاذبا و أمّا بالنسبة إلى كافر فلا يجوز

بدون الاطلاع أي كاذبا و أمّا صادقا كما إذا كان قد رأى ذلك منه فلا بأس به، و مع ذلك فلا تعرّض فيهما للتعزير و عدمه.

و عن أبي الحسن الحذّاء قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فسألني رجل ما فعل غريمك؟ قلت: ذاك ابن الفاعلة فنظر إليّ أبو عبد اللّه عليه السلام نظرا شديدا قال: فقلت: جعلت فداك إنّه مجوسيّ أمّه أخته فقال: أو ليس ذلك في دينهم نكاحا؟ «1».

و هنا أيضا و إن لم يكن تعرّض بالنسبة إلى الحدّ أو التعزير إلّا أنه ظاهر في الحرمة و المعصية.

و عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه قال: جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه إنّي قلت لأمتي: يا زانية فقال: هل رأيت عليها زنا؟ فقالت: لا، فقال: أما إنّها ستقاد منك يوم القيامة فرجعت إلى أمتها فأعطتها سوطا ثمّ قالت: اجلديني فأبت الأمة فأعتقتها ثم أتت إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته فقال: عسى أن يكون به «2».

و يستظهر من هذا ترتب الحدّ أو التعزير مضافا إلى الحرمة، كما يستفاد منه أيضا أنه لو عفى صاحب الحق فلا بأس به و يسقط بذلك الحد.

لا يقال: إنه يستفاد منه أيضا أن أمر الحدّ أو التعزير يكون بيد غير الحاكم أيضا لأنّه يقال: لا دلالة له على ذلك لأنّه وقع الأمر و تحقّق تحت نظر النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بإمضائه صلوات اللّه عليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ القذف ح 4.

الدر المنضود في

أحكام الحدود، ج 2، ص: 148

و كيف كان ليس المقصود من جواز قذف الكفّار جوازه على الإطلاق بل في الجملة فإنّ الأخبار على طوائف مختلفة، و سيأتي كلام آخر في ذلك- في البحث عن المقذوف فانتظر.

هذا أبا لنسبة إلى الكافر و أمّا المبتدع فيجوز ذكره بسوء لأنه مستحقّ للاستخفاف ففي رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة و باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام- و يحذرهم الناس- و لا يتعلّمون من بدعهم يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات و يرفع لكم به الدرجات في الآخرة «1».

ترى أنه قد جوّز بمقتضاها البهتان و الافتراء عليهم و حيث إنّ الكذب غير جائز فلا بدّ من القول بأنّه قد جوّز الكذب هنا للمصلحة و هي سقوط اعتبار المبتدع و كسر جاهه في أنظار الناس كيلا يميلوا إليه فيضلّوا به و إلّا فالبهتان و الكذب ليسا بجائزين [1].

______________________________

[1] كأنّه دام ظلّه العالي كان قاطعاً بأن قوله عليه السلام: باهتوهم بمعنى البهتان و الحال أنه محلّ البحث فإنّه ورد أن: بهته بهتا أي أخذه بغتة.

و قال العلّامة المجلسي قدّس سرّه في مرآة العقول ج 11 ص 81 بشرح الخبر: و الظاهر أن المراد بالمباهتة إلزامهم بالحجج القاطعة و جعلهم متحيّرين لا يحيرون جوابا كما قال تعالى:

فبهت الذي كفر، و يحتمل أن يكون من البهتان للمصلحة فإنّ كثيرا من المساوي يعدّها أكثر الناس محاسن خصوصا العقائد الباطلة و الأوّل أظهر قال الجواهريّ: بهته بهتا أخذه بغتة و بهت الرجل

بالكسر إذا دهش و تحيّر إلخ.

و قال في رسالته الفارسية الموسومة ب حدود و قصاص و ديات ص 28: عند ذكر الرواية:

و بر ايشان حجّت تمام كنيد تا ايشان طغيان نكنند در فاسد كردن دين إسلام.

و ترى أن صاحب الرياض بعد نقّل الرواية قال: و لا تصحّ مواجهته بما يكون نسبته إليه كذبا لحرمته و إمكان الوقيعة فيه من دونه إلخ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 11 ب 39 من أبواب الأمر بالمعروف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 149

و أمّا المتجاهر بالفسق فجواز إهانته ممّا نصّ عليه في الأخبار [1].

ففي رواية هارون بن الجهم عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام: قال:

إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة «2».

(و عن قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع و الإمام الجائر و الفاسق المعلن بالفسق) «3».

نعم غيبته في غير ما تجاهر به من المعاصي مشكل فيقتصر في غيبته على المعصية المتجاهر بها.

فتحصّل أن التعريض و النسبة السوء إلى الأشخاص يوجب التعزير إن حصل شرائط التعريض لا مع عدمه و هو في مورد الكافر الرؤية و الاطلاع على ما رأيت في بعض الأخبار الماضية [4] و في مورد الفسّاق الفسق المتجاهر بها و في غيرهما البدعة في الدين.

ثم لا يخفى أن المحقّق رحمه اللّه نفى في هذا المقام كلّا من الحدّ و التعزير فقال:

لا حدّ و لا تعزير، و قال في البحث عن المقذوف و عند اشتراطه فيه البلوغ و كمال العقل و الحريّة و الإسلام و العفّة: فمن استكملها وجب لقذفه الحدّ و من فقدها أو بعضها فلا حدّ

و فيه التعزير انتهى.

فحيث إنّه صرّح بلزوم تعزير القاذف إذا قذف الكافر مثلا فلا بدّ أن يكون قوله في المقام: (فلا حد و لا تعزير) متعلّقا و مربوطا بالتعريض و عليه فمعنى الكلام أن التعريض الذي لو كان بالنسبة إلى المسلم لكان موجبا للتعزير

______________________________

[1] و عن الغنية الإجماع عليه.

[4] و قد علمت أن تلك الأخبار واردة في قذف الكافر و متعلّقة بحدّه لا تعزيره اللّهمّ إلّا أن يتمسّك بتنقيح المناط.

______________________________

(2) وسائل الشيعة ج 8 ب 154 من أبواب أحكام العشرة ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 8 ب 154 من أبواب أحكام العشرة ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 150

فلا يوجب ذلك إذا كان بالنسبة إلى الكافر فلا تعزير هنا كما لا حدّ.

تعزير من قال ما يوجب الأذى

قال المحقّق: و كذا كلّ ما يوجب أذى كقوله: يا أجذم و يا أبرص.

أقول: إنّ ذكر هذه الجملة هنا زائد لا حاجة إليها أصلا بعد أن صرّح بأن الملاك الكلّي هو كراهة المواجه فكان ينبغي له أن يقتصر على ذكر المثالين عطفا على الأمثلة المتقدّمة.

و مجرّد كونهما راجعين إلى العيوب الجسمانيّة و من باب نسبة المواجه إلى عيب في بدنه لا يوجب أداء المطلب على النحو المزبور [1].

ثمّ إنّه لا يبعد عدم الفرق في حرمة التعريض بين ما إذا كان المواجه فطنا متوجّها و ما إذا كان بحيث لا يدرك الخير و الشرّ أو كان بحيث لا يبالي بما قال و لا ما قيل فيه [2].

بحث في التعزير

ثم إنّه لما انجرّ الكلام إلى تعزير من رمى بما فيه تعريض و إيذاء للغير فقد ناسب أن نبحث في التعزير مطلقا سواء كان من هذا المورد أو غيره.

فنقول: هل يمكن القول بوجوب التعزير في كلّ الذنوب و المعاصي أم لا؟ و لا أقل أن نقول: إنّه يترتب على كلّ الكبائر أم لا؟ بعد أن علم ترتّب التعزير على

______________________________

[1] قاله دام ظلّه العالي جوابا عمّا أوردته من أن هذا البحث ممتاز عن سابقه باعتبار تعلّقه بنسبة أحد غيره إلى ما كان من عيوبه الجسمانية.

[2] إذا كان الملاك هو الإيذاء فلا يخلو ما أفاده دام ظلّه في الفرضين الأخيرين عن كلام فتأمّل.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 151

الإيذاء و الإهانة بمقتضى الأخبار السابقة. يمكن أن يقال باستفادة ذلك منها بلحاظ ذكر أشياء أخر فيها أيضا يوجب التعزير كما هو المصرّح به فيها.

ففي رواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: آكل الميتة و

الدّم و لحم الخنزير عليه أدب فإن عاد أدّب فإن عاد أدّب و ليس عليه حدّ «1».

و عن أبي بصير قال: قلت: آكل الربا بعد البيّنة قال: يؤدّب فإن عاد أدّب فإن عاد قتل «2».

بل لعلّه ورد التعزير [1] في بعض الصغائر أيضا كما أنه قد ورد موارد لم يقع هناك تعزير فقد روى أن الخثعميّة أتت رسول اللّه عليه و آله في حجّة الوداع تستفتيه في الحجّ و كان الفضل بن عبّاس رديف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخذ ينظر إليهما و أخذت تنظر إليه فصرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وجه الفضل عنها و قال: رجل شابّ و امرأة شابّة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان «3».

ترى أنّه صلوات اللّه عليه صرف وجه الفضل و لم يعزّره.

و على الجملة فلم يرد نصّ يدلّ على أن كلّ من فعل ذنبا و أتى بمحرّم يعزّر بل من يقول بذلك فإنّما هو من باب الاستظهار و الاستفادة من تلك الروايات

______________________________

[1] و هنا موارد أخر صرّح في الروايات بالتعزير فيها، منها: مطاوعة المرأة لزوجها في إفطار رمضان فإنّه يضرب كلّ واحد منهما خمسة و عشرين سوطا. الكافي 7 ص 242 ح 12.

و منها: إتيان الأهل و هي حائض فإنّه يضرب خمسة و عشرين سوطا الكافي 7 ص 242 ح 13.

و منها: شهود الزور كما في رواية سماعة ح 16 إلى غير ذلك من الموارد بل ذكر المجلسيّ قدّس سرّه في رسالته الفارسية في الحدود و القصاص ص 60 أن التعزير على خمسين نوعا ثم ذكر تلك الموارد و بعد أن فرغ منها قال في ص 66: لم ينضبط التعزيرات على النهج المذكور في

هذه الرسالة في كتاب أحد من علماء السلف رضوان اللّه عليهم بل لم يذكروا عشرا منها و إنّما ذكروا بعضا منها متفرّقة.

______________________________

(1) الكافي ج 7 ص 247.

(2) الكافي ج 7 ص 242 ح 9.

(3) المبسوط ج 4 ص 160.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 152

و نظائرها و الأمثلة المذكورة فيها و على هذا فيترتّب التعزير على فعل المعصية بما يراه الحاكم مصلحة.

و حينئذ فلو استفيد من تلك الأخبار الواردة في المعاصي الخاصّة أن الملاك الكلّي و المعيار الوحيد هو الذنب و إنّما كان ذكر هذه الأمور من باب المثال فلا كلام و إلّا فيشكل الأمر في التعزير على مطلق المعاصي.

و الإنصاف أن مجال الإشكال في استفادة ذلك منها واسع و ذلك لوجهين:

أحدهما ما ذكره البعض من أنه لا يستفاد منها ترتّب التعزير على كلّ ذنب من جهة اختلاف المراتب.

و هذا الإشكال وارد جدّا فترى الاختلاف الفاحش في المعاصي بحسب العقوبات و الفساد المرتّب عليها فمنها ما يوجب الرجم، و منها ما يوجب القتل، و منها ما يوجب القطع، و منها ما يوجب الجلد، و منها ما يترتّب عليه عقوبة واحدة، و منها ما يترتّب عليه عقوبتان، بل و ربّما يختلف عقوبات أقسام من معصية واحدة و هكذا و لا شكّ في أن هذه الاختلافات كاشفة عن اختلاف مراتب المعاصي و مبغوضيّتها و أنّها ليست على نسق واحد فالقول بأن الملاك هو الذنب و أن ما ذكر في الروايات كان من باب المثال بلا خصوصيّة أصلا و إنّما ذكرت هذه الأمثلة لمصالح و جهات عارضيّة مثلا لا يخلو عن إشكال.

بل و من هذا يظهر الإشكال فيما ذكرناه سابقا من ترتّب التعزير على الإيذاء فإنّ

هذا أيضا بإطلاقه غير تامّ و يشكل الالتزام بأن كلّ أذيّة قليلة كانت أو كثيرة و في أي حالة من الحالات توجب التعزير نعم لا شكّ في حرمة إيذاء المؤمن و أمّا التعزير مطلقا فمشكل لاختلاف مراتب الأذيّة و لذا قد صار أمر التعزير موكولا إلى الحاكم حتّى يختار ما هو الأصلح و المناسب قليلا أو كثيرا بل وجودا و عدما.

و الحاصل أنه يشكل الحكم بأن ملاك التعزير هو جامع الذنب، و ذلك لأنّه ربّما لا يصلح له إلّا التعزير و آخر لا يصلح له إلّا التوبة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 153

ثانيهما: ثبوت موارد قد تحقّقت المعصية و لم يحكم المعصوم عليه السلام بالتعزير و منها ما تقدّم سابقا في مسألة: لا يرجم من كان للّه عليه حدّ «1» من نداء الإمام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و آله عند رجم المرأة الّتي أقرّت بالزنا:

إنّ من اللّه عليه حدّ مثل الحدّ الذي عليها فإنّه لا يقيم الحدّ، و قد ورد هناك أنه انصرف الناس كلّهم ما خلا أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السلام.

و قد وقع مثل ذلك في قضايا أمير المؤمنين عليه السلام غير مرّة. ترى التصريح في هذه الأخبار بانصراف الناس و رجوعهم جميعا و لم يرد فيها أن الإمام عليّا عليه السلام قد أمر بتعزيرهم مع إقرارهم بالمعصية عملا.

استدلالان آخران على وجوب التعزير لكلّ معصية

ثمّ إنّ هنا أمران آخران قد يستدلّ بهما في إثبات التعزير على كلّ ذنب.

أحدهما حفظ النظام. تقريره أن الإسلام قد اهتمّ بحفظ النظام المادّي و المعنوي و إجراء الأحكام على مجاريها و من الطبيعيّ أن هذا يقتضي أن يعزّر الحاكم كلّ من خالف النظام.

ثانيهما: الروايات الدالّة على أن لكل

شي ء حدا و من تعدّى ذلك الحدّ كان له حدّ «2».

و قد حكى بعض المعاصرين قدّس سرّه الأمر الأوّل ثم قال: و يدلّ عليه أيضا النصوص الخاصّة الواردة في موارد مخصوصة الدّالّة على أن للحاكم التعزير و التأديب حتّى في الصبي و المملوك إلخ «3».

و مع ذلك فقد أورد عليه بقوله: و يمكن أن يقال: ما ذكر في حفظ النظام يمكن

______________________________

(1) راجع الدّر المنضود ج 1 ص 433 و وسائل الشيعة ج 18 ب 31 من مقدّمات الحدود ح 1 و 2 و 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

(3) جامع المدارك الطبع 1 ج 7 ص 97 و 98.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 154

فيه الإكتفاء بالنهي عن المنكر و أمّا لزوم التعزير فلا يستقلّ به العقل.

و نحن أيضا نقول: إنّه و إن كان أصل الكلام و الكبرى الكليّة جيّدا لا يقبل الإنكار و الإشكال فإنّه لا شكّ في أنه لا بدّ من الاحتفاظ على نظام أمور الأمّة ماديّة و معنويّة و إقامة قوائم عرشه على الكاهل و لا يجوز لأحد أن يحدث ما يخلّ بنظام الأمّة الإسلامية فإنّ القوانين الإلهيّة و المناهج الدينيّة و الأنظمة الشرعية كلّها مجعولة و مقرّرة لإيجاد النظم في المجتمع و استقراره في العالم الإسلامي فإنّ القتل يوجب تلف النفوس، و الزنا يوجب ضياع النسل و هكذا سائر المحرّمات الشرعيّة يوجب خللا في ناحية من العيش و بالجملة فهذا ممّا لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه. إلّا أن اللّه تعالى قد قرّر طرقا و مناهج لحفظ النظام و صيانته كالحدود المقرّرة و العقوبات الخاصّة و الأمر بالمعروف و النهي

عن المنكر بمراحلهما و مراتبهما المختلفة، و أمّا حفظه بشي ء آخر غير ما جعله الشارع من الحدود، و التعزيرات في موارد منصوصة في الكتاب أو السنّة، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في غير تلك الموارد فلا يستقلّ به العقل، و يشكل جدّا- في موارد لم يجعل له الشارع عقوبة حدّا أو تعزيرا و لم ينصّ بها- القول بوجوب هذه العقوبة الخاصّة أعني التعزير مع عدم العلم بوصوله من الشارع أو العلم بالعدم.

و على الجملة فالعقل مستقلّ بقبح الإخلال في النظام و منعه و لزوم حفظه و بقائه لكنّ الشارع قد أقدم على طرق الاحتفاظ به- بإتيان الواجبات و ترك المحرّمات- بما قرّره بلسان القرآن الكريم وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ «1» إلى غير ذلك من الآيات الكريمة و الروايات الشريفة الواردة في هذا الموضوع فإنّ الهدف من الأمر و النهي هو الحفاظ على الواجبات و ردع الناس عن المحرّمات كما أن من الطرق التي سلكها الشارع للوصول إلى هذا الهدف هو ما أوعد به من العقوبات في الآخرة و العذاب الأليم و النّكال الدائم، و من العقوبات هي الّتي قرّرها في هذا العالم على بعض

______________________________

(1) سورة آل عمران الآية 104.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 155

المعاصي بعنوان الحدود و في قسم منها بعنوان التعزير فعلى الحاكم أن يمنع من ترك الواجبات و اقتراف المحرّمات بالطريق المقرّر المجعول بلا شبهة و هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عند ما لم يكن من موارد الحدّ و التعزير المنصوصة في لسان الكتاب أو السنّة و أمّا أنه هل أجاز جعل طريق آخر لذلك

مع أنه لم يرد دليل من الشارع فهو مشكل.

و بتعبير أوضح من هذا: إنّ دفع الاختلال الواجب عقلا إذا أمكن بإجراء ما قرّره الشارع و إقامة مقرّراته فلا يمكن القول بدفعه من طريق آخر غير واصل من الشارع الحكيم فإنّ مجرّد حكم العقل بلزوم حفظ النظام و دفع ما يخلّ به لا يقتضي ذلك أصلا.

اللهم إلّا أن يثبت للحاكم ولاية مطلقة تشمل جعل الأحكام أيضا و هو مشكل بالنسبة إلى النبيّ و الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين فضلا عمّن سواهما.

و ممّا ذكرنا في هذا المقام يتّضح الأمر في كيفيّات التعزيرات و أنه هل يجوز التعدّي عمّا ورد إلى مطلق ما يوجب ردعه عن المعصية و يؤثّر في حفظ النظام كالحبس و الجريمة الماليّة و غير ذلك؟.

فإنّ الظاهر عدم ذلك لأن الفقيه ليس بيده الجعل و إلّا فلو فرض في مورد أن قطع أذن السارق أنفذ و أشدّ تأثيرا من قطع يده المذكور المقرّر في القرآن الكريم، أو أن أخذ مبلغ كثير من الزاني كان أشدّ تأثيرا عليه من جلده مأة، لكان اللّازم أن نقول: إنّ له أن يعدل من قطع اليد إلى قطع الأذن و من الجلد إلى أخذ مال كثير منه، و هل يمكن الالتزام بذلك و التفوّه به؟.

فتحصّل أنه لو نصّ في موارد على حدّ معيّن و عقوبة خاصة فهو، كما أنه في موارد قرّر الشارع فيها تعزيرا خاصّا أو أنه أوجب أو أجاز الحبس أو حكم بالكفّارة التي هي نوع جريمة ماليّة، يقال بمقتضاها أمّا في غير ذلك فلا بدّ من الأخذ بالمقرّر العامّ و هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و لا مجال للتّمسّك

الدر المنضود في أحكام الحدود،

ج 2، ص: 156

بحفظ النظام في تجويز التعزير عند عدم ورود ذلك من الشرع و ما لم يثبت ولاية عامّة للفقيه تشمل جعل الأحكام.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 156

ثانيهما: الروايات الدّالّة على أن لكلّ شي ء حدّا فعن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إنّ لكلّ شي ء حدّا و من تعدّى ذلك الحدّ كان له حدّ [1].

و فيه أن إثبات المطلوب بهذه مشكل و ذلك لأنّه أوّلا أن الخبر بحسب ظاهره شامل لكلّ شي ء و من المعلوم أنه ليس كلّ الأشياء كذلك إلّا أن يكون المراد من كلّ شي ء كلّ معصية من فعل الحرام و ترك الواجب. و ثانيا إنّ الرواية مجملة لعدم معلوميّة المراد من الحدّ فهل هو الحدّ المصطلح أو المراد منه المقدار فإنّ ما كان له مقدار معيّن و كان له انتهاء فله حدّ و هو محدود و من المعلوم أن كلّ ما هو غير اللّه تعالى فله حدّ و مقدار و بداية و نهاية و إنّما اللّه سبحانه هو الذي ليس له حدّ محدود و لا ابتداء و لا انتهاء، أو أن المراد من الحدّ هو ما يقال: إنّ للبذل و الإنفاق حدّا و للمحبّة حدّا و للعداوة حدّا؟ و مع هذا الإجمال كيف يتمسّك بها.

فلو كان المراد من الحدّ العقوبة المقرّرة على المعاصي من اللّه تعالى لكانت الرواية دالّة على المقصود، و أمّا مع احتمال شي ء آخر- على ما ذكرنا- كاحتمال (كلّ شي ء) لغير ما ذكر فلا.

و بعبارة أخرى الأمر دائر بين أن يكون الحدّ

قرينة على كون المراد من الشي ء، المحرّم أو أن يكون (كلّ شي ء) قرينة على كون المراد من الحدّ الانتهاء فلو لم تكن القضيّة ظاهرة في الثاني فلا أقلّ من إجمالها المانع من التمسك بها.

إن قلت: إنّ الظاهر من الرواية تركيبها من صغرى و كبرى فإنّ مفادها أن كلّ شي ء أي أيّ موضوع من الموضوعات محكوم بحكم من الأحكام الإلهيّة

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدمات الحدود ح 2 أقول: إنّه ذكر دام ظلّه وجهين في الإشكال على التمسك بهذه الروايات و قد ذكرهما بعض أكابر العصر قدّس سرّه في جامع المدارك ج 7 أحدهما في ص 121 و الآخر في ص 98 فراجع نعم في بيان سيّدنا الأستاذ الأكبر دام ظلّه مزيد احتمال و بيان كما لا يخفى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 157

و من تجاوز هذا الحكم و الحدّ و القانون فأخرج المباح إلى الحرام أو الواجب أو بالعكس مثلا فإنّ عليه الحدّ. فالحدّ الأوّل هو القانون و الحكم، و الحدّ الثاني هو العقوبة الإلهيّة الشاملة للحدّ و التعزير، و إطلاق الحدّ على الأعمّ ليس بنادر [1].

نقول: إنّ إطلاق الحدّ في الجملة الأولى على الحكم مجاز و خلاف الظاهر فلا يصار إليه بدون دليل و قرينة.

هذا تمام الكلام في المقام، و غير خاف عليك أن المحقّق قدّس سرّه قال في أول البحث في القذف بأنّ النظر في أمور أربعة الأوّل في الموجب إلخ فهذه المطالب كانت بالنسبة إلى النظر الأوّل و هنا تصل النوبة إلى النظر الثاني.

الكلام في القاذف و ما يعتبر فيه

قال المحقّق: الثاني في القاذف و يعتبر فيه البلوغ و كمال العقل فلو قذف الصبيّ لم يحدّ و عزّر و إن

قذف مسلما بالغا حرّا.

أقول: و ادّعى في الجواهر عدم الخلاف بل الإجماع بقسميه على اعتبار

______________________________

[1] أورده هذا العبد يوم 20 من الربيع الثاني سنة 1408 ه- في مجلس الدرس و أجاب دام ظلّه بما أتينا به في المتن و مع ذلك ففي النفس شي ء و ذلك لأنه قد وردت الجملة المزبورة في رواية أخرى و هي تشتمل على جملات تشهد أو تؤيّد كون المراد ما ذكرته و هي رواية عمرو بن قيس قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: يا عمرو بن قيس أشعرت أن اللّه أرسل رسولا و أنزل عليه كتابا و أنزل في الكتاب كلّ ما يحتاج إليه و جعل له دليلا يدلّ عليه و جعل لكل شي ء حدّا و لمن جاوز الحدّ حدا (إلى أن قال:) قلت: و ك ف جعل لمن جاوز الحدّ حدّا؟ قال: إنّ اللّه حدّ في الأموال أن لا تؤخذ إلّا من حلّها فمن أخذها من غير حلها قطعت يده حدّا لمجاوزة الحدّ و إنّ اللّه حدّ أن لا ينكح النكاح إلّا من حلّه و من فعل غير ذلك إن كان عزبا حدّ و إن كان محصنا رجم لمجاوزة الحد انتهى بل و يشعر بذلك خير علي بن رباط فراجع ب 2 من مقدمات الحدود ح 3 و 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 158

البلوغ و العقل في القاذف.

و يدلّ على عدم حدّ الصبيّ إذا قذف غيره حديث رفع القلم فإنّه يدلّ على أنه لا تكليف عليه إذا فلا يقام عليه هذا الحدّ و لا غيره من الحدود.

و لا يخفى عليك أن مقتضى رفع القلم الذي معناه رفع قلم التكليف أنه لا عقاب عليه و

لا تكليف إلّا أنه لا يدلّ على رفع ما كان مقدّمة لترك المعصية في القابل و إلّا فلما ذا حكم بتعزيره؟ و من المعلوم أن حديث الرفع ليس ممّا يقبل التخصيص بل هو بظاهره آب عن ذلك فلا بدّ من عدم شموله من أوّل الأمر لذلك.

و استشكل بعض المعاصرين قدّس سرّه في دلالة حديث الرفع على اعتبار البلوغ و عدم الحدّ على الصبيّ بأنّ رفع التكليف لا يلازم رفع الحدّ قال: أمّا التمسّك بحديث الرفع فمع ثبوت التعزير و التأدّب عليه لا يخلو عن الإشكال و بعبارة أخرى يمكن أن يقال: إنّ القذف سبب لاستحقاق الحدّ و إن كان جائزا كما لو اجتمع أربعة شهود على الشهادة بالنسبة إلى رجل بالزنا و اتّفق تردّد واحد منهم وقت الشهادة فالثلاثة معذورون في الشهادة لجوازها باعتقادهم و مع ذلك يحدّون فسقوط التكليف لا يوجب سقوط الحدّ كلزوم الجنابة من جهة المباشرة قبل البلوغ فتأمّل «1».

لكن الظاهر عدم ورود ما أورده، و ذلك لأن العرف يفهم من التكليف رفع الحدّ أيضا و إن أمكن التفكيك بينهما عقلا.

و أمّا ما أفاده من النقض ففيه أنه فرق بين المقام و بين مادّة النقض أي الثلاثة الذين شهدوا مع تردّد الرابع الذي حكموا فيه بحدّ الثلاثة.

بيان الفرق أنّهم كانوا على يقين من جواز الشهادة حيث كانوا يرون تمام الشهود فقد أقدموا على إقامتها من باب الجهل المركب لأنّهم كانوا يعتقدون كونهم موضوعا للشهادة مع عدم كونهم في الواقع، موضوعا فلم يكن يجوز لهم

______________________________

(1) جامع المدارك ج 7 ص 99.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 159

الشهادة في الواقع و حيث إنّه كان إقدامهم للجهل المركّب فلا تكليف و لا

عقاب لكن ذلك لا ينافي لزوم الحدّ عليهم لعدم كونهم موضوعا للشهادة.

و هذا بخلاف المقام فإن الظاهر من قوله صلوات اللّه عليه: رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم «1» أن الصبيّ قبل الاحتلام لا شي ء عليه أصلا فلا تكليف و لا حدّ و لا تعزير و الحاصل أنه لا إشكال في التمسك بروايات الرفع لرفع الحدّ عن الصبيّ.

ثمّ إنّه استدلّ على عدم الحدّ على الصبيّ بقذفه برواية فضيل بن يسار قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لا حدّ لمن لا حدّ عليه يعني: لو أن مجنونا قذف رجلا لم أر عليه شيئا و لو قذفه رجل فقال: يا زان لم يكن عليه حدّ «2».

و الظاهر أن جملة: يعنى إلخ من كلام الإمام عليه السلام فإنّه يبعد أن يكون الراوي قد أدخل رأيه و فتوى نفسه المستفاد من قوله: لم أر عليه شيئا، في قول الإمام عليه السلام.

و كيف كان فهو من باب المثال و ذكر أحد المصاديق و إلّا فالملاك هو الكلّي المذكور في الصدر، و لا شكّ أن الصبيّ أيضا من مصاديق هذا الكليّ الجامع.

و يدلّ على المطلب أيضا خبر أبي مريم الأنصاري قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الغلام لم يحتلم يقذف الرجل هل يجلد؟ قال: لا و ذلك لو أن رجلا قذف الغلام لم يجلد «3».

و كذا خبر يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كلّ بالغ من ذكر أو أنثى افترى على صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى أو مسلم أو كافر أو حرّ أو مملوك فعليه حدّ الفرية و على غير البالغ حدّ الأدب. «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 1 ب 4 من أبواب

مقدّمة العبادات ح 11 عن أمير المؤمنين عليه السلام.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من مقدّمات الحدود ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 160

نعم مقتضى هذا الخبر أن البالغ إذا قذف الصغير يحدّ كما إذا قذف الكبير و من المعلوم أن قذف الصغير لا يوجب الحدّ و لذا قال الشيخ قدّس سرّه: ما تضمّن هذا الخبر من إيجاب الحدّ على من قذف صبيّا محمول على أنه قذفه بنسبة الزنا إلى أحد والديه كأن يقول: يا بن الزاني أو الزانية أو زنت بك أمّك أو أبوك، لأن ذلك يوجب عليه الحدّ على الكمال. «1».

لكن فيه أنه خلاف الظاهر جدّا فإنّ الظاهر من العبارة هو افتراء الكبير على الصغير و كون الصغير بنفسه مفترى عليه، و الحقّ أن طرح هذا الخبر أولى من الجمع كذلك لدلالة أخبار متعدّدة على عدم حدّ من قذف الصبيّ.

و كيف كان فإذا قذف القاذف غير البالغ فلا يقام عليه الحدّ و أمّا لزوم تعزيره أو تأديبه و عدم ذلك فهو أمر آخر لسنا بصدده في هذا المقام- و قد مرّ ما يناسب ذلك فراجع.

ثم إنك قد علمت أن صاحب الجواهر استدلّ لقول المحقّق باعتبار البلوغ في الحدّ بعدم الخلاف، و الإجماع و حديث رفع القلم و غير ذلك و حيث إنّ المحقق حكم بتعزيره- أي تعزير القاذف الذي كان صبيّا- قال في الجواهر: مع تمييزه على وجه يؤثّر التعزير فيه، كفّا عن مثل ذلك انتهى فقد جعل الدليل على لزوم تعزيره هو كفّه عن

مثل ما فعله، فليس هو كالأوّل أي عدم حدّه الذي دلّت عليه النصوص فليس في ما ذكر من الروايات ذكر عن التعزير.

هذا مضافا إلى عدم تحقّق سيرة المتشرّعة على تعزير أطفالهم على كلّ ما يفعلونه من الآثام و الذنوب.

و على الجملة فهذا البحث جدير بالتّأمّل و التحقيق، و حقيق بالنظر و التدقيق كي يتّضح ما هو الوظيفة الآن بالنسبة إلى الصغار من الأولاد و أنه هل يلزم تعزيرهم على كلّ ما يصدر عنهم من الذنوب و المعاصي أم لا؟.

______________________________

(1) التهذيب ج 10 ص 89.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 161

و الظاهر هو الثاني فلم يعهد من حال المتشرّعة أنّهم كانوا يعزّرون أطفالهم على ذلك بل و ربّما يظهر من بعض الكلمات خلاف ذلك.

و ترى أن السيّد الفقيه الطباطبائي قدّس سرّه يقول عند البحث عن أكل النجس و المتنجّس: و أمّا المتنجّسات فإن كان من جهة كون أيديهم نجسة فالظاهر عدم البأس به و إن كان التنجّس من جهة تنجّس سابق فالأقوى جواز التسبّب لأكلهم و إن كان الأحوط تركه، و أمّا ردعهم عن الأكل أو الشرب مع عدم التسبّب فلا يجب من غير إشكال انتهى «1».

إن قلت: قد ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا و اضربوهم عليها إذا بلغوا تسعا. «2».

نقول: نعم و لكن هل ورد: اضربوهم على الصوم مثلا و غير ذلك؟.

لا يقال: إنّ الأمر مختصّ بباب القذف فلو قذف صبيّ وجب تعزيره لا أنه يعزّر الصبيّ على مطلق الذنوب التي أتى بها مثلا.

لأنا نقول: من أين يحكم بذلك في قذفه إذا لم يرد فيه خبر أو أيّ دليل؟.

و ليعلم أنا

لسنا بصدد إثبات عدم ورود تعزير الأطفال أصلا بل المقصود أنه لا وجه لتعزيرهم على كلّ ما صدر عنهم من الذنوب، و ذلك لعدم إمكان إثبات ذلك و إلّا فقد ورد النصّ بتعزيرهم في بعض الموارد كباب اللواط و السّرقة.

ففي رواية أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأة و زوجها، قد لاط زوجها بابنها من غيره و ثقبه و شهد عليه بذلك الشهود فأمر به عليه السلام فضرب بالسيف حتّى قتل و ضرب الغلام دون الحدّ و قال: أما لو كنت مدركا لقتلتك لإمكانك إيّاه من نفسك بثقبك «3».

______________________________

(1) العروة الوثقى في أحكام النجاسات، فصل يشترط في صحّة الصّلاة. مسألة 33.

(2) جامع أحاديث الشيعة ج 4 ص 42 و مثله في ص 43.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 162

و يستفاد من قوله عليه السلام: لإمكانك إيّاه، أنه كان مميّزا كما اشترط تمييزه في الجواهر و إلّا فليس عليه التعزير.

و أمّا الخبر الوارد في تعزيره على السرقة فهو عدّة روايات مذكورة في ب 28 من أبواب السرقة و يأتي ذكرها في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

و الحاصل أنا نقول بتعزيره في هذه الموارد لكن لا يستفاد من الأخبار الواردة في الموردين حكم كلّي ينفعنا في جميع الموارد فالتعدّي إلى كلّ المعاصي و منها المقام مشكل و لا دليل على ما ذكره المحقّق من تعزيره فيه.

اللّهمّ إلّا أن يكون في ذلك إجماع كما نقل عن الغنية أو عدم خلاف يستكشف منه ذلك.

لكن فيه إشكالا بل سيرة المتشرّعة على خلاف ذلك و لا نرى أحدا

يعزّر الصغار بترك الصوم مثلا قبل التكليف و إن كانوا يأمرونهم بالصلاة للتّمرين لكنهم لا يعزّرونهم و لذا ترى أن صاحب الجواهر لم يتمسّك هنا بالإجماع و لا برواية كما أن صاحب الرياض قال في المقام: و وجه التعزير فيهما مع القيد- قيد التميز- حسم مادّة الفساد و هو الأصل في شرعيّة الحدود و التعزيرات و إلّا فلم أجد نصّا بتعزيرهما هنا انتهى.

هذا و لكن قد علمت أن من جملة الأخبار الواردة في المقام خبر يونس- ب 5 ح 5 من باب القذف- و فيه: كلّ بالغ من ذكر أو أنثى افترى. فعليه حدّ الفرية و على غير البالغ حدّ الأدب. و هو صريح بأنّ الصبيّ المفتري أي القاذف يجب حدّه.

و أمّا اشتمال الخبر على الحكم المخالف للقواعد الشرعيّة فهو غير قادح في المطلب لأنّه لا يسقط الخبر بذلك عن حدّ الاعتبار بالنسبة إلى باقي أحكامه.

و قد تحصّل من هذه الأبحاث أنه لا حدّ على الصبيّ و إن قذف مسلما بالغا حرّا فضلا عن غيره.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 163

الكلام في المجنون

اشارة

قال المحقّق: و كذا المجنون.

أي إذا قذف أحدا و كان القاذف مجنونا فلا حدّ عليه فإنّه كما رفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم كذلك رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق و عدم الخلاف أو الإجماع المذكور آنفا متعلّق بكلّ واحد منهما، و رواية فضيل بن يسار المتقدّمة ناطقة بذلك فراجع.

لكنّه يعزّر على ذلك و إن كان لا بدّ من تقييد بتعزيره- كالصبيّ- بكونه ممّن يرجى منه الكفّ بتعزيره لحصول نوع من التميز له فإنّه لو لا ذلك لكان تعزيره لغوا و قبيحا عقلا.

و هنا فروع:

منها: أنه لو كان جنونه أدواريّا و قد قذف في دور الصّحّة حدّ.

قال في الجواهر بعد ذلك: و لو حال الجنون- ثم قال:- مع احتمال تأخّره إلى دور العقل.

و مثله ما لو قذف و كان عاقلا لكنّه بعد ذلك و قبل إقامة الحدّ عليه جنّ، فقد حكم قدّس سرّه فيه بما حكم في المجنون الأدواريّ فيجوز حدّه و لو في حال الجنون.

و هذا في الذهن عجيب و ذلك لأنّه لا فائدة في إجراء الحدّ على المجنون إلّا أنّه قد دلّت على ذلك الرواية.

فعن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام في رجل وجب عليه الحدّ فلم يضرب حتّى خولط فقال: إن كان أوجب على نفسه الحدّ و هو صحيح لا علّة به

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 164

من ذهاب عقل أقيم عليه الحدّ كائنا ما كان «1». يعني أنه يقام عليه الحدّ مطلقا و لو في حال جنونه. و هذه الرواية و إن ورد في عاقل عرض عليه الجنون بعد ما أوجب عليه الحدّ لكن لا فرق بينه و بين الأدواريّ في دور عقله.

و لكن هنا احتمالان يرتفع بكلّ

واحد منهما الاستبعاد المذكور عن إقامة الحدّ في حال الجنون.

أحدهما: أنه يحتمل كون المراد من: (خولط) ضعف العقل و ما هو كمقدّمات الجنون لا الجنون المحض فإنّه لا معنى لجلد المجنون و هو لا يدرك لماذا يجلد و ما هو الأثر المترتّب على ذلك؟.

ثانيهما: أنه و إن كان الجنون هو الجنون المصطلح الخالص إلّا أن المراد من قوله: كائنا ما كان، ليس هو ما ذكر من تعميم الحكم بالنسبة إلى حال العقل و الجنون بل المراد أن الحدّ لا يسقط عنه مطلقا و إن كان بعد، مجنونا إلّا أن ذلك لا يلازم إيقاع الحدّ و إقامته أيضا في حال الجنون فلو فرض ظهور (خولط) في الجنون فلا بدّ من أن يكون المراد من: كائنا ما كان، ما ذكرنا، حتّى يرتفع الإشكال و لا يراد منه الجنون و غيره عقلا و إلّا فليشمل حال النوم و اليقظة بل و حال الموت أيضا.

لا يقال: إنّ الإطلاق بمناسبة الحكم و الموضوع يشمل خصوص حالتي الجنون و العقل دون تلك الحالات المختلفة كالنوم و الموت و غير ذلك «2».

لأنا نقول: إنّ الإطلاق منصرف عن الضرب في حال الجنون لأنه لغو و قبيح عقلا إذا فلا بدّ من أن يراد من قوله: كائنا ما كان، أن الحدّ عليه مطلقا إلّا أنه يقام عليه بعد إفاقته.

و على الإجمال فلا بدّ من الأخذ بواحد من هذين الاحتمالين فإنّ الجلد في حال الجنون المحض ممّا لا يساعده العقل بل ينكره أشدّ الإنكار.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 9 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

(2) أورده هذا العبد.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 165

و منها: إنّه لو قذف و لكن وقع هناك

نزاع فادّعى القاذف أنه كان حين القذف صبيّا و أنه وقع القذف حين صباه، و قال المقذوف بأنه قذف في حال كبره، أو أنه مع اعتوار حال جنون قطعا ادّعى القاذف صدور القذف عنه و هو مجنون و أنكر ذلك المقذوف مدّعيا أنّه وقع منه حال الإفاقة و السلامة فما هو الحكم هناك؟- بعد وضوح الثمرة المترتّبة على هذا الاختلاف لأنه لو ثبت وقوعه في حال الكبر أو السلامة لوجب حدّه للقذف و إلّا فلا.

قال العلّامة في القواعد: قدّم قول القاذف و لا يمين انتهى.

و قد وجّهه في الجواهر بقوله: و لعلّه للشبهة بعد عدم الالتفات إلى الأصول هنا إلخ.

أقول: أمّا عدم اليمين في المقام فلعدم مشروعيّته فيه- للروايات [1]. و لابتناء الأمر على التخفيف و الإكتفاء بالشّبهة في الدرء.

و أمّا التمسّك بدرء الحدود للشبهة فلعلّه لتعارض الأصل في إحدى الناحيتين بالأصل في الأخرى فيسقطان و يرجع إلى قاعدة الدّرء.

______________________________

[1] عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام برجل فقال: هذا قذفني و لم تكن له بيّنة فقال: يا أمير المؤمنين استحلفه، فقال: لا يمين في حدّ و لا قصاص في عظم. وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من مقدمات الحدود ح 1.

عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: قال: لا يستحلف صاحب الحدّ، وسائل الشيعة ح 2.

عن إسحاق بن عمّار عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السلام: إنّ رجلا استعدى عليّا عليه السلام على رجل فقال: إنّه افترى عليّ فقال عليّ عليه السلام للرجل: أفعلت ما فعلت؟ فقال: لا، ثم قال عليه السلام للمتعدي: أ لك بيّنة؟ قال فقال: مالي بيّنة فأحلفه لي قال عليّ عليه السلام: ما

عليه يمين وسائل الشيعة ح 3.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ادرأوا الحدود بالشبهات و لا شفاعة و لا كفالة و لا يمين في حدّ. وسائل الشيعة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 166

و يمكن الإشكال بعدم التعارض في المقام حيث إنّ أصالة عدم كون القذف في حال الصغر لا تثبت كون القذف في حال الكبر فإنّ هذا أثر عقلي لها و ليس أثرا شرعيّا لها كي يترتّب عليها و هذا بخلاف أصالة عدم القذف في حال الكبر فإنه يترتّب عليها عدم الحدّ فهذا الأصل جار دون الآخر.

نعم هنا كلام و هو أنه إذا توافق الأصل و قاعدة الدرء فهل هناك تقدّم و تأخّر أم لا؟ و الظاهر أن الأصل يقدّم عليها و ذلك لأن الدرء موقوف على الشبهة، و لا شبهة مع جريان الأصل الموضوعي كي تدرء فإنّ مقتضاه الحكم بعدم قذفه في حال الكبر فلم يكن هناك شبهة أصلا.

في اشتراط القصد

ثمّ إنّه يعتبر في حدّ القاذف القصد فلو قذف بلا قصد كما في النائم و الغافل و الساهي فلا يحدّ.

و المراد من السهو هو سبق اللسان بأن أراد أن يقول كلمة طيّبة فسبق لسانه و ألقى كلمة سوء و تفوّه بنسبة الفحشاء مثلا إلى أحد.

و في الرياض: بلا خلاف بل عليه الإجماع في التحرير و غيره و هو الحجّة إلخ «1».

و في الجواهر: و كذا يعتبر فيه أيضا القصد ضرورة عدم شي ء على غير القاصد كالسّاهي و النائم و الغافل، و على كلّ حال فلا حدّ و لا تعزير على غير القاصد إلخ «2».

نعم يشكل الأمر في بعض الموارد فإنّ هذا البحث ليس منقّحا كاملا لأنه إذا ألقى

الكلمة الخبيثة كلفظ: يا زاني أو: أمّك زانية، لكنّه ليس بصدد النسبة بل في مقام الفحش عند النزاع و الجدال أو غير ذلك فالّلافظ هنا لم يقصد النسبة و لذا

______________________________

(1) رياض المسائل ج 2 ص 485.

(2) جواهر الكلام ج 41 ص 414.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 167

ربّما لا يثور غضب المواجه أو المنسوب إليه بذلك لأنه يعلم أن مراد القائل ليس هو النسبة و هذا شائع في غير المبالين من الناس فلا يرون أنه نسب العمل الكذائي إليه بل يرى أنه أتى بكلمة الفحش أو بكلام لغو فلا يرتّب على ذلك أثرا و لو كان يستظهر منها النسبة لما كان يدعه بل ربّما يقدم على قتله كما وقع ذلك من شخص كان له سلاح فقال له قائل: إنّ أختك كذا، فذهب و أتى بسلاحه و قتله به.

و كيف كان فلو لم يحصل القطع بأنه من باب الفحش لا من باب القذف فلا أقلّ من حصول الشبهة فيجري الأصل و يدرء عنه الحدّ. هذا.

ثم إنّه قد أورد علينا بعض بأن مقتضى رواية زرارة هو عدم اشتراط القصد، فإنّ الرواية هذه:

عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: إنّ عليّا عليه السلام كان يقول: إنّ الرجل إذا شرب الخمر سكر، و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فاجلدوه حدّ المفتري «1».

فقد ذكر فيها أن السكران يحدّ حدّ القذف لأنه يفتري.

و لكن فيه أن الرواية بصدد بيان حكمة كون حدّ شارب الخمر ثمانين فحيث إنّ السكران قد يقذف فلذا يكون حدّ شرب الخمر هو حدّ القذف لا أن يكون هذا الحدّ حدّ قذفه بل هو حدّ شربه و لذا ترى أنه لو

شرب الخمر و سكر لكنّه لم يقذف و لم يفتر فإنّه يجلد و الحال أنه على قولكم يلزم أن لا يكون عليه حدّ حينئذ.

اشتراط الاختيار

و من جملة ما اعتبروه شرطا في حدّ القاذف هو الاختيار فلا حدّ على من أكره على القذف فأقدم عليه لذلك كما في سائر الأمور الواقعة عن إكراه فليس الحدّ من قبيل الأثر الوضعي كالنجاسة التي تحصل و تحتاج إلى التطهير سواء

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ السكر ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 168

تحقّقت بالاختيار أو بالإكراه بأن أخذ يد غيره و لوّثه بالنجاسة، بل هذا يحتاج إلى الاختيار و لم يردّد أحد في سقوط الحدّ و التعزير إذا قذف مكرها على ذلك.

و قد ادّعى في الرياض عدم الخلاف في ذلك بل الإجماع في التحرير و غيره كالسابق.

اشتراط الحرية

قال المحقّق: و هل يشترط في وجوب الحدّ الكامل الحرّية؟ قيل: نعم، و قيل: لا يشترط فعلى الأوّل يثبت نصف الحدّ و على الثاني يثبت الحدّ كاملا و هو ثمانون.

و يمكن التعبير عن المسألة بأنّه هل عبوديّة القاذف توجب نقص الحدّ إلى النصف أم لا؟.

و في المسألة قولان:

أحدهما: ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط و ابن بابويه في الهداية «1» و هو أنه يشترط ذلك.

ثانيهما: ما ذهب إليه أكثر الأصحاب كما عبّر كذلك في المسالك قال: و منهم الشيخ في النهاية و الخلاف و المصنّف في النافع و إن توقّف هنا، و هو أنه لا يشترط الحريّة في ثبوت الحدّ الكامل بل ادّعى عليه جماعة الإجماع.

و قد استدلّ للقول الأوّل بالكتاب و السنة.

أمّا الكتاب فقوله تعالى فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ «2».

و أمّا السنة ففي خبر القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام

______________________________

(1) الهداية ص 76 و المبسوط ج

8 كتاب الحدود ص 16.

(2) سورة النساء الآية 25.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 169

عن العبد إذا افترى على الحرّ كم يجلد؟ قال: أربعين و قال: إذا أتى بفاحشة فعليه نصف العذاب «1».

و استدلّ المشهور أيضا بالكتاب و السنّة:

أمّا الكتاب فقوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ» «2».

وجه الاستدلال أن لفظة: (الذين) جمع معرّف باللام و هو يفيد العموم فيشمل الحرّ و العبد.

و أمّا السّنّة فهي أخبار مستفيضة بل لعلّها فوق ذلك و إليك هذه الأخبار:.

عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: في الرجل: إذا قذف المحصنة يجلد ثمانين حرّا كان أو مملوكا «3».

و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إذا قذف العبد الحرّ جلد ثمانين و قال: هذا من حقوق الناس «4».

و عن سماعة قال: سألته عن المملوك يفتري على الحرّ قال: يجلد ثمانين قلت: فإنّه زنى، قال: يجلد خمسين «5».

و عن سماعة قال: إذا قذف المحصنة فعليه أن يجلد ثمانين حرّا كان أو مملوكا «6».

و عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن عبد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب القذف ح 15.

(2) سورة النور، الآية 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 5.

(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص:

170

افترى على حرّ قال: يجلد ثمانين «1».

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في مملوك قذف حرّة محصنة قال:

يجلد ثمانين لأنه إنّما يجلد بحقّها «2».

و عن أبي بكر الحضرمي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مملوك قذف حرّا قال: يجلد ثمانين هذا من حقوق الناس فأمّا ما كان من حقوق اللّه فإنّه يضرب نصف الحدّ «3».

و عن بكير عن أحدهما عليهما السلام أنه قال: من افترى على مسلم ضرب ثمانين يهوديّا أو نصرانيا أو عبدا «4».

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا قذف العبد الحرّ جلد ثمانين حدّ الحرّ [1].

و لا يخفى أن الروايات الدّالة على التّساوي و عدم الفرق بين الحرّ و العبد هنا أكثر عددا و أجود سندا.

و أمّا آية الفاحشة الّتي أستدلّ بها على التنصيف ففيها أنه قد فسّرت الفاحشة فيها بالزّنا أو ما يناسبه فلا تعلّق لها بالمقام.

هذا مضافا إلى أنها نكرة في مقام الإثبات فلا تعمّ «5» و آية «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ.» إلخ مشتملة على الجمع المحلّى بالألف و اللام و عليه فهذه مقدّمة عليها.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 22 أقول: و يدلّ على ذلك أيضا، ح 5 من الباب اللّاحق، و لا يضرّه عدم عمل الأصحاب بالنسبة إلى المقذوف.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 8.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 10 و مثله ح 14 فراجع.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 13.

(5) كما في

المسالك و مفاتيح الفيض الكاشاني فراجع إن شئت.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 171

و قد حملت الرواية الدّالّة على التنصيف على التقيّة [1].

قال الشيخ قدّس سرّه: إنّ هذا الخبر شاذّ مخالف الظاهر القرآن و للأخبار الكثيرة الّتي قدّمناها و ما هذا حكمه لا يعمل به و لا يعترض بمثله «1».

و قال الشيخ الحرّ العاملي رحمة اللّه عليه: يمكن حمله على التقيّة و على التعريض دون التصريح. انتهى.

و ممّا يوجب ترجيح الأخبار الكثيرة الدّالة على التساوي هو أن بعض هذه الروايات مشتملة على التعليل أي ذكر العلّة في لزوم الحدّ الكامل و ذلك كرواية الحلبيّ و رواية الحضرميّ و غيرهما فقد علّل وجوب الثمانين بأنّ حدّ القذف من حقوق الناس لا من حقوق اللّه حتى ينصّف في العبد.

فحينئذ فالمرجّح في النظر و الأقوى هو القول بعدم اشتراط الحريّة في المقام و أن الثمانين حدّ الفرية أي القذف سواء أ كان القاذف حرّا أم عبدا.

نظرة أخرى في الروايات و تحقيق آخر في المقام

ثم إنّا قد ذكرنا أن في المسألة قولين و آيتين و طائفتين من الأخبار. لكن التحقيق أن روايات الباب على خمسة أصناف:

أحدها: ما يدلّ على التساوي بين الحرّ و العبد و عدم الفرق بينهما في المقام و هو أكثرها عددا- حيث يبلغ ثلاث عشرة رواية- و أصرحها دلالة.

ثانيها: ما يدلّ على أن حدّ القذف في المملوك أربعون و هو روايتان:

إحديهما رواية القاسم المذكورة آنفا.

و الأخرى رواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له:

كم التعزير؟ فقال: دون الحدّ قال: قلت: دون ثمانين؟ قال: لا و لكن دون.

______________________________

[1] أقول: قد استشكل في سند رواية القاسم حيث إنّه مجهول فلا يمكن التمسك بها و نسبه الشيخ في التهذيب

إلى الشذوذ.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام ج 10 ص 73.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 172

أربعين فإنّها حدّ المملوك إلخ «1».

لكنّهما لا تقاومان الأخبار الكثيرة الدّالّة على أن حدّه هو الحدّ التامّ مع جودة سندها و وضوح دلالتها و خصوصا اشتمالها على التعليل على ما تقدّم.

و يمكن حمل خبر القاسم على عدم كون القذف هو القذف المصطلح الموجب للحدّ بل كان من قبيل التعريض الموجب للتعزير، و لو لم يقبل هذا الحمل فلا بدّ من الطرح- كما أن خبر حمّاد قابل للحمل أيضا.

ثالثها: ما يدلّ على جلد العبد خمسين ففي خبر سماعة قال: سألته عن المملوك يفتري على الحرّ قال: عليه خمسون جلدة «2».

و هذه أيضا معرض عنها فلا تقاوم تلك الأخبار الكثيرة و يمكن حملها على عدم الافتراء المصطلح الموجب للحدّ بل ما دون ذلك.

رابعها: ما يدلّ على تعزير العبد في قبال الحرّ الذي يحدّ.

فعن حمّاد عن حريز عن محمّد عن أبي جعفر عليه السلام في العبد يفتري على الحرّ قال: يجلد حدّا إلّا سوطا أو سوطين «3».

و ظاهره أنه ينقص من حدّ القذف الذي هو ثمانون، سوط أو سوطان لا من حدّ الزنا الذي هو مأة. لكنّها أيضا غير معمول بها و قد حملها الشيخ على ما لم يبلغ القذف فلا يجب الحدّ بل التعزير.

خامسها: ما يدلّ على أن للمقذوف أن يعرى جلده.

ففي رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في المملوك يدعو الرجل لغير أبيه قال: أرى أن يعرى جلده قال:

و قال في رجل دعي لغير أبيه: أقم بيّنتك أمكّنك منه فلمّا أتى بالبيّنة قال: إنّ أمّه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10

من أبواب بقيّة الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 20.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 173

كانت أمة قال: ليس عليك حدّ سبّه كما سبّك و اعف عنه إن شئت «1».

و الظاهر أن المراد من يعرى جلده أنه ينزع ثوبه و يخلعه من ثيابه و على هذا فهو نوع تعزير له.

و في الجواهر ضبط يفري و قال في توضيحه: و الفري بالفاء و الراء المهملة الشّق.

ثم قال: و عن الإستبصار بالعين المهملة و أوّله باحتمال أن يكون إنّما يعرى جلده ليقام عليه الحدّ.

ثمّ قال: و لا يخفى عليك بعده مع أنه لا تعرى في حدّ القذف انتهى.

و كيف كان فهذا الخبر أيضا غير معمول به.

قال الشيخ قدّس سرّه: هذا الخبر ضعيف مخالف لما قدّمناه من الأخبار الصحيحة و لظاهر القرآن فلا ينبغي أن يعمل عليه على أن فيه ما يضعّفه و هو أن أمير المؤمنين عليه السلام أمر الخصم أن يسبّ خصمه كما سبّه و لا يجوز منه عليه السلام أن يأمر بذلك بل الذي إليه أن يأخذ له بحقّه من خصمه بأن يقيم عليه الحدّ إن كان ممّن وجب عليه ذلك أو يعزّره إن لم يكن فأمّا أن يأمره بالسباب قد لك ممّا لا يجوز على حال «2».

و قال المحدّث العاملي: و يمكن حمله على التهديد و الترغيب في العفو انتهى.

أقول: و لا يمكن رفع الإشكال و تأييد هذا الخبر بمثل قوله تعالى «لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ» «3» فإنّ هذا متعلّق بباب الغيبة مثلا لا في كلّ مقام

كما لا يصحّ التمسك في تأييده بمثل قوله تعالى «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ» «4» فإن هذا متعلّق بمثل باب القصاص و القتل و الجرح، و لا إطلاق له يشمل المقام و إلّا فليقل: كلّ من أتى بفعل بالنسبة لكم فانتقموا منه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 16 و 17 و رواه في التهذيب ج 10 صفحة 88 بصورة رواية واحدة.

(2) تهذيب الأحكام ج 10 ص 88.

(3) سورة النساء الآية 148.

(4) سورة البقرة الآية 194.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 174

بمثل ذلك و إن كان العمل من الفحشاء [1].

و على الجملة فهذا الخبر فيه ما فيه و لا يمكن الأخذ به فهو أيضا مطروح.

و قد علم من هذه الأبحاث أن ما عمل به من الطوائف الخمسة هو ما دلّ على الثمانين مطلقا و ما دلّ على الأربعين في العبد إلّا أن روايات الثمانين مطلقا روايات عديدة كثيرة و أفتى بها أكثر الأصحاب حتّى أن المحقّق الذي توقّف في الشرائع فقد أفتى بها في المختصر النافع، في حين أنه يدلّ على الأربعين في العبد رواية أو روايتان و لم يذهب إليه إلّا الصدوق في الهداية و الشيخ في المبسوط و هو أيضا قد وافق المشهور في النهاية و الخلاف كما صرّح بذلك في المسالك إذا فالمعوّل هو هذا.

لو ادّعى المقذوف حرّية القاذف و أنكر هو ذلك

ثم إنّه على فرض اشتراط الحريّة في إقامة الحدّ الكامل فلو تنازع القاذف و المقذوف فادّعى المقذوف حرّية القاذف كي يحكم عليه بثمانين و لكن القاذف أنكر ذلك كي ينصّف الحدّ عليه فما هو الحكم؟.

______________________________

[1] أقول: في النفس شي ء و ذلك لأن الأمر بالسبّ في جواب السبّ ليس

مربوطا بالعبد و إنّما هو حكم مطلق شامل للحرّ و العبد فيبقى أن الرواية شاملة لحكمين واحد منهما خلاف الضوابط الشرعية و قد مرّ مرارا أن اشتمال الخبر على حكم مخالف للقواعد و الضوابط الشرعية غير قادح بالنسبة إلى سائر فقرأت الرواية و أحكامها و هذا هو مذهب سيدنا الأستاذ دام ظله، هذا لو كانت الرواية واحدة كما هو ظاهر نقل التهذيب، و أمّا لو كانت روايتين كما هو ظاهر نقل الوسائل فالأمر أوضح لأن اشتمال رواية على حكم غير صحيح لا تعلّق له بالحكم المذكور في رواية أخرى و على الجملة فالحكم بالسبّ لا يوجب و هنا في الحكم بأن يعرى جلده و لا يرد إشكال عليه من هذه الناحية كي يحتاج إلى التأييد بالآيات الكريمة حتى يجاب بأنّ الآيات غير مرتبطة بالمقام فافهم.

نعم عدم عمل الأصحاب كلام صحيح و هو يوجب الوهن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 175

قال المحقّق قدّس سرّه: و لو ادّعى المقذوف الحرّية و أنكر القاذف فإن ثبت أحدهما عمل عليه و إن جهل ففيه تردّد أظهره أن القول قول القاذف لتطرّق الاحتمال.

أقول: وجه التردّد كما في الجواهر أصل الحرّية و أصل البراءة و لذا كان للشيخ في المسألة قولان فاختار في الخلاف تقديم قول القاذف عملا بأصالة البراءة من ثبوت الزائد على الأربعين.

لكنّه في المبسوط لم يقدّم أحدهما بل نقل القولين في مثل المسألة «1» و علّل تقديم قول القاذف بما ذكر و تقديم قول المقذوف بأصالة الحرّية قال: و هما جميعا قويّان.

و في المسالك: و الأقوى ما اختاره المصنّف من تقديم قول القاذف لتعارض الأصلين المقتضي لقيام الشبهة في الزائد فيسقط.

و لنا مع هؤلاء الأعلام الأفذاذ

كلام و هو أنه لا مجال في المقام لجريان البراءة و ذلك لأن أصالة الحريّة لا تخلو عن كونها إمّا عامّا و أمارة كما هو الحق و إمّا أصلا بلحاظ حال الشك.

فعلى الأوّل فهي قاعدة كليّة و عامّ كالعمومات الأخرى فكلّ إنسان حرّ إلّا أن يعرضه ما أوجب عبوديّته فلم يخلق اللّه تعالى الإنسان عبدا إلّا في خصوص ما إذا كان الأبوان مملوكين مثلا إن لم نقل في خصوص هذا الفرد أيضا بان كون الأبوين مملوكين أيضا من جملة الأسباب الطارئة كما أن استصحاب العبودية الثابتة في حقّ الأبوين بالنسبة إلى الولد غير صحيح لاختلاف الموضوع.

و على الجملة فالمقام من قبيل العامّ و الخاصّ لأنّ كلّ أحد فهو حرّ إلّا إذا ثبت عبوديّته بواحد من الطوارئ و العوارض فالحريّة لا تحتاج إلى دليل و إنّما المحتاج إليه هو العبوديّة فهذا حكم واقعيّ عامّ و أمارة يؤخذ بها و يعمل على وفقها

______________________________

(1) راجع المبسوط ج 8 ص 17.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 176

بخلاف أصالة البراءة فإنّها أصل أي حكم في مورد الشك و بلحاظه، و من المعلوم أنه مع وجود الأمارة لا تصل النوبة إلى الأصل و لا معارضة بينهما أصلا لعدم وحدة الرّتبة و على هذا فالحجّة هو خصوص أصالة الحريّة دون غيرها، هذا على فرض كونها أمارة.

و أمّا على الثاني أي كونها أصلا بلحاظ حال الشك، و وظيفة للشّاك بلا عناية إلى الواقع فيجري الإشكال من ناحية أخرى و هي أنه و إن كانت أصالة الحريّة مجعولة لحال الشك إلّا أنّها استصحاب موضوعي، و الحال أن أصالة البراءة أصل حكمي و من المعلوم تقديم الأوّل على الثاني كما في سائر

المقامات فلا يجري أصالة البراءة عن غسل ثوب شكّ في نجاسته و طهارته بعد أن مقتضى الاستصحاب نجاسته بأن علم حالته السابقة و أنّها كانت هي النجاسة، لتعيين النجس بهذا الاستصحاب.

ففي المقام لا يعارض أصل البراءة أصل الحريّة و إن قلنا بكونه أصلا لا أمارة.

و الحاصل أنه لا تصل النوبة إلى درء الحدود بالشبهات و ذلك لعدم شبهة أصلا أمّا على الأول فواضح و أمّا على الثاني فلتقدّم الأصل الموضوعي على قاعدة الدرء فإنّ بجريانه لا تبقى شبهة كي تجري قاعدة الدرء.

ثم إنّه يجري كلّ ما ذكر هنا، في ما إذا اختلف القاذف و المقذوف بأن قال القاذف: أنت عبد فلا حدّ عليّ و ادّعى المقذوف خلافه و قال: أنا حرّ فعليك الحدّ. و ذلك لأن الملاك واحد و إنّما الفرق في أن مآل النزاع في السابق إلى الاختلاف في كمال الحدّ و نصفه و في هذا الفرض إلى لزوم الحدّ و عدمه فيجب التعزير حيث إنّ قذف المملوك لا يوجب سوى التعزير.

و بعبارة أخرى: البراءة في الأوّل عن الأربعين الزائد و في الثاني عن الحدّ، و هذا الفرق ليس بفارق للحكم بل كان مفروض كلام الشيخ في الخلاف و المبسوط هو خصوص هذا الفرض، و لوحدة الملاك تعرّض الجواهر لكلامه في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 177

الفرض السابق «1».

ثمّ إنه قد ورد نظير هذه المسألة في باب الجنايات أيضا حيث إنّه لا يقتل الحرّ بالعبد و قال بعض هناك بما حكم به في مسألة القذف.

قال الشيخ في الخلاف: إذا قذف رجلا ثم اختلفا فقال المقذوف: أنا حرّ فعليك الحدّ و قال القاذف: أنت عبد فعليّ التعزير، كان القول قول القاذف و

قال الشافعي في كتبه مثل ما قلناه في القاذف و قال في الجنايات: القول قول المجنيّ عليه و اختلف أصحابه على طريقين: منهم من قال: المسألتان على قولين أحدهما: القول قول القاذف و الثاني: القول قول المجنيّ عليه و هو المقذوف و منهم من قال: القول قول القاذف في القذف و القول المجنيّ عليه في الجناية.

(ثم قال:) دليلنا أن الأصل براءة الذمّة للقاذف و لا تشغل و لا يوجب عليها شي ء إلّا بدليل انتهى.

أقول: و يرد على التمسّك بالبراءة في مسألة الجناية أنه ليس النزاع هناك في الأقلّ و الأكثر، كي تجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر فإنّ القصاص و الدّية ليسا من قبيل الأقلّ و الأكثر بل هما من قبيل المتباينين و لا مورد لأصل البراءة هناك.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ القصاص أهم، و القيمة غير أهمّ و هما كالأقلّ و الأكثر.

هذا تمام الكلام في القاذف.

الكلام في المقذوف و ما يعتبر فيه

قال المحقّق: الثالث في المقذوف و يشترط فيه الإحصان و هو هنا عبارة عن البلوغ و كمال العقل و الحرية و الإسلام و العفّة فمن استكملها وجب بقذفه الحدّ و من فقدها أو بعضها فلا حدّ و فيه التعزير.

أقول: شرط الحدّ في القذف كون المقذوف محصنا فإذا كان كذلك يوجب

______________________________

(1) فراجع المسألة 17 من قذف المبسوط ج 8 و المسألة 52 من حدود الخلاف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 178

قذفه الحدّ.

و الإحصان قد ورد لمعان متعدّدة كالتزويج و الإسلام و الحريّة و غيرها لكنّ المراد منه في المقام هو مجموعة أمور: البلوغ و كمال العقل و الحريّة و الإسلام و العفّة فلا حدّ على القاذف إذا كان المقذوف غير واجد لهذه الأوصاف بأن كان صبيّا أو

مملوكا أو كافرا أو متظاهرا بالزنا.

و يدلّ على اعتبار الإحصان في المقذوف قول اللّه تعالى في صريح الكتاب:

«وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ.» [1] بعد أن لا فرق بين الرجل و المرأة إذا كانا محصنين.

و ادّعى في الجواهر عدم خلاف يجده في اشتراط تلك الأمور في المقذوف حتى يثبت الحدّ على القاذف بل الإجماع بقسميه عليه. كما أنه لا خلاف فيما وجدنا من كلمات أصحابنا في إثبات التعزير عند فقد كلّ واحد من هذه الأمور إلّا في الأخير فإنّه مورد الإشكال، و يستظهر من الجواهر عدم التعزير فيه أيضا.

ثمّ إنّه يتحصّل من المطالب المذكورة أمور و مطالب:

أحدها: وجوب الحدّ على من قذف جامع الصفات المزبورة.

ثانيها: عدم الحدّ على قاذف من فقد جميعها أو بعضها.

ثالثها: وجوب تعزير الفاقد.

رابعها: أن من فقد الصفة الأخيرة أي العفّة فهل قذفه يوجب التعزير كالبواقي أو أنه لا تعزير فيه كما لا حدّ؟

أمّا الأوّل فمضافا إلى الإجماع المذكور آنفا قد دلّت الروايات على اعتبار تلك الصفات في وجوب الحدّ.

فتدلّ على اعتبار البلوغ في المقذوف صحيحة أبي مريم الأنصاري قال:

سألت أبا جعفر عليه السلام عن الغلام لم يحتلم يقذف الرجل هل يجلد؟ قال:

______________________________

[1] سورة النور الآية 4، و قد ورد التقييد بذلك في عدّة من الروايات كمعتبرة سماعة ح 1 ب 4 من أبواب القذف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 179

لا و ذلك لو أن رجلا قذف الغلام لم يجلد «1».

و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يقذف الصبية يجلد؟ قال: لا حتى تبلغ «2».

و روايته الأخرى عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يقذف الرجل بالزنا قال: يجلد هو في كتاب اللّه و سنّة نبيّه

صلّى اللّه عليه و آله قال: و سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقذف الجارية الصغيرة فقال: لا يجلد إلّا أن تكون قد أدركت أو قاربت «3».

و صدر رواية الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:

لا حدّ لمن لا حدّ عليه «4».

ثمّ إنّ الظاهر أنه لا فرق بحسب الأخبار في سقوط الحدّ عمّن قذف غير البالغ بين من قارب البلوغ أم لا.

و أمّا قوله عليه السلام في رواية أبي بصير: أدركت أو قاربت فالظاهر أن المراد بالإدراك هو رؤية الحيض و بالقرب من ذلك هو إكمالها تسع سنين فالنتيجة: أن تكون بالغة.

و أمّا اعتبار كمال العقل فتدلّ عليه صحيحة الفضيل المذكورة آنفا فإنّ فيها بعد ما نقلناه من صدرها: يعني لو أن مجنونا قذف رجلا لم أر عليه شيئا و لو قذفه رجل فقال: يا زان لم يكن عليه حدّ.

و أمّا الحرية فتدلّ على اعتبارها في المقذوف رواية عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: لو أتيت برجل قذف عبدا مسلما بالزنا لا نعلم منه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب مقدّمات الحدود، ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 180

إلّا خيرا لضربته الحدّ حدّ الحرّ إلّا سوطا «1».

قوله: لا نعلم منه إلّا خيرا يراد به أنه غير متجاهر، و قوله: إلّا سوطا يراد به الاستثناء من الحدّ- فإنّ الحدّ في معنى ثمانين سوطا.

و

أمّا ما قد يورد عليه بأن هذا هو حدّ القاذف إذا كان المقذوف عبدا بقرينة قوله: ضربته الحدّ حدّ الحرّ.

ففيه أنه خلاف الظاهر فلا يكون هذا حدّا مستقلّا في قبال الحدود الأخر.

و على الجملة فحيث إنه لم يكن المقذوف حرّا فلذا حكم الإمام عليه السلام بتعزير القاذف.

و رواية حمزة بن حمران عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن رجل أعتق نصف جاريته ثم قذفها بالزنا قال: قال: أرى عليه خمسين جلدة و يستغفر اللّه عز و جلّ، قلت أ رأيت إن جعلته في حلّ و عفت عنه؟ قال: لا ضرب عليه إذا عفت عنه من قبل أن ترفعه «2».

نعم فيها إشكال و هو أنه إذا كان نصفها معتقا فاللّازم أن يكون عليه أربعون.

قال في الوسائل: حمله الشيخ على ما لو أعتق خمسة أثمانها و إلّا لاستحق أربعين جلدة. و حاصله أنه حمل النصف على غير الحقيقيّ. و جوّز حمله على كون العشرة تعزيرا لأن من قذف عبدا يستحقّ التعزير.

أقول: و بتعبير آخر إمّا أن يحمل النصف الذي أعتق على الحقيقيّ أو المجازيّ فعلى الأوّل يكون الأربعون من خمسين حدّ حريّتها و أمّا العشرة فهي من باب التعزير بالنسبة إلى النصف الآخر، و على الثاني يحمل على ما لو أعتق خمسة أثمانها.

و عن منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليها السلام في الحرّ يفتري على

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 181

المملوك قال: يسأل فإن كانت أمّه حرّة جلد الحدّ [1].

و مفهومها أنه لا حدّ لو لم تكن أمّه

حرّة.

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من افترى على مملوك عزّر لحرمة الإسلام «1».

و أمّا الإسلام فتدلّ على اعتباره في المقذوف رواية إسماعيل الفضل قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الافتراء على أهل الذّمة و أهل الكتاب هل يجلد المسلم الحدّ في الافتراء عليهم؟ قال: لا و لكن يعزّر «2».

و أمّا السّتر و عدم كونه متظاهرا بالزنا فقد استدلّ على اعتباره بمعتبرة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال في الرجل: إذا قذف المحصنة يجلد ثمانين حرّا كان أو مملوكا «3».

و رواية عبيد بن زرارة «4» المذكورة آنفا.

هذا كلّه في المقام الأوّل و أمّا الثاني أي عدم حد القاذف إذا لم يكن المقذوف واجدا لكلّ هذه الأوصاف فلدلالة تلك الأخبار.

و أمّا وجوب التعزير عند عدم الحدّ فلأدلّة التعزير.

و أمّا الرابع أي أن قذف الزاني المتجاهر بزناه هل يوجب التعزير أو أنه لا تعزير فيه كما لا حدّ؟.

قال في المسالك: و أمّا قذف غير العفيف فمقتضى العبارة إيجاب التعزير أيضا و به صرّح في القواعد و التحرير و تنظّر فيه شيخنا الشهيد من حيث دلالة

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب القذف ح 11 أقول: الظاهر منها أنه كان قد نسب المملوك إلى كونه ولد زنا فكان القذف بالنسبة إلى للأمّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 12.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 182

الخبرين السابقين على سقوط حرمته و لعلّ القذف بالزنا مستثنى لفحشه و إطلاق النهي عنه. انتهى.

و قال في القواعد: و إذا قذف المسلم صبيا أو عبدا أو مجنونا أو كافرا أو مشهورا بالزنا فلا حدّ بل التعزير. انتهى.

و قال في اللمعة: و يشترط في المقذوف الإحصان و أعني: البلوغ و العقل و الحرية و الإسلام و العفة فمن اجتمعت فيه هذه الأوصاف وجب الحدّ بقذفه و إلّا فالواجب التعزير انتهى.

و قال الشهيد الثاني بشرحه: كذا أطلقه المصنّف و الجماعة غير فارقين بين المتظاهر بالزنا و غيره و وجهه عموم الأدلّة و قبح القذف مطلقا بخلاف مواجهة المتظاهر به بغيره من أنواع الأذى كما مرّ و تردّد المصنّف في بعض تحقيقاته في التعزير بقذف المتظاهر به و يظهر منه الميل إلى عدمه محتجّا بإباحته استنادا إلى رواية البرقي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة، و في مرفوع محمّد بن بزيع: من تمام العبادة الوقيعة في أهل الريب، و لو قيل بهذا كان حسنا انتهى.

أقول: الوقيعة بالفارسيّة بد گوئى مردم.

و قد بان بهذا الكلام أن مراد المسالك من الخبرين رواية البرقي و مرفوع ابن بزيع.

ثمّ إنّ الظاهر من تعبيره بالجماعة- محلاة باللام- دون (جماعة) هو أنه نسب ذلك إلى جميع الأصحاب [1] فهم كالشهيد الأوّل لم يفرّقوا بين المتظاهر و غيره في الزنا في أن قذفه يوجب التعزير في غير المتظاهر كالحدّ في المتظاهر.

و وجه ذلك شدّة قبح الزنا و اهتمام الشرع بعدم شيوعها- فإنّها الفاحشة- حتى بذكرها و ذكر من ارتكبها بذلك.

و أمّا الخبران فالظاهر أن التمسّك بهما في جواز قذف غير المتجاهر بالزنا أو

______________________________

[1]

أقول: لكن في الرياض: و الظاهر العبارة و جماعة تعزير قاذف المتجاهر بالزنا إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 183

اللواط و إن كان متجاهرا بغيرهما من الفسوق مشكل بل يختصّ جواز ذلك أي الغيبة و كذا عدم الحرمة و الأمر بالوقيعة بخصوص الذنب الذي كان متجاهرا به فلو كان يتجاهر بشرب الخمر و لكنّه يأبى عن التجاهر بالزنا أو اللواط فإنّه يشكل غيبته و الوقيعة فيه بغير شرب الخمر فضلا عن قذفه بالزنا.

و قد وجّه في الرياض تعزير قاذف المتجاهر بهما بالأولويّة قال- بعد الإشكال في تمسّك الشهيد الثاني بعموم الأدلّة في قبح القذف مطلقا-: نعم ربّما يؤيده فحوى ما دلّ على تعزير قاذف الكافر «1».

توضيح كلامه أنه إذا كان قذف الكافر موجبا للتعزير فكيف لا يكون قذف المتجاهر بالزنا موجبا للتعزير؟ فهو أولى بذلك؟ فهو أولى بذلك لأنه بعد فاسق و ذاك كافر.

لكن ما ذكره من الأولويّة محل تأمّل و إشكال و ذلك لأنه و إن كان المسلم أولى و أكرم- و لا يقاس هو بالكافر كما قال اللّه تعالى: «أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لٰا يَسْتَوُونَ» «2»- لكن هذا لا يستلزم أن يحكم على قاذف المسلم المتجاهر بما حكم به على قاذف الكافر.

بيانه أن المسلم المتجاهر قد أقدم بنفسه على فضيحة نفسه و عرّف نفسه بالعمل القبيح فلم يفضحه غيره بل هو الذي فضح نفسه و هذا بخلاف الكافر المتعفّف فإنّه يتأبّى عن فضيحة نفسه بالتجاهر بالزنا فقذفه يوجب فضيحته فيمكن أن يحكم على قاذفه بالتعزير و هذا لا يلازم تعزير قاذف مسلم قد أقدم بفضيحة نفسه بالتجاهر بفسقه و على هذا فالتمسك بالروايتين و بالأولويّة في إثبات تعزير

قاذف المتجاهر في محلّ المنع و لا يتمّ شي ء منهما بعد أن المسلم من عدم حرمة المتجاهر و عدم الغيبة له هو ذلك في خصوص ما يتجاهر به دون غيره و منع الأولوية بما ذكرناه.

و لو شكّ في ذلك أي لزوم تعزير قاذف المتجاهر بالزنا و لو بسبب ترديد

______________________________

(1) رياض المسائل ج 2 ص 485.

(2) سورة السجدة الآية 18.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 184

العلماء فالأصل عدم وجوبه.

بقي أنه لم ينقّح الكلام بالنسبة إلى الكافر فيحتاج تنقيحه إلى مزيد البحث و التأمّل.

فنقول: إنّ مقتضى رواية إسماعيل بن الفضل المذكورة آنفا الواردة في أهل الذمّة و أهل الكتاب هو أنه لا يحدّ المسلم المفتري عليهم بالزنا و إنّما يعزّر على ذلك، في حين أن رواية عبد اللّه بن سنان و رواية الحلبي تدلّان على النهي عن قذف من ليس على الإسلام أو كان على غير الإسلام إلّا مع الاطلاع على ما ينسب إليه و هذا بظاهره يوجب تقييد المطلق بالمقيّد.

فعن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه نهى عن قذف من ليس على الإسلام إلّا أن يطلع على ذلك منهم و قال: أيسر ما يكون أن يكون قد كذب «1».

و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه نهى عن قذف من كان على غير الإسلام إلّا أن تكون قد اطّلعت على ذلك منه «2».

و النتيجة أنه يحرم الفرية عليهم لأنّهم أهل الكتاب أو كونهم في ذمّة الإسلام فإذا كان قذفهم حراما يتم الحكم بالتعزير كما صرّح بذلك في خبر إسماعيل إلّا إذا كان مطلعا على ذلك و قذفه به فإنّه ليس بمنهيّ عنه فليس بحرام فلا تعزير

عليه طبعا فالحكم مختصّ بأهل الكتاب و أمّا الكافر الحربي فالحكم بتحريم قذفه و تعزير قاذفه مشكل.

و ربّما يورد عليه بأن المذكور في كلمات العلماء هو الكافر لا الكافر من أهل الكتاب.

و يمكن الجواب عنه بأنه لا بأس بأن يكون مرادهم أهل الكتاب لقرائن و مناسبات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 185

نعم هنا إشكال آخر الذي قد أورد بعض علينا فيما ذكرناه من وجه الجمع و هو أنه لا أثر من التفصيل بين الاطلاع و عدم الاطلاع في كلماتهم.

و فيه أن الأمر ليس كذلك فترى صاحب الوسائل الذي يفتي بعناوين أبواب كتابه قد فصل هنا و قال في أول باب القذف: باب تحريمه حتّى قذف من ليس بمسلم مع عدم الاطلاع.

و كذا صاحب الجواهر قال: عند قول المحقّق: و لو كان المقول له مستحقّا للاستخفاف فلا حدّ و لا تعزير-: نعم ليس كذلك ما لا يسوغ لقاؤه به من الرمي بما لا يفعله.

ثم تمسك برواية الحلبي المفصّلة بين الاطلاع و عدم الاطلاع.

و على الجملة فالفرق بين المسلم و أهل الكتاب في أن قذف المسلم مطلقا حرام و موجب للحدّ و إن كان مع الاطلاع إلّا بالإتيان بأربعة شهداء و أمّا بالنسبة إلى أهل الكتاب فلا، بل لو كان مع الاطلاع فلا حرمة و لا تعزير.

نعم هنا رواية تعارض ما ذكرناه و هي رواية يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كلّ بالغ من ذكر أو أنثى افترى على صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى أو مسلم

أو كافر أو حرّ أو مملوك فعليه حدّ الفرية و على غير البالغ حدّ الأدب «1».

و لكنّها لا تقاوم للمعارضة و ذلك لأنها مرسلة و لم تجتمع فيها شرائط الحجيّة و لذا قال صاحب الجواهر: هو مطرح لفقدها شرائط الحجيّة فضلا عن صلاحية المعارضة.

و قال الشيخ قدّس سرّه: إيجاب الحدّ على من قذف غير البالغ محمول على من نسب الزنا إلى أحد أبويه، و إيجابه على من قذف كافرا محمول على من كانت أمّه مسلمة أو على التعزير.

لا يقال إنّ ذكر المسلم في الرواية ينافي هذا الحمل و ذلك لأن قذف المسلم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 186

موجب للحدّ التام كما أن ذكره يوجب كون القذف متوجها إلى نفسه [1].

لأنا نقول: إنّه لا حاجة إلى الحمل و التوجيه بالنسبة إليه أصلا فما ذكر من الحمل متعلّق بمورد لا يتم الحكم بظاهره و هو غير المسلم.

و هنا روايات آخر دالّة على عدم الجواز كرواية الحذّاء قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فسألني رجل: ما فعل غريمك؟ قلت: ذاك ابن الفاعلة فنظر إليّ أبو عبد اللّه عليه السلام نظرا شديدا قال: فقلت: جعلت فداك إنّه مجوسيّ، أمّه أخته فقال: أو ليس ذلك في دينهم نكاحا؟ «1».

ترى أنه قال: نظر إليّ أبو عبد اللّه نظرا شديدا، و هذا يدلّ على عدم الجواز.

عدم اشتراط الإسلام و الحرّية في القاذف

قال المحقّق: سواء كان القاذف مسلما أو كافرا حرّا أو عبدا.

يعنى أنه بعد استكمال الشرائط المعتبرة في المقذوف، و المعتبرة في القاذف يجب الحدّ على القاذف بلا فرق بين كونه مسلما أو كافرا، حرا أو عبدا و ذلك لأن

الإسلام و الحرية كانا من شرائط المقذوف دون القاذف.

ثمّ إنّه قد أورد علينا في مورد القاذف الكافر بأنه كيف يحكم عليه بالحدّ إذا قذف مسلما و الحال أن خبر فضيل بن يسار صرّح بأنه لا حدّ لمن لا حدّ عليه «2» يعني إنّ كلّ من لا يحدّ إذا قذف فلا يحدّ قاذفه و بعبارة أخرى من لا حدّ بضرره لا حدّ بنفعه و على ذلك يقال أيضا: و من كان يحدّ لو قذف فله الحدّ على من قذفه، و الكافر لو قذف أقيم عليه الحدّ فيلزم أن يكون له حقّ الحدّ على من قذفه و الحال أنه ليس له حقّ الحدّ على القاذف لاشتراط الإسلام في المقذوف.

______________________________

[1] أورده بعض و أجاب دام ظله بما ذكرناه و لكن الظاهر أنه غير تام للزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 187

و فيه أن القضيّة صادقة من طرف واحد و هو من لا يقام عليه الحدّ لا حدّ له على غيره فالكافر خارج عن تحت القضية لأنه ليس ممن لا يقام عليه الحدّ بل يقام عليه إذا قذف.

فهو يدلّ على أن المجنون أو الصغير الذين لا حدّ عليهما إذا قذفا- لعدم التكليف- لا حد لهما إذا قذفهما أحد، و لكن لا يدلّ على أن من لا حدّ له كالكافر و المملوك لا حدّ عليه.

إذا نسب أمّه إلى الزنا و كانت هي أمة أو كافرة

قال المحقّق: و لو قال للمسلم: يا بن الزانية أو أمّك زانية و كانت أمّه كافرة أو أمة قال في النهاية: عليه الحدّ

تامّا لحرمة ولدها و الأشبه التعزير.

و قد تبع الشيخ في ذلك جماعة كما في المسالك و الجواهر.

و قد استدلّ على ذلك بأمرين:

أحدهما: حرمة ولدها.

و قد أورد عليه الشهيد الثاني في المسالك بأن حرمة الولد غير كافية في تحصين الأمّ لما تقدّم من أن شرطه الإسلام و هو منتف.

ثانيهما: خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن اليهودية و النصرانية تحت المسلم فيقذف ابنها قال: يضرب القاذف لأن المسلم قد حصنها «1».

قال في المسالك بعد العبارة السابقة: و الشيخ استند في قوله بثبوت الحدّ إلى رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه انتهى.

و هو أيضا ظاهر عبارة صاحب الجواهر.

أقول: راجعنا النهاية و لم يكن فيها ذكر عن الرواية، فالمراد هو اعتماد الشيخ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب حدّ القذف ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 188

عليها في هذه الفتوى.

و كيف كان ففي المسالك في مقام الإيراد على التمسّك بالرواية: و فيها قصور السند و الدلالة، أمّا الأوّل فلأن في طريقها بنان بن محمد و حاله مجهول و أبان و هو مشترك بين الثقة و غيره. و أمّا الثاني من وجهين أحدهما قوله: فيقذف ابنها، فإنّه أعم من كونه بنسبة الزنا إليها و إن كان ظاهر قوله: إنّ المسلم قد حصّنها يشعر به، و لأن القذف بذلك ليس قذفا لابنها بل لها و من ثمّ كان المطالب بالحدّ هو الأمّ. و الثاني من قوله: يضرب القاذف فإنّه أعمّ من كونه حدّا أو تعزيرا لاشتراكهما في مطلق الضرب و نحن نقول: يثبت بذلك التعزير، هذا على ما رواها الشيخ في التهذيب، و أمّا الكليني فإنّه

رواها بطريق آخر و ليس فيه بنان و ذكر في متنها بدل قوله: (و يضرب القاذف) (و يضرب حدّا) و عليه ينتفي الإيراد الأخير و يؤيّده التعليل بالتحصين انتهى «1».

أقول: فقد استشكل في الرواية سندا و دلالة. أمّا من حيث السند فمن جهتين:

إحديهما أن في طريقها بنان بن محمد و هو مجهول الحال. و الأخرى أن في طريقها أيضا أبان و هو مشترك بين الثقة و غيرها هذا.

و أمّا من حيث الدلالة فمن وجهين أيضا:

أحدهما من جهة أن قوله: يقذف ابنها ليس صريحا في نسبة الزنا إليها فلعلّه كان بشي ء آخر ثانيهما من جهة أن قوله: يضرب القاذف، يمكن أن يراد منه التعزير لصدق الضرب عليه و على الحدّ و اشتراكهما في مطلق الضرب.

ثمّ أبدى ما يخفّف الإشكال و هو أنه قد نقل الخبر في الكافي و ليس في طريقه بنان كما أنه نقل هناك: (يضرب حدّا) لا: (يضرب القاذف) و من المعلوم أن (يضرب حدّا) ظاهر في الحدّ و لا يشمل التعزير. كما أن التعبير بالتحصين في قوله: لأن المسلم قد حصّنها، يشعر بأن النسبة في القذف كانت نسبة الزنا.

______________________________

(1) مسالك الأفهام ج 2 ص 437.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 189

و على هذا فقد ارتفع معظم الإشكالات الواردة على الرواية و مع ذلك بقي بعض الإشكالات الواردة على الاستدلال بها مثل كون أبان المجهول في طريقها.

ثم قال قدّس سرّه: و وافق الشيخ على ذلك جماعة و قبله ابن الجنيد و ذكر أنه مرويّ عن الباقر عليه السّلام و روى الطبرسي: أن الأمر لم يزل على ذلك إلى أن أشار عبد اللّه بن عمر على عمر بن عبد العزيز بأن لا يحدّ

مسلم في كافر، فترك ذلك.

أقول: و على هذا فقد استدلّ مضافا إلى الدليلين المذكورين بدليل ثالث و هو هذا الخبر المرويّ عن الباقر عليه السلام.

و فيه أن هذا الخبر مرسل، و ذكر في الجواهر موردا عليه: لم نتحقّقه.

و على هذا فلم يكن في المقام شي ء يعتمد عليه في ذلك و مجرّد إسلام الولد لا يقتضي تماميّة الحدّ على القاذف بعد أن الولد ليس هو المقذوف.

فتحصّل أن الأقوى كما في المسالك هو القول الأول و هو الذي قال المحقّق:

و الأشبه التعزير، و في كشف اللثام مزجا: و الأقرب ما في الشرائع من أن عليه التعزير، للأصل و عدم صحة الخبر و معارضته بما دلّ على التعزير بقذف الكافر انتهى.

في تعزير الأب لقذفه ولده

قال المحقّق: و لو قذف الأب ولده لم يحد و عزّر

أقول: فمن جملة شرائط المقذوف هو انتفاء بنوّته للقاذف و قد ذكر ذلك بعض، من جملة الشرائط و في عدادها فترى العلّامة أعلى الله مقامه قال في القواعد في شرائط المقذوف: الإحصان و انتفاء الأبوّة.

و قد أورد عليه كاشف اللثام بأنّ الأولى البنوة و فسر كلام العلامة بانتفاء الأبوة عن القاذف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 190

و كيف كان فلو كان القاذف أبا له فلا يقام عليه الحدّ، و ما كان سببا للحدّ في غير الأب لا يكون سببا لذلك إذا كان أبا و ذلك للمكانة المعلومة عند الشرع للوالد نعم يعزّر هو على ذلك.

و قد ذكروا بأن وجوب التعزير أيضا ليس من باب إثبات حق للولد على الوالد كما في سائر الموارد بل إنّما هو لكون عمله حراما و أن التعزير حقّ اللّه تعالى و لذا لا يحتاج إلى المطالبة و لا يسقط بالعفو

فإنّه لا يثبت للإبن على الأب عقوبة حدّا كان أو تعزيرا. و قد علّل في الجواهر عدم الحدّ بالأصل و عدم ثبوت عقوبة للولد على أبيه و لو قتله.

و فيه أمّا الأصل فهو دليل حيث لا دليل فمع وجود الإطلاقات الشاملة للمقام لا مجال للتمسّك به.

و أمّا عدم ثبوت العقوبة للإبن على أبيه فهو أيضا ليس وجها كافيا في إثبات المطلب لو لم يدل عليه دليل بالخصوص.

و أمّا قوله: و لو قتله، فالمقصود به هو الأولويّة.

و فيه أنه لو لم يكن دليل يدلّ على المطلب فإنه لا أولويّة قطعيّة و ذلك لأنه و إن كان عدم قتل الأب بالإبن معلوما مسلّما لكنه لا يدلّ على أنه لا يحدّ الأب للإبن فإنّ في القتل إزهاق الروح و إعدام للشخص و لا بدّ فيه من كمال المواظبة و المراعاة، بخلاف الجلد الذي هو مجرّد الضرب و ليس بتلك الأهميّة و من الممكن جواز ضرب الأب للإبن فعدم قتل الوالد للولد لا يدلّ على عدم ضربه له و إلّا للزم عدم ضمان الوالد إذا سرق مال ولده و هكذا سائر الأحكام.

نعم يدلّ على المطلب صحيح محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل قذف ابنه بالزنا قال: لو قتلهما قتل به و إن قذفه لم يجلد له قلت: فإن قذف أبوه أمّه؟ قال: إن قذفها و انتفى من ولدها تلاعنا و لم يلزم ذلك الولد الذي انتفى منه و فرّق بينهما و لم تحلّ له أبدا قال: و إن كان قال لابنه و امّه حيّة: يا ابن الزانية و لم ينتف من ولدها جلد الحدّ لها و لم يفرّق بينهما قال: و إن

الدر المنضود

في أحكام الحدود، ج 2، ص: 191

كان قال لابنه: يا بن الزانية، و أمّه ميّتة و لم يكن لها من يأخذ بحقّها منه إلّا ولدها منه فإنّه لا يقام عليه الحدّ لأن حقّ الحدّ قد صار لولده منها فإن كان لها ولد من غيره فهو وليّها يجلد له و إن لم يكن لها ولد من غيره و كان لها قرابة يقومون بأخذ الحدّ جلد لهم «1».

و هذا الخبر و إن قال المجلسيّ قدّس سرّه في المرآة بأنه مجهول، لكنّ الظاهر أنه معتبر و معمول به عندهم و قد عبّر عنه بعض كالشهيد الثاني في المسالك و الفاضل الأصفهاني في كشف اللثام بالحسنة و بعض كصاحب الجواهر بالحسن أو الصحيح، كما أن دلالتها على المطلوب واضحة لتصريحه عليه السلام بأنه لا يجلد و قرّب ذلك بأنه لو قتله ما قتل به هذا بالنسبة إلى صدر الخبر الذي هو عين محلّ الكلام.

و أمّا الفرض الثاني المذكور في الخبر فهو أن يقذف أبوه أمّه و نفى ولدها عنه فهنا يتلاعنان و بعد الملاعنة ينتفي منه الولد و لم يجبر بقبول هذا الولد و فرّق بين الرجل و المرأة أي والدي الطفل و لا تحلّ له أبدا كما هو مقتضى الملاعنة شرعا.

و أمّا الفرض الثالث فهو أن يقول لابنه: يا بن الزانية و لكنّه لم ينتف ولدها و كانت أمّه حيّة.

و لا بعد في تحقق الفرض بأن ينسب الأمّ إلى الزنا و لكنّه لم ينتف ولدها لإمكان زناها في غير مورد هذا الولد، و على الجملة فهنا يجلد الأب، و الحقّ للأمّ الحيّة و لكن لا يفرّق بينهما لأنه لم ينتف ولدها و إنّما نسبها إلى الزنا فيكون لها

حقّ الجلد عليه.

و أمّا الفرض الرابع فهو أن يقول لابنه: يا بن الزانية مع كون الأمّ ميّتة و لم يكن لها ذو حقّ بالنسبة إلى حدّ هذا القذف سوى هذا الولد فهنا لا يقام على الوالد الحدّ، و ذلك لأن صاحب الحق فعلا هو هذا الولد الذي هو منه و منها، و لا يقام الحدّ على الوالد لابنه، و القذف و إن كان بالنسبة إلى الأمّ إلّا أن الولد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 192

حينئذ هو صاحب الحق و طالبه لفرض موت الأمّ.

و أمّا الفرض الخامس فهو أن يكون لها ولد من غير هذا الرجل القاذف و هنا يكون الولد المزبور وليّها و المطالب بحقّها فيجلد القاذف.

و أمّا الفرض السادس فهو أنه لم يكن لها ولد من غيره و لكن كانت لها قرابة يقومون بأخذ الحدّ و يطالبونه و هنا أيضا يجلد القاذف، لحقّ الأقرباء.

و الحاصل أنه لا فرق بين أن يقذف الوالد ولده بنفسه و بين أن يقذف أمّه إلى الزنا عند ما كان هذا الولد وليّها في أخذ الحقّ و المطالبة بالحدّ فهما سيّان في عدم إقامة الحدّ على الأب.

في قذف زوجته الميّتة

قال المحقّق: و كذا لو قذف زوجته الميّتة و لا وارث لها إلّا ولده نعم لو كان لها ولد من غيره كان لهم الحدّ تامّا.

أقول: و قد ظهر وجه ذلك من رواية ابن مسلم فإنّ هذا هو الفرض الرابع من فروض الرواية و الفرض الخامس منها.

قذف الولد أباه و الأمّ ولدها

ثم قال: و يحدّ الولد لو قذف أباه، و الأمّ لو قذفت ولدها و كذا الأقارب.

أقول: و ذلك لدلالة العمومات على أن القذف مطلقا يوجب الحدّ غاية الأمر أنه قد خرج عنها مورد واحد و هو قذف الأب ابنه فيبقى الباقي بحاله تحت العمومات.

ثمّ إنّه هل الجد للأب أيضا كسائر الأرحام و الأقارب أو أنه داخل تحت عنوان الأب و ملحق به؟.

قال العلّامة في القواعد: و الأقرب أن الجدّ للأب أب بخلاف الجدّ للأمّ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 193

و قال في التحرير: لو قذف الأب ولده المحصن و إن نزل لم يحدّ كاملا بل عزّر إلخ.

و في كشف اللثام تقريرا لقول العلّامة: لأنّه لا يقتل به و للمساواة في الحرمة و عموم له عرفا- ثم قال:- و يحتمل العدم للعمومات و منع عموم الأب له حقيقة.

انتهى كلامه.

أقول: الظاهر من لفظ الأب و قذفه لولده الواردين في الرواية هو الأب بلا واسطة، و لو أريد تعميم الحكم للجدّ أيضا لكان يذكر الجدّ مع الأب فلو كان في المقام دليل كالإجماع يدلّ على أن حكم الجدّ هو حكم الأب فهو و إلّا فالرواية لا تشمل إلّا الأب وحده دون الجدّ.

نعم وردت عدّة روايات في باب القتل ناطقة بأنه لا يقتل الأب في الابن لكنّها لا تدلّ على المراد في المقام.

و أمّا الاستدلال على ذلك بعموم الأب له عرفا

و إطلاقه عليه، ففيه أنه و إن كان يصحّ ذلك فقد أطلق عليه الأب في بعض الموارد و ببعض المناسبات إلّا أنه لا يطلق عليه حقيقة، و المتبادر منه هو الأب و لذا لو قيل لصبي كان له الأب و الجد منه: جاء أبوك فلا يبدو في ذهنه سوى أبيه و ليس ذلك إلّا للمنع عن كونه أبا حقيقة.

و على هذا فقد أفتى الفقهاء بأن قضاء صلوات الأب الفائتة منه يختصّ بالأب نفسه و لا يشمل الجدّ أيضا.

هذا بالنسبة إلى الجدّ للأب، و أمّا الجدّ للأمّ فهو يحدّ بقذفه ابن بنته بلا كلام و ذلك لأن الأمّ بنفسها تحدّ إذا قذفت ولدها فكيف بأبيها، و لأنه لا يسبق إلى الفهم من الأب و إن كثر إطلاق الابن على السبط هكذا استدلّ في كشف اللثام.

و يرد عليه أنه لو كان مجرّد الإطلاق كافيا كما ذكر في الجدّ الأبي فهنا أيضا يطلق الأب فترى أنه يستعمل (ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) و يطلق على الهاشميين و العلويين و يخاطبون بخطاب: يا بن رسول اللّه، و يقول الشاعر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 194

أولئك آبائي فجئني بمثلهم [1] أو لو شكّ في إيجابه الحدّ هنا و لم يكن دليل فقاعدة الدرء جارية.

ثمّ إنا بعد ما ذكرناه من الإشكال رأينا أن فخر المحقّقين أيضا قد تنظّر في المطلب و تعرّض لما ذكرناه فإنّه عند قول والده العلّامة أعلى اللّه مقامه:

و الأقرب أن الجدّ للأب أب بخلاف الجدّ للأمّ انتهى. قال: يعني إذا قذف الجدّ للأب ولد ابنه فالأقرب أنه كالأب لا يحدّ له. (ثم استدلّ على ذلك بقوله:) لوجود المقتضي لانتفاء الحدّ و

هو حرمة الأبوّة و لأنّه لا يقتل به و لأنه يصدق عليه لفظ الأب حقيقة.

ثم قال: و فيه نظر للمنع من كونه أبا حقيقة فإنّه يصدق عليه السلب و لا شي ء من الحقيقة كذلك.

أقول: إنّه قدس سره ذكر ثلاثة وجوه لتقرير قول والده العلّامة و إثبات سقوط الحدّ:

الأول: وجود المقتضي لانتفاء الحد، و المراد به هو حرمة الأبوة فإنّ الحرمة الثابتة للأب ثابتة للجدّ و هذا يقتضي أن لا يحدّ، كما لا يحدّ الأب.

الثاني: إنّ الجدّ لا يقتل بابن الابن كما لا يقتل الأب بابنه.

الثالث: صدق الأب حقيقة على الجدّ.

و قد تعرّض في مقام الإشكال للوجه الثالث و أجاب عنه بعدم الإطلاق عليه حقيقة و ذلك لصحّة سلب الأبوة عن الجدّ فيقال: إنّه ليس أبا و من المعلوم أن الحقيقة ليست كذلك بل هي علامة المجاز و خلاف الحقيقة. و هذا هو عين ما أوردناه آنفا.

و أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه أن حرمة الأبوة و إن كانت محقّقة للجد فإنّه كان سببا لوجوده و وجود أبيه لكنّها لا تدلّ على أن الجدّ لا يضرب في ابن الابن فلعلّ

______________________________

[1] و بعده: إذا جمعتنا يا جرير المجامع، و هو من قصيدة للفرزدق يهجو بها جرير بن عطيّة التميمي. راجع جامع الشواهد باب الألف بعده الواو.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 195

تساويهما في الحرمة يقتضي عدم قتله لو قتل ابن الابن كما لا يقتل الأب بقتله ولده، و أمّا في الجلد فلا.

و أمّا الوجه الثاني و هو أن الجدّ لا يقتل بقتل ابن ابنه كالأب بعينه فكذلك لا يجلد في ابن ابنه كما لا يجلد الأب في ولده.

ففيه انه على فرض تسليم ذلك أي عدم

قتل الجد كالأب، فإثبات عدم جلد الجدّ في ابن ابنه بسبب عدم جلد الأب في ابنه إمّا بالقياس أو الأولويّة أو بتنقيح المناط.

و الأول معلوم البطلان في المذهب، و لا يقول هذا العلم بالنحرير بذلك قطعا.

و الثاني غير صحيح لأنه لا أولوية في البين بل الأولويّة بالعكس يعني لو كان الدليل يدلّ على أن الجدّ لا يضرب في ابن الابن كما لا يضرب الأب في ابنه لكان يقال: فالجدّ لا يقتل في ابن الابن كما لا يقتل الأب في ابنه و أمّا العكس فلا.

و الثالث موقوف على الجزم بالمناط و القطع بحصوله.

كما أن ما قد يتوهّم بعض من أن الولاية الثابتة للجدّ الأبي تقتضي أن لا يجلد هو بقذف ابن ابنه كما لا يجلد في قذف ولده.

و فيه انه لا يدلّ على المطلوب إلّا بتنقيح المناط الموقوف على العلم به و مع عدمه لا بدّ من الأخذ بعموم ما دلّ على حدّ من قذف.

و على الجملة فحيث كان دليل سقوط الحدّ عنده محلّ النظر فلذا قال بعد ذلك:

و من هنا احتمل عدم السقوط لوجود المقتضي للحد و هو القذف و لم يعلم ثبوت المانع و الأصل عدمه.

أقول: إنّه هنا صار بصدد تقريب احتمال الخلاف أي عدم سقوط الحدّ عن الجدّ و ذكر أن المقتضي موجود و المانع مفقود بالأصل، و مراده من المقتضي الموجود هو الرمي بالزنا الذي يقتضي الحدّ، و من المانع الذي علم بعدمه بالأصل هو الأبوّة فحينئذ يؤثّر المقتضي أثره و هو إيجاب الحدّ.

ثم قال: قالوا شبهة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 196

أقول: يعني: قالوا بأنه يسقط الحدّ لأجل الشبهة.

فأجاب بقوله: قلنا يسقط حقّ اللّه لا حقّ الآدمي و هو

الأغلب هنا.

يعني أن الذي يسقط بالشبهة هو حقّ اللّه تعالى لا حقّ الناس، و الأغلب في باب القذف هو هذا أي: حقّ الناس كما يدلّ على ذلك جواز العفو عن ذلك الحدّ و لو كان حقّ اللّه تعالى لم يكن قابلًا لذلك هكذا ذكره رحمه اللّه، و لسنا بصدد كلامه الأخير، و البحث في صحّة ما ذكره من عدم ورود الدرء هنا و سقم ذلك.

و كيف كان فمع أنه ضعّف دليل السقوط فقد قال في الآخر: و الأقوى عندي أنه لا حدّ عليه. و لعلّ ذلك لأجل أن الوارد في الخبر هو السؤال عن الابن حيث قال: عن رجل قذف ابنه بالزنا إلخ و استعمال الابن في ابن الابن بل و في ابن البنت في المحاورات العرفيّة كثير فأنتم لا تزالون تقرؤون بالليل و النهار في زيارة الأئمة الطاهرين عليهم السلام: السلام عليك يا بن رسول اللّه، فلو لم يكن استعمال الأب في الجد و إطلاقه عليه سائغا في العرف، فإنّ إطلاق الابن على ابن الابن شائع عندهم.

لا يقال: إنّ الأب و الابن من قبيل المتضايفين، و النسبة فيهما على نهج واحد، و حدّ سواء، فلو صدق الابن على ابن الابن لصدق الأب أيضا على أب الأب و حيث لم يصدق ذاك فلا يصدق هذا، فيجب الحدّ [1].

فإنّا نقول: إنّ واقع الأمر كذلك فإنّ النسبة بينهما هو التضايف إلّا أن الكلام في المحاورات العرفيّة، و الشائع فيها إطلاق الابن على الابن بالواسطة أيضا دون إطلاق الأب، فلو حصل من هذا الشيوع ظهور لكفى في سقوط الحدّ عن الجدّ و إلّا فلا أقلّ من كونه موجبا للشبهة و لكانت موجبة لدرء الحدّ.

______________________________

[1] أورده بعض السادة عليه

و قد أجاب دام ظله بما نقلناه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 197

المسألة الأولى في قذف جماعة واحدا بعد واحد أو بلفظ واحد

قال المحقّق: الرابع في الأحكام و فيه مسائل: الأولى إذا قذف جماعة واحدا بعد واحد فلكلّ واحد حدّ و لو قذفهم بلفظ واحد و جاءوا به مجتمعين فلكل حدّ واحد و إن افترقوا في المطالبة فلكلّ واحد حدّ.

أقول: إنّ ما ذكر إلى الآن كان حكم القذف مع كون المقذوف واحدا، و الكلام حينئذ في القذف مع كون المقذوف متعدّدا، و له صور:

أحدها: أن يقذفهم تفصيلا واحدا بعد واحد سواء ذكر كلّا باسمه أو قذفهم و خاطبهم بصورة الخطاب و ضميره. فالأوّل كما إذا قال: زيد زان و عمرو زان و هكذا. و الثاني كأن يقول كلّ واحد من جماعة: أنت زان، أنت زان و هكذا فالنسبة هنا متعدّدة في كلتا الصورتين.

ثانيها: أن يكون اللفظ واحدا كما إذا خاطب جماعة و قال: أنتم زناة و هنا تارة يأتون بالقاذف مجتمعين و أخرى متفرّقين.

أمّا الأوّل و هو ما إذا قذفهم واحدا بعد واحد فلكلّ واحد منهم حدّ مستقلّ على القاذف سواء أتوا به معا أو متفرّقين.

و أمّا الثاني: و هو ما إذا كان القذف بلفظ واحد فهنا فصل بين إتيان المطالبين به مجتمعين فإنّه يحدّ حدّا واحدا للجميع و بين إتيانهم به متفرّقين فهو يحدّ لكلّ واحد منهم على حدة.

و لنا في هذا التفصيل كلام فنقول: لا إشكال في أنه لو طالب واحد منهم بحقّه و أقيم على القاذف الحدّ فمن المسلّم أن إجراء هذا الحدّ عليه لا يوجب سقوط حقّ الباقين. و بعبارة أخرى أن إتيان الثاني مثلا لو كان بعد إتيان الأوّل به و إقامة الحدّ عليه فللثّاني أيضا حدّ

آخر و لو كانت مطالبة الثالث بعد مطالبة الثاني و إقامة حدّه فهو يحدّ للثالث أيضا مستقلا و هكذا.

و أمّا لو جاءوا به متفرّقين لكن بلا تخلّل الحدّ بأن كان الأوّل قد أتى به و طالب بحقّه لكن لم يساعد الشرائط إقامة الحدّ عليه إلى الغد فأتى به الثاني

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 198

و هكذا فالظاهر أنه لا فرق بين الإتيان به متفرّقين بهذا النحو و بين إتيانهم به مجتمعين، و مجرّد كون المطالبة مترتّبة و مجيئهم واحدا بعد واحد لا يوجب التفرقة بين القسمين. و المفروض وقوع القذف بلفظ واحد فإن كانت النسبة واحدة لا متعدّدة يلزم توقّف الحدّ على اجتماع الجميع فإذا حضر الجميع و طالب كلّ منهم بالحدّ يقام عليه حدّ واحد فإنّ كلّ واحد منهم جزء في هذه النسبة القائمة بالجميع.

و أمّا لو كانت الكلمة الواحدة منحلّة إلى النسب المتعدّدة المختلفة على ما هو مقتضى العام الاستغراقي المنحل إلى الأفراد الكثيرة و النسب المتعدّدة فهذا لا فرق فيه بين إتيانهم بالقاذف متفرّقين أو مجتمعين و لازم ذلك تعدّد الحدّ. هذا هو مقتضى القاعدة و ذلك لأن النسب المتعدّدة أسباب متعددة و هي تطلب و تقتضي مسبّبات متعدّدة فيتعدّد الحدّ.

و نعم ما قال في كشف اللثام حيث قال مازجا: و لو تعدّد المقذوف و القذف تعدّد الحدّ سواء اتّحد القاذف أو تعدّد، اتّحد اللفظ أو تعدّد لأن هذا الحدّ حقّ المقذوف و لا يتسبّب اجتماع مقذوف مع آخر لسقوط حدّه- حقّه- و لكنّ أكثر الأصحاب بل في السرائر و النكت إنّ جميعهم اتّفقوا على أنه لو قذف جماعة بلفظ واحد كقوله: زنيتم أو: لطتم أو: يا زناة أو:

يا لاطة، فإن جاءوا به الحاكم مجتمعين فللجميع حدّ واحد و إن جاءوا به متفرّقين فلكلّ واحد حدّ و لو قذفهم كلّ واحد بلفظ حدّ لكلّ واحد حدّا سواء اجتمعوا في المجي ء أو تفرّقوا انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و كيف كان فهم قد قالوا بذلك و إن كان مقتضى القاعدة عدم تمامية ما ذكروه.

ثم إنّ في قبال قول المشهور قول الإسكافي فإنّه عكس الأمر و قال: لو قذف جماعة بكلمة واحدة جلد حدا واحدا فإن سمّى واحدا واحدا فأتوا به مجتمعين ضرب به حدّا واحدا و إن أتوا به متفرّقين ضرب لكلّ واحد منهم حدّا.

______________________________

(1) كشف اللثام ج 2 ص 233.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 199

ثمّ إنّ كلّا من القولين مستند إلى الروايات فنحن نراجعها حتى نعلم ما يستفاد منها، فعن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن رجل افترى على قوم جماعة قال: إن أتوا به مجتمعين ضرب حدّا واحدا و إن أتوا به متفرّقين ضرب لكلّ منهم حدّا «1».

و ظاهر قوله: افترى على قوم، هو افتراؤه عليهم بلفظ واحد لا النسبة إليهم واحدا بعد واحد، كما أن الظاهر أن (جماعة) حال، و قد حكم عليه السلام بحدّ واحد عند مجيئهم به مجتمعين، و المتعدّد إن أتوا به متفرّقين و قد ذكرنا أن هذا الحكم لا يوافق القاعدة و لكنّه تعبّد لا كلام عليه.

و عن الحسن العطّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل قذف قوما قال: بكلمة واحدة؟ قلت: نعم. قال: يضرب حدّا واحدا فإن فرّق بينهم في القذف ضرب لكلّ واحد منهم حدّا «2».

و قد جعل الملاك في هذا الخبر هو كون الكلمة

واحدة أو متعدّدة فيتّحد الحدّ في الأوّل و يتعدّد في الثاني.

و ذيل هذا الخبر هو عين فتوى المشهور من أنه لو قذف واحدا بعد واحد يتعدّد الحدّ سواء أتوا به مجتمعين أو متفرّقين.

و أمّا صدره فهو عامّ أو مطلق بالنسبة إلى صحيح جميل الدالّ على أنه إذا قذف بكلمة واحدة يضرب حدّا واحدا إذا كانوا قد أتوا مجتمعين فلذا يخصّص أو يقيّد هذا بذاك، و النتيجة أن يقال: يضرب حدّا واحدا إن اجتمعوا في المجي ء به.

و عن محمد بن حمران عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن رجل افترى على قوم جماعة قال: فقال: إن أتوا به مجتمعين به ضرب حدا واحدا و إن

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 200

أتوا به متفرّقين ضرب لكلّ رجل حدّا «1».

و مفاد هذا الخبر كصحيح جميل.

و عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل افترى على نفر جميعا فجلده حدّا واحدا «2».

و هذا و إن دلّ على أن الحدّ في القذف على الجماعة هو حدّ واحد إلّا أن هذا الخبر حكاية فعل و ليس من القول في شي ء حتّى يستظهر منه، و لا إطلاق للفعل لأنّه بلا ترديد ليس حكاية فعل استمراري و إلّا كان يقول: كان يقضي، و إنّما هو حكاية فعل تحقّق مرّة واحدة و هذا لا يحتمل الأحوال المختلفة كإتيانهم به مجتمعين و متفرّقين و إنّما كان مقرونا بحال من الحالين فربما كان إتيانهم به مجتمعين كما أن الشيخ

قدس سره حمله على ما لو قذفهم بلفظ واحد و أتوا به مجتمعين.

و على هذا فلا تعارض بين هذا و بين ما سبق.

و ما قد يقال من أنه حيث كان نقل الإمام الصادق عليه السلام هذا القضاء في مقام بيان الحكم و لم يذكر خصوصية فيعلم أنه لا خصوصيّة أصلا فيؤخذ بالإطلاق و حينئذ يحصل التعارض بين هذا و سائر الروايات لأنّه لو كان بين الكلمة الواحدة و المتعدّدة أو المجي ء به مجتمعين أو متفرّقين فرق لكان اللازم ذكر تلك الخصوصيّة و حيث لم تذكر يستكشف الإطلاق.

ففيه إنّه ربما كانت هناك خصوصية لم يذكرها الإمام لجهة من الجهات و لمصلحة من المصالح، أو أنه قد ذكرها الإمام عليه السلام لكن لم يذكرها الراوي.

و على الجملة فالقضيّة شخصيّة و فعل خارجيّ و لا إطلاق لها لا في المقام و لا في سائر المقامات، و بتعبير آخر، المقام من قبيل المردّد لا من قبيل المطلق لتردّده بين هذه الحالة و تلك فلا بدّ من حمله على حال من الحالات مثل قذفهم بلفظ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ القذف ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 201

واحد مع إتيانهم به مجتمعين.

قال بعض المعاصرين قدس سره: و يظهر من معتبرة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام لزوم حدّ واحد مطلقا.

(ثم قال): و قد حملت على ما إذا أتوا به جميعا. و فيه إشكال لأن قول أبي عبد اللّه عليه السلام (قضى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه.) على المحكي إذا كان في مقام بيان الحكم فهو بمنزلة المطلق، و القانون

لا بدّ أن يكون الباقي فيه أكثر من المخرج لا الأقلّ و لا المساوي. انتهى «1».

و فيه ما ذكرناه من أن الإمام الصادق عليه السلام قد نقل قضاء واحدا من قضايا أمير المؤمنين عليه السلام و لو كان بصدد بيان جميع القضايا و الأمر المستمرّ لعبر بقوله: كأن يقضي، و هذه القضيّة الواحدة مردّدة بين القذف بلفظ واحد أو المتعدّد جاءوا به مجتمعين أو متفرّقين و حيث علم أن قضاءه المنقول كان واحدا فلا يجوز التمسك بإطلاق فعله.

و عن بريد عن أبى جعفر عليه السلام في الرجل يقذف القوم جميعا بكلمة واحدة قال: إذا لم يسمّهم فإنّما عليه حدّ واحد و إن سمى فعليه لكلّ رجل حدّ «2».

فإن كان المراد من التسمية هو ذكر أشخاصهم مع كون النسبة واحدة فالنسبة بين هذه و بين ما دلّ على الإتيان به مجتمعين أو متفرّقين هو العموم من وجه و يتعارضان فيما لو سمّاهم بكلمة واحدة و لكن جاءوا به متفرّقين حيث إنّ مقتضى دليل التّسمية هو الوحدة، و مقتضى دليل الإتيان به هو تعدّد الحدّ كما أنه لو لم يسمّهم و هم قد جاءوا به متفرّقين تعارضت الروايتان. و بعبارة أخرى محلّ الاختلاف فرعان: أحدهما التسمية مع إتيانهم به مجتمعين. ثانيهما عدم التسمية مع إتيانهم به متفرّقين.

و حيث إنّ المشهور عملوا برواية التفصيل بين الإتيان به مجتمعين أو متفرّقين

______________________________

(1) جامع المدارك ج 7 ص 104.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ القذف ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 202

فالترجيح معها.

فتحصّل أن المشهور لم يفصّلوا فيما إذا افترى قوما واحدا بعد واحد فإنّهم يقولون هنا بتعدّد الحدّ بلا كلام و إنّما

فصّلوا فيما إذا قذفهم بلفظ واحد بين ما إذا أتوا به مجتمعين أو متفرّقين.

و قد ذهب الإسكافي إلى عكس هذا بعينه لأنه قال: لو قذفهم بلفظ واحد كان الحدّ واحدا سواء جاءوا به مجتمعين أو متفرّقين و أمّا لو قذفهم واحدا بعد واحد فإن أتوا به مجتمعين فحدّ واحد و إن أتوا به متفرّقين جلد متعدّدا.

قال العلّامة في المختلف: إنّ ابن الجنيد احتجّ بخبر جميل (ثمّ قال) و لا بأس به فإنّه أوضح طريقا [1].

تقريب استدلاله به هو أن- جماعة- صفة للقذف المدلول عليه بالفعل أي لفظ: افترى، و أريد بالجماعة القذف المتعدّد فيكون المقصود قذف قوما قذفا متعدّدا، و كان الجواب أنه إن أتوا به مجتمعين فحدّ واحد و إلّا يتعدّد الحدّ و معلوم أن هذا بعيد فإنّ الظاهر أن جماعة صفة للقوم [2].

و قد ردّ صاحب الجواهر على الإسكافي بأن ما حكي عنه غير واضح الوجه على وجه تنطبق عليه جميع النصوص المزبورة خصوصا بعد ملاحظة الشهرة العظيمة و الإجماعين المزبورين.

ثم أورد على ما نقلناه عن المختلف بأنه لا يخلو من نظر ضرورة عدم ظهور قوله: (جماعة) في إرادة القذف متعدّدا كي يتّجه التفصيل المزبور إلخ.

ثم إنّ في المسألة قولا ثالثا و رابعا ففي الفقيه و المقنع أنه إن قذف قوما بكلمة واحدة فعليه حدّ واحد إذا لم يسمّهم بأسمائهم و إن سمّاهم فعليه لكلّ رجل سمّاه

______________________________

[1] راجع المختلف ص 781 أقول: إنّ العلّامة لم يبيّن وجه كون خبر جميل أوضح طريقا و لكن قال الشهيد الثاني في المسالك: لأن في طريق الثاني- رواية حسن العطّار- أبان و هو مشترك بين الثقة و غيره و الحسن و هو ممدوح خاصّة انتهى.

[2] قال

في الرياض: لأنه أقرب و أنسب بالجماعة لا للقذف انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 203

حدّ و قال: روي أنه إن أتوا به متفرّقين ضرب لكلّ رجل منهم حدّ و إن أتوا به مجتمعين ضرب حدا واحدا.

و في الهداية عكس الأمر فأفتى بما جعله في الكتابين رواية و جعل ما أفتى به فيهما رواية.

و لكنّ الظاهر من الأخبار هو ما ذهب إليه المشهور.

في سبّ جماعة

قال المحقّق: و هل الحكم في التعزير كذلك؟ قال جماعة: نعم.

أقول: بعد وضوح الحكم بحسب الأخبار في موارد الحدّ يأتي البحث في أنه لو لم يقذف الجماعة بل سبّهم كأن قال الجماعة: أنتم فاسقون فهل الحكم بالتعزير هنا كالحكم بالحدّ هناك حتى ينتج أنه إن سبّ جماعة معا و بكلمة واحدة فإن أتوا به متفرّقين كان لكلّ واحد منهم تعزير و إلّا فللجميع تعزير واحد، أم لا؟

في المسألة قولان: أحدهما أنه مثله و هو المشهور، قال الشهيد الثاني في المسالك: المشهور بين الأصحاب أن حكم التعزير حكم الحدّ في التفصيل السابق فيتعدّد على فاعله إذا تعدّد سببه بألفاظ متعدّدة لجماعة بأن قال لكلّ منهم: إنّه فاسق مثلا و كذا مع اتّحاد اللفظ و مجيئهم به متفرّقين و يتّحد مع مجيئهم به مجتمعين.

ثانيهما: ما ذهب إليه ابن إدريس فإنّه قال في السرائر: و حكم تعريض الواحد بالجماعة بما يوجب التعزير بلفظ واحد أو لكلّ منهم بتعريض يخصّه ما قدّمناه في حكم القذف الصريح على ما اختاره شيخنا المفيد في مقنعة، و الأولى عندي أن يعزّر لكلّ واحد منهم فإنّه قد آلمه، و حمل ذلك على القذف الصريح في الجماعة بكلمة واحدة قياس لا نقول به و شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه

غير قائل بما قاله شيخنا المفيد رحمه اللّه في هذه الفتيا انتهى.

أقول: إنّ من المسلم أنه لم يرد في المسألة نصّ بالخصوص فحينئذ لا بدّ من الفحص عن الدليل على القولين.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 204

و قد استدلّ المشهور بالأولوية. بيانه أن تداخل الحدّ في باب القذف الثابت بالروايات يقتضي تداخل التعزير في باب السبّ بطريق أولى و ذلك لكون التعزير أضعف من الحدّ.

و قد تمسك ابن إدريس بما هو مقتضى القاعدة بعد اختصاص النص بباب القذف، و إسراء الحكم المنصوص الجاري في القذف بالنسبة إلى السبّ قياس عنده، و معلوم أن مقتضى القاعدة هو تعدّد المسبّبات بتعدد الأسباب، و التداخل خلاف الأصل و يحتاج إلى دليل.

قال المحقّق: و لا معنى للاختلاف هنا.

و الوجه في ذلك كما في الجواهر هو أن التعزير منوط بنظر الحاكم و ليس له بالنسبة إلى كلّ واحد حدّ محدود، فهو يؤدّب بما يراه، فإذا كان أمره بيد الحاكم قليلا أو كثيرا بل و عفوا و إيفائا فلا معنى للقول بأن حكمه حكم الحدّ.

أقول: إنّ فصل النزاع هو البحث في أن هذا التعزير هل هو حق اللّه أو حقّ الناس؟ فلو كان من حقوق اللّه لتمّ ما ذكره من أن أمره بيد الحاكم و لا معنى للاختلاف في الوحدة و التعدّد. أمّا لو كان من قبيل حقوق الناس بأن كان حقا للمسبوب كما أن حدّ القذف حقّ للمقذوف فلكلّ واحد من المسبوبين حقّ على السابّ و لا بدّ من القول بالتعدّد إلّا مع العفو عن ناحية صاحب الحقّ.

و يظهر من عبارة المحقق حيث حقّق أنه لا معنى للاختلاف هنا أنه يرى التعزير حقّ اللّه، فللحاكم الذي له ولاية

التعزير اختيار الأقلّ أو الأكثر و الزائد و الناقص بما يراه مصلحة، فربّما يعزّر لحقّ واحد أكثر ممّا يعزّر لحقّ متعدّدة و ربّما يعزّر لحقّ أشخاص متعدّدين بأقلّ ممّا يعزّر لحق شخص واحد فحينئذ لا معنى و لا وجه للاختلاف في أن اجتماع المسبوبين في المطالبة يوجب تداخل التعزير و وحدته أو لا. و أمّا لو كان من حقّ الناس فلا يجري هذا الكلام.

و قد أورد عليه في المسالك بأن ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا زاد عدد المسبوبين عن عدد أسواط الحدّ فإنّه مع الحكم بتعدّد التعزير يجب ضربه أزيد من الحدّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 205

ليخصّ كلّ واحد منهم سوطا فصاعدا. و على القول باتّحاده لا يجوز له بلوغ الحدّ بالتعزير مطلقا و قد يظهر الفائدة في طرف النقصان أيضا.

أقول: و هذه الثمرة أيضا منوطة بالبحث المزبور أعني كون التعزير حقّ اللّه أو حقّ الناس.

ثم إنّه قدس سره ذكر تقريبا للإلحاق: و لا نصّ على حكم التعزير. بخصوصه لكن تداخل الحدّ يقتضي تداخل التعزير الأضعف بطريق أولى «1».

أقول: إنّ الأولوية التي تمسّك بها في المقام لا تخلو عن كلام و ذلك لأن الأولويّة إذا كانت في مورد الإتيان به مجتمعين لكنها لا تجري فيما إذا كان الإتيان به متفرّقين.

يعني: إنّه يمكن أن يقال: إذا كان إتيان المقذوفين بالقاذف مجتمعين يوجب التداخل و الإكتفاء بحدّ واحد فإتيان المسبوبين بالسّاب كذلك يوجب الإكتفاء بتعزير واحد بالأولوية لكون موجب الحدّ أعظم ذنبا إلّا أن تعدّد الحدّ في باب القذف إذا كانوا قد أتوا به متفرّقين لا يدل على تعدّد التعزير إذا كان المسبوبون قد أتوا بالسّاب متفرّقين بل يحكم فيها بمقتضى القاعدة. لأنّه

ليس من قبيل «فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ» «2».

و لعلّ الأحسن تقريب الأولويّة و تقريرها بأنه إذا كان المجي ء به للمطالبة متفرّقا يوجب تداخل العقوبة في الذنب الأكبر و هي الحدّ فهو يوجب تداخل العقوبة في الأضعف و هي التعزير بطريق أولى [1]

______________________________

[1] أقول: الظاهر عدم ورود إشكاله دام ظله العالي على المسالك و ذلك لأنه لم يعتمد على الأولوية في فرضي الإتيان به مجتمعين و متفرقين حتى يورد عليه بذلك بل إنه تمسّك به في فرض الإتيان به مجتمعين للحكم بالتداخل فراجع عبارته قدس سره و هو دام ظله قد اعترف بصحة الأولويّة هنا.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 205

______________________________

(1) مسالك الأفهام ج 2 الافست ص 437.

(2) سورة الإسراء، الآية 23.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 206

ثم بناءا على عدم تماميّة الأولوية فحيث إنّ النص وارد في غير هذا المورد فلا بدّ في المقام من الجري على حسب القواعد من تعدد المسببات بتعدد الأسباب.

هذا بالنسبة إلى السبّ بكلمة واحدة و أمّا إذا كان السبّ متعددا بأن قذف جماعة واحدا بعد واحد فهو على حسب القاعدة فيكون لكلّ واحد منهم تعزير خاص.

قذف والدي المخاطب بلفظ واحد

قال المحقّق: و كذا لو قال: يا بن الزانيين، فإنّ الحدّ لهما و يحدّ حدّا واحدا مع الاجتماع على المطالبة و حدّين مع التعاقب.

أقول: و ذلك لأنّه لا فرق بين هذه الصورة و الصورة المبحوث عنها آنفا إلّا في أن المقذوف هناك كان جماعة و هنا اثنان حيث نسب الزنا إلى أب المخاطب و أمّه.

المسألة الثانية في إرث حدّ القذف

قال المحقق: حدّ القذف موروث يرثه من يرث المال من الذكور و الإناث عدا الزوج و الزوجة.

أقول: إن حدّ القذف ينتقل من المقذوف لو لم يستوفه و لا عفا عنه إلى من يرث منه المال سوى الزوج و الزوجة.

لكن لا يخفى أنه ليس على نحو إرث المال في توزيعه بما هو مقرّر في الكتاب

______________________________

و إنّي أظن أنه دام ظله اعتمد هنا على عبارة الجواهر حيث إنّ ظاهر نقل عبارة المسالك في الجواهر هو أنه يقول بكون التعزير في الفرضين كالحدّ فيهما بالأولوية فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 207

و السّنّة كقوله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» «1» بل لكلّ واحد من أولاده هذا الحق بحيث لو عفى عنه جميعهم سوى واحد منهم فإنّ له استيفاءه بتمامه لا بخصوص حصّته. ثم إنّه قد استدلّ على كونه موروثا بأمور:

الأوّل: الإجماع بقسميه عليه كما في الجواهر، و في المبسوط نسبة ذلك إلى أصحابنا.

الثاني: العمومات مثل كلما كان للميّت من مال أو حقّ فهو لوارثه. و إن كان يرد عليه أن عمومات الإرث غير وافية بالمطلب هنا لأنها لو دلّت لدلّت على كونه كإرث المال في خصوصيّاته.

الثالث: روايات خاصّة، منها: ذيل صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: و إن قال لابنه: يا بن الزانية و أمّه ميّتة و

لم يكن لها من يأخذ بحقّها منه إلّا ولدها منه فإنّه لا يقام عليه الحدّ لأن حق الحدّ قد صار لولده منها، فإن كان لها ولد من غيره فهو وليّها يجلد له و إن لم يكن لها ولد من غيره و كان لها قرابة يقومون بأخذ الحدّ جلد لهم «2».

و منها: خبر عمّار الساباطي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: لو أن رجلا قال لرجل: يا بن الفاعلة يعني الزنا و كان للمقذوف أخ لأبيه و أمّه فعفا أحدهما عن القاذف و أراد أحدهما أن يقدّمه إلى الوالي و يجلده أ كان ذلك له؟

قال: أ ليس أمّه هي أمّ الذي عفا؟ ثم قال: إنّ العفو إليهما جميعا إذا كانت أمّهما ميتة، فالأمر إليهما في العفو، و إن كانت حيّة فالأمر إليها في العفو «3».

نعم في بعض الروايات ما يوهم خلاف ذلك، و ذلك كخبر السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: الحدّ لا يورث «4».

______________________________

(1) سورة النساء الآية 11.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 208

و لكنّه قد حمل على أنه لا يورث كإرث الأموال فإنها تورث على نظام مخصوص و توزّع بين الورثة بصورة خاصّة بخلاف حدّ القذف فإنّه و إن كان ينتقل إلى من نفي عن الميّت و لكنه يكون لكلّ واحد من أولاده و أقربائه فهو في الحقيقة ولاية مخصوصة لكل واحد من الأولاد مثلا و بذلك يجمع بين القسمين من الأخبار.

كما يدلّ

على ذلك رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

سمعته يقول: إنّ الحدّ لا يورث كما تورث الدية و المال و لكن من قام به من الورثة فهو وليّه و من تركه فلم يطلبه فلا حق له و ذلك مثل رجل قذف و للمقذوف أخ (أخوان) فإن عفا عنه أحدهما كان للآخر ان يطلبه بحقّه لأنّها أمّهما جميعا و العفو إليهما جميعا «1».

و عندي أنه لا منافاة بين القسمين بل مفاد أحدهما أنه ينتقل هذا الحق إلى الأولاد مثلا و مفاد الآخر أنه ليس إرثا و لا تنافي بين هذين المفادين فإنّ الخبر المثبت لا يقول إنّه إرث و إنّما يفيد مجرد أن هذا الحق لهم جميعا و أنه ليس كحقّ الخيار الموقوف إعماله بعد الموت على طلب الجميع فالمصحّح لإطلاق الإرث عليه هو انتقاله إلى الورثة و الأرحام بلا فرق بين وقوع القذف بعد الموت أو في حياته و لم يستوف حتى مات.

ثمّ إنّ ذيل الخبر أي قوله عليه السلام: لأنّها أمّهما جميعا، قرينة على أن المقذوف كان هو الأمّ و إنّما نسب إلى الرجل مجازا.

ثمّ إنّه قد استثني كما أشرنا إليه من ذوي الميراث، الزوج و الزوجة و سائر ذوي الأسباب فإنّه ليس لهم هذه الولاية إلّا الإمام.

قيل في معنى إرث الإمام ذلك: إنّ له ولاية الاستيفاء دون العفو فإنّه ليس له ذلك، و قيل: إنّ له العفو أيضا إذا كان فيه مصلحة.

بقي البحث في أنه هل لمطلق الأقارب و الأرحام هذه الولاية أو أنّها لخصوص

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 209

الوارث منهم فإنّه لم يتّضح البحث

من هذه الناحية [1].

نقول: حيث إنّه لا تعرّض لذلك في الأخبار فلذا يحمل على كيفية الإرث بمقتضى قوله تعالى: «وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ» «1» فيتقدّم الطبقة الأولى على الثانية و هكذا و ذلك لا ينافي ما ورد من أنه ليس كإرث المال فإنّه متعلّق بكيفية التوزيع و التقسيم، و الأمر هنا ليس كذلك.

و أمّا الأشخاص القائمون بهذا الحقّ فحيث لم يبيّن هذه الخصوصيّة فيحمل على طبقات الوارثين فليس لغير الوارث من الأرحام هذه الولاية.

المسألة الثالثة في قذف ابن المواجه أو بنته

قال المحقّق: لو قال: ابنك زان أو لائط أو بنتك زانية فالحدّ لهما لا للمواجه فإن سبقا بالاستيفاء أو العفو فلا بحث و إن سبق الأب قال في النهاية: له المطالبة و العفو، و فيه إشكال لأن المستحق موجود و له ولاية المطالبة فلا يتسلّط الأب كما في غيره من الحقوق.

أقول: ما ذكره قدس سره على حسب القاعدة فإنّ المخاطب و المواجه و إن كان هو الأب إلا أن النسبة متعلقة للإبن أو البنت فلو سبقا إلى المطالبة و الاستيفاء أو العفو فهو فإنّ الحق لهما فيجوز الاستيفاء و العفو. و أمّا لو سبق الأب فقد سبق غير صاحب الحق فعلى القاعدة لا ينفذ ذلك خلافا للشيخ الطوسي قدس سره حيث صرّح بأن له الاستيفاء و العفو، قال في النهاية: إن قال: ابنك زان أو لائط، أو: بنتك زانية أو: قد زنت كان عليه الحدّ، و للمقذوف المطالبة بإقامة الحدّ عليه سواء كان ابنه أو بنته حيين أو ميّتين و كان إليه أيضا

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب دام ظله بما قرّرناه و لا يخفى أنه صرّح في المسالك بأن المطالبة للّذين يرثون ماله، و شبيه ذلك

في الخلاف هنا و في باب اللعان فراجع.

______________________________

(1) سورة الأنفال الآية 75.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 210

العفو إلّا أن يسبقه الابن أو البنت إلى العفو فإن سبقا إلى ذلك كان عفوهما جائزا انتهى «1».

و فيه أن المقذوف هو الابن أو البنت لا أبوهما و هو قدس سره قد أطلق المقذوف على الأب بشهادة قوله: سواء كان ابنه أو بنته حيّين أو ميّتين [1].

احتج الشيخ قدس سره كما في المختلف «2» بأن العار هنا لا حق للأب فكان له المطالبة بالحدّ.

و قد أجاب عنه العلّامة أعلى اللّه مقامه بالمنع من الملازمة. و نحن أيضا نقول:

بأن مجرّد أن العار لا حق له فهو لا يصحّح الإطلاق و إلّا فالعار متوجّه إلى سائر الأرحام و الأقارب أيضا.

ثم إنّه يرد عليه أيضا أنه لو قلنا إنّ الأب أيضا ذو حق فله أن يستوفي و أن يعفو، فلما ذا قال بعد ذلك بأنه إن سبق الابن أو البنت إلى العفو كان جائزا و نافذا؟ فإنّ هذا يفيد أنه ليس للأب حينئذ المخالفة، و الحال أنه لو كان هو أيضا صاحب الحقّ فعفوّ واحد من ذوي الحقوق لا يوجب سقوط حقّ الباقين بل له استيفاؤه جميعا كما تقدم ذلك فلو كان للإشكال الأوّل مفرّ بتسويغ إطلاق المقذوف على الأب فأيّ مفرّ عن هذا الإشكال؟.

و على الجملة فالظاهر أنه ليس على ما ذكره رحمه اللّه دليل يقوم به فإنّ الحقّ

______________________________

[1] أقول: إنّه أطلق عليه المقذوف مجازا، و المسوّغ هو ما ذكره المحقّق في نكت النهاية ج 3 ص 341 من أن الولد قطعة من الأب و جزء منه فكان قذف الولد جاريا مجرى قذف الوالد.

هذا مضافا إلى ورود

هذا الإيراد في موثّق الساباطي حيث قال: و ذلك مثل رجل قذف رجلا و للمقذوف أخوان فإن عفى أحدهما عنه كان للآخر أن يطالبه بحقّه لأنها أمّهما جميعا فمع أن المقذوف كان هو الأمّ بقرينة التعليل فقد أطلق على المواجه، المقذوف، و المصحح ما ذكرناه، و قد أوردت ذلك في مجلس الدرس أيضا.

______________________________

(1) النهاية ص 724.

(2) المختلف ص 780.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 211

متعلّق بالإبن أو البنت لا بالأب كي يستوفي أو يعفو.

ثم إنّه استدرك في الجواهر بقوله: نعم له الاستيفاء إذا فرض ولايته عليها على وجه لا يصلحان لاستيفائه كما إذا كانا صغيرين و ورثاه بل لا يبعد أن له العفو أيضا مع عدم المفسدة للإطلاق و إن استشكل فيه بعض انتهى.

أقول: المقصود من الإطلاق إطلاق أدلّة الولاية.

ثم أقول: إنّ ولاية الأب على الصغير ولاية مشترطة برعاية المصالح فعفوه موقوف على أن يكون في ذلك مصلحة للصغير كما إذا كان بحيث يخاف عليه من ناحية القاذف بأن يضربه أو يضرّ به و أمّا بدون ذلك فليس له ذلك هذا أوّلا و أمّا ثانيا فلأنّ غاية التقريب في ذلك هو أن له استيفاء الحدّ من القاذف لأنّه حق للصغير و حيث لا يمكنه الاستيفاء فالأب يتولّى ذلك الحقّ الذي ورثه و انتقل من أمّه إليه فيطالب بحقّ الصبي الذي يتولى أمره و الحال أن هذا خلاف ما هو المستفاد من رواية فضيل بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: لا حدّ لمن لا حدّ عليه «1» فإنّها بإطلاقها تدلّ على أن من لا يحدّ عليه إذا قذف أحدا لعدم كونه مكلفا فلا يحدّ أحدا و لا يحكم بأن له حقّ الحدّ

سواء كان لنفسه أو لغيره و ذلك لأن الملاك و العلّة في عدم كون الحقّ له هو أنه لا يقام عليه الحدّ إذا قذف، لعدم كونه مكلّفا و هذه العلّة موجودة و هذا الملاك محقق في ما إذا كان الحدّ للأمّ و أريد انتقاله إليه بل و يمكن أن يقال: إذا لم يكن قذف الغير له بنفسه موجبا لحقّ له على القاذف و ليس له أن يقيم عليه الحد فقذف أمّه لا يوجب صيرورته ذا حقّ بالأولوية و لا يكون له على القاذف حدّ بطريق أولى حتّى يكون لأبيه إجراء هذا الحدّ.

و لمزيد الوضوح و تحقيق المطلب نقول: إنّ الإمام عليه السلام فسّر اللّام و أنه أعمّ من كونه له ابتداء أو إرثا فإليك رواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل قذف ابنه بالزنا قال: لو قتله ما قتل به و إن قذفه لم يجلد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من مقدّمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 212

له. قلت: فإن قذف أبوه أمّه؟ قال: إن قذفها و انتفى من ولدها تلاعنا و لم يلزم ذلك الولد الذي انتفى منه و فرّق بينهما. و إن قال لابنه: يا بن الزانية و أمّه ميّتة و لم يكن لها من يأخذ بحقّها منه إلّا ولدها منه فإنّه لا يقام عليه الحدّ لأن حقّ الحدّ قد صار لولده منها. «1».

ترى أنه عليه السلام علّل عدم إقامة الحدّ على القاذف بأن حقّ الحدّ قد تحوّل من الأمّ إلى الابن و حيث إنّ الوالد لا يجلد في ولده فلا يجوز جلد الأب فقد ظهر من هذه العلّة أنه لا

فرق في تحقّق معنى النفع المستفاد من اللام بين كونه له شخصا و ابتداء أو إرثا و انتقالا من غيره إليه فكما لا يجوز للإبن أن يجلد أباه لحقّه الشخصي بأن كان الأب قد قذفه بنفسه كذلك لا يجوز له أن يجلده لحقّه الإرثي كما إذا قذف الرجل روجته الميّتة و كان ولده منها أراد الاستيفاء فإنّه لا يجوز ذلك.

و تعبيره عليه السلام بصيرورته له يراد به أنه صار له لو لا المانع و هو هنا الأبوة و البنوّة.

و حينئذ نرجع إلى البحث في المقام و هو ما إذا قذف الابن أو البنت مع كونهما صغيرين الذي قال صاحب الجواهر بأن للأب استيفاء حقّهما إذا كانا صغيرين و نقول: بأن مقتضى ما ذكرناه هو أن من لا حدّ عليه إذا قذف أحدا لصغره مثلا فليس له حقّ الحد على من قذفه سواء كان الحق شخصيّا بأن صار بنفسه مقذوفا، أو إرثيا كما إذا قذفت أمّه و ماتت بلا استيفاء أو عفو، و كما أنه في الموارد الأوّل ليس للصغير حقّ الحدّ على ما اعترف به صاحب الجواهر فكذلك في الثاني، فإنّه أيضا حدّ له بشهادة رواية ابن مسلم، و عليه فليس له حقّ الحدّ حتى يكون للأب حقّ الاستيفاء أو العفو ولاية على الصغيرين فإنّ مقتضى الرواية المزبورة هو ان الحدّ الذي ينتقل إلى الطفل أيضا يعدّ حدّا له، و قد دلّت رواية الفضيل على أن من لا يقام عليه الحدّ لعدم كونه مكلّفا فليس له حقّ الحدّ على غيره حتى يستوفي منه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 213

المسألة الرابعة في عدم سقوط الحدّ بعفو بعض الورثة

قال المحقّق:

إذا ورث الحدّ جماعة لم يسقط بعفو البعض فللباقين المطالبة بالحدّ تامّا و لو بقي واحد، أمّا لو عفى الجماعة أو كان المستحق واحدا فعفا فقد سقط الحدّ.

أقول: إنّ سقوط الحدّ بالعفو عنه منوط بعفو جميع من له هذا الحق فلا يتقسّط هذا الحق فلا أثر لعفو البعض. و السّر في ذلك أنه ليس كإرث المال حتّى يكون لكلّ واحد من الورثة منه بحسابه، بل هو مجرّد الولاية، و حيث إنّها ثابتة للجميع فلكل واحد منهم إعمال هذه الولاية و مطالبة هذا الحق.

و قد ادّعى في الجواهر على ذلك عدم خلاف يجده، بل عن الغنية الإجماع عليه.

و يدلّ عليه أيضا موثّق عمّار الساباطي عن الصادق عليه السلام المذكور آنفا فإنّ فيه التصريح بأن من تركه لا حقّ له و من قام به يكون هو وليّه و أنه إذا قذف امرأة ميّتة فعفى واحد من ابنيها كان للآخر أن يطالبه بحقّه و علّل ذلك بأنها أمهما جميعا، فكما أنها أمّ للعافي فهي أمّ للمطالب، و في الآخر صرّح بأن العفو إليهما جميعا «1». و أمّا نفوذ العفو إذا كان قد عفا الجميع أو كان المستحقّ واحدا غير متعدّد ففي الجواهر: بلا خلاف و لا إشكال ضرورة كونه من حقوق الآدميّين القابلة للسقوط بالإسقاط و غيره انتهى.

و يدلّ على ذلك خبر ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه السلام قال:

لا يعفى عن الحدود الّتي اللّه دون الإمام فأمّا ما كان من حقّ الناس في حدّ فلا بأس أن يعفا عنه دون الإمام «2».

نعم ليس له المطالبة بعد العفو كما يدلّ على ذلك خبر سماعة بن مهران عن أبي

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب حدّ

القذف ح 1 و 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من مقدّمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 214

عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الرجل يفتري على الرجل فيعفو عنه ثم يريد أن يجلده بعد العفو قال: ليس له أن يجلده بعد العفو «1».

و مثله روايته الأخرى عن الصادق عليه السلام «2».

ثمّ إن مقتضى إطلاق الروايتين- موثقة سماعة و خبر ضريس- عدم الفرق بين وقوع العفو قبل المرافعة أو بعدها و لا بين الزوجة و غيرها فكما أنه لو قذف أجنبيّة و قد عفت عنه يسقط عنه الحدّ كذلك لو قذف زوجته و عفت هي، بلا فرق بينهما أصلا و ذلك لما مرّ من الإطلاق، و عدم الخلاف فيه. مع أنه موافق للقاعدة لأنّه حقّ للآدميين القابل للسقوط مع الإسقاط.

نعم خالف في ذلك الشيخ الطوسي في التهذيب و الإستبصار، و كذا يحيى بن سعيد و ذلك لخبر محمّد بن مسلم: قال سألته عن الرجل يقذف امرأته قال:

يجلد. قلت: أ رأيت إن عفت عنه؟ قال: لا و لا كرامة «3».

قال الشيخ قدس سره في التهذيب بعد نقل هذه الرواية: هذا الخبر لا ينافي خبر سماعة الذي يتضمّن جواز العفو لأن هذا محمول على أنه ليس لها إلّا العفو بعد رفعها إلى السلطان و علمه به، و إنّما كان لها العفو قبل ذلك على ما نبيّنه فيما بعد إن شاء الله انتهى كلامه رفع مقامه.

و قال ابن سعيد الحلّي: و إن رمى زوجته بالزنا بولد على فراشه فلاعنها ثم اعترف، أو أقر بالولد ثم رماها بالزنا به، أو قذفها بالزنا فلا عنها ثم اعترف بكذبه حدّ (ثم قال:) و لا عفو

عن الحدّ بعد الرفع إلى الإمام و يجوز قبله [1].

______________________________

[1] جامع الشرائع ص 565 أقول: و قد نقلت متن عبارته ليعلم أنه يمكن أن يكون مراده المطلق دون خصوص الزوجة إلا أن يكون ذكر المطلب بعد البحث عن الزوجة قرينة على إرادة المقيّد و فيه إنّه قال بعد أسطر بالنسبة إلى قذف المكاتب: فإن وهبه الحدّ قبل الرفع جاز.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 21 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من مقدّمات الحدود ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب حدّ القذف ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 215

و قد أورد صاحب الجواهر على الشيخ قدّس سرّهما (في حمله خبر ابن مسلم على ما بعد المرافعة) بعدم الشاهد له و أن المتّجه على تقدير العمل به هو تخصيصه أو تقييده إطلاق ما دلّ على العفو.

أقول: إنّ ما ذكره جيّد فإنّ ما دلّ على جواز العفو و نفوذه عامّ أو مطلق فيخصّص أو يقيّد بخصوص مورد عفو الزوجة لزوجها الذي قذفها، و لذا أفتى الصدوق في المقنع على طبقه مطلقا فقال: و إذا قذف الرجل امرأته فليس لها أن تعفو عنه. هذا مضافا إلى عدم صراحة الرواية في عدم جوازه و نفوذه و إن كان مقتضى قوله عليه السلام: (لا) هو ذلك إلّا أن تعقيب ذلك بقوله: (و لا كرامة) يضعّف هذا الظهور و ينقّصه و لعلّه يكون قرينة على إرادة الكراهة و التنزيه دون الإلزام و التحريم خصوصا بلحاظ كونها مضمرة و معرضا عنها عند المشهور، و على هذا فيجوز العفو مطلقا.

نعم هنا خبران أمكن عنده تأييد ما ذكره الشيخ بهما:

أحدهما: خبر

سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من أخذ سارقا فعفى عنه فذلك له فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الذي سرق له: أنا أهبه له لم يدعه إلى الإمام حتّى يقطعه إذا رفعه إليه و إنّما الهبة قبل أن يرفع إلى إمام و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ الْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اللّٰهِ»، فإذا انتهى الحد إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه «1».

ثانيهما: خبر حمزة بن حمران عن أحدهما عليهما السلام قال: سئلته عن رجل أعتق نصف جاريته ثم قذفها بالزنا قال: قال: أرى عليه خمسين جلدة و يستغفر اللّه عزّ و جلّ. قلت: أ رأيت إن جعلته في حلّ و عفت عنه؟ قال:

لا ضرب عليه إذا عفت عنه من قبل أن ترفعه «2» و مع ذلك فقد أورد قدس سره عليهما بقوله: إلا أنه مع كون الثاني منهما بالمفهوم غير جامعين لشرائط الحجيّة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من مقدّمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 216

أقول: يعني في قبال الروايات الدّالّة بالمنطوق على جواز العفو مطلقا، و لا شكّ في أن دلالة المنطوق الدّالّ على الجواز أقوى من دلالة المفهوم الدّال على عدم جواز العفو بعد الرفع فإنّه ضعيف. هذا. و كذا هما غير جامعين لشرائط الحجيّة- لضعف الروايتين سندا [1]- خلافا لما دلّ على الجواز على ما تقدّم.

ثم إنا نزيد على ما ذكره أن الرواية الأولى متعلّقة بباب السرقة دون القذف الذي هو محلّ الكلام.

و إن كان ربما يتوهّم أن قوله عليه السلام: إنما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام

إلخ يشعر بالتعميم و إرادة مطلق الحدّ و إن لم يكن حدّ السرقة إلّا أنه بعد تفصيل الإمام أبي جعفر عليه السلام في خبر ضريس المذكور آنفا بأنه لا يعفى عن الحدود التي للّه سوى الإمام و أمّا ما كان من حقوق الناس فلا بأس بأن يعفا عنه غير الإمام، فلا بدّ من أن يكون المراد هو هذا الحدّ أي حدّ السرقة الذي هو من حقوق اللّه تعالى. فهذا الخبر يدل على عدم جواز العفو في حقوق اللّه تعالى و إن كان بظاهره يفيد العموم لكن لا بدّ من الحمل على ذلك و المخصّص هو خبر ضريس، و النتيجة أنه إذا انتهى الحدّ إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه إذا كان حقّ اللّه سبحانه، و أين هذا من العفو عن حد القذف الذي هو حقّ الناس.

هذا مضافا إلى ما في متن الخبر الأخير من إيجاب خمسين جلدة عليه فإنّه لا يلائم ما هو المقرّر من أن حدّ القذف ثمانون فنصفه يكون أربعين و المفروض في الرواية هو عتق نصف الجارية المقذوفة فكيف يلزم جلد خمسين، و قد تقدم توجيه ذلك بأنه إمّا أن يكون العشرة الزائدة من باب التعزير أو أن المراد من النصف قسم منها و هو خمسة أثمانها، كما ذكره الشيخ قدس سره فقد أريد بالنصف معناه المجازي.

و كيف كان فالحق ما هو المشهور من جواز العفو مطلقا بلا فرق بين الزوجة و غيرها.

______________________________

[1] فإنّ سماعة بن مهران واقفي على ما نقل عن الصدوق، و حمزة بن حمران لم تثبت وثاقته و صرّح في مرآة العقول ج 23 ص 319 بأنه مجهول.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 217

لمستحقّ الحدّ المطالبة و العفو مطلقا

قال المحقّق: و

لمستحقّ الحدّ أن يعفو قبل ثبوت حقّه و بعده و ليس للحاكم الاعتراض عليه و لا يقام إلا بعد مطالبة المستحق.

أقول: وجه ذلك قد اتّضح من الأبحاث المتقدّمة و أن حدّ القذف من حقوق الناس فراجع.

المسألة الخامسة في ثبوت القتل في الثالثة مع تكرر حدّ القذف مرّتين

قال المحقّق: إذا تكرّر الحدّ بتكرّر القذف مرّتين قتل في الثالثة و قيل في الرابعة و هو أولى.

أقول: حيث إنّ القذف من الكبائر و قد ثبت أن أصحاب الكبائر يقتلون في المرّة الثالثة إذا أقيم عليهم الحدّ مرّتين، فعلى هذا لو قذف مرّة و أقيم عليه الحدّ ثم عاد و قذف ثانيا و أجري عليه الحدّ أيضا ثم عاد إليه ثالثا فهناك يحكم بقتله.

و الذي يدلّ على الكبرى هو صحيح يونس عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلّها إذا أقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة «1».

نعم إنّ الصحيح المزبور قد خصّص بباب الزنا فيقتل في الرابعة لخبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام، و خبر محمّد بن سنان عن الرضا عليه السلام «2» و قد مرّ البحث في ذلك سابقا «3» و حيث أن المخصّص بباب الزنا فقد أفتوا في باب القذف بقتل القاذف في الثالثة عطفا على سائر الكبائر و اقتصارا في التخصيص و الاستثناء على القدر المنصوص عليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 2 و 3.

(3) راجع الدّر المنضود بقلم هذا العبد ج 1 ص 339 و 340.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 218

و أمّا وجه كون القتل هنا في الرابعة أولى كما في عبارة المحقّق و أحوط كما في عبارة

بعض آخر فهو أن القذف في حول باب الزنا و ليس بمعزل عنه بل هو من مناسباته فمراعاة حقّ الدماء تناسب تأخير قتله إلى الرابعة. و على الجملة فحيث يحتمل الإلحاق بالزنا الذي ورد النصّ المعتبر بأنه يحدّ في الرابعة فيكون الأولى قتل القاذف في الرابعة كما أن ذلك هو الأحوط.

و في الجواهر (بعد ذكر أنه أولى و أحوط): لو لا الصحيح- و مراده من الصحيح هو صحيح يونس المذكور آنفا. ثم قال: اللهمّ إلّا أن يكون من الشبهة باعتبار احتمال إلحاقه بما دلّ عليه في الزناء الذي هو أولى منه انتهى.

تقريب هذه الأولويّة أنه إذا كان الزنا مع تلك الأهميّة البالغة بين المعاصي، لا يقتل مرتكبه في المرة الثالثة فكيف بمن لم يزن و إنّما نسب أحدا إلى الزنا فهو أولى بأن لا يقتل في الثالثة بل يؤخر إلى الرابعة. فيكون المقام نظير: «فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ» «1» الدّال على تحريم ضرب الوالدين بالأولويّة.

فيما لو حكم القاذف ثانيا بصحّة ما قذفه به أوّلا

قال المحقّق: و لو قذف فحدّ فقال: الذي قلت كان صحيحا وجب بالثاني التعزير لأنه ليس بصريح.

أقول: لا نزاع في أنه إذا قال لأحد: أنت زان، مثلا ثم بعد ذلك عاد إليه و قال له: الذي قلت كان صحيحا، مثلا فهو لا يوجب حدّا جديدا و إنما الموجب للحدّ هو قوله الأوّل إلّا أن البحث و النزاع في الدليل على ذلك.

فاستدل المحقّق له بعدم صراحة اللّفظ الثاني و قد تقدّم منه في أوّل أبحاث القذف اعتبار الصراحة فيه و أن التعريض لا يوجب إلّا التعزير.

في حين أن صاحب الجواهر قد أنكر ذلك و صرّح بأن ذلك لصحيح محمّد بن

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية 22.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص:

219

مسلم و يمكن أن يستفاد من عبارته أن اللفظ المزبور لعلّه يكون صريحا، فالمانع ليس من هذه الناحية بل من جهة التعبّد.

فلو كان النزاع بين العلمين في الصّراحة و عدمها فالظاهر هو ما أفاده المحقّق، و ذلك لأن القاذف لم يقل في المرّة الثانية: أنت زان مثلا حتى يكون لفظا صريحا في القذف بل إنّه ألقى كلمة تلازم ذلك فهي قذف بلازمها لا بصريحها.

أما لو كان نظر صاحب الجواهر إلى إنكار صراحته و الاعتراف بظهوره طبقا لما ذهب إليه سابقا من كفاية الظهور في القذف، فالحق معه، و على هذا يؤول الأمر إلى أنه و إن كان هذا اللفظ ظاهرا في القذف و هو يقتضي أن يترتّب عليه الحدّ إلّا أن الرواية تمنع عن ذلك و هي:

محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في الرجل يقذف الرجل فيجلد فيعود عليه بالقذف فقال: إن قال له: إنّ الذي قلت لك حقّ، لم يجلد و إن قذفه بالزنا بعد ما جلد فعليه الحدّ و إن قذفه قبل ما يجلد بعشر قذفات لم يكن عليه إلّا حدّ واحد «1». و الفرض الأوّل من الرواية هو عين محلّ البحث و قد صرّح الإمام عليه السلام فيه بأنه لم يجلد.

و الحقّ أن مفاد الرواية ليس هو الحكم بعدم الحدّ مع مفروغيّة الصراحة أو الظهور الملحوظ في باب القذف حتّى يكون الحكم على خلاف المتعارف و مبنيّا على التعبّد المحض بأن يكون خصوص هذا الكلام موجبا للتعزير و إن كان قذفا بل المراد أنه ليس من باب القذف تخصّصا فلا يترتّب عليه الحدّ بالطبع.

فرع آخر

و هنا فرع آخر يشبه الفرع المذكور و إن لم يكن مذكورا في كلماتهم و

هو أنه لو قال القاذف: أنت زان، و قال ثالث للمقذوف: إنّ الذي قاله فلان حقّ أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 220

صحيح، فإذا كان الظاهر من الصحيحة عدم كون الكلام المزبور قذفا فإنّه يجري الحكم المذكور في فرض الرواية، في هذا الفرض أيضا، و على الجملة فالمثالان نظير باب التعريض الذي لا يترتّب عليه الحدّ على ما تقدّم.

القذف المتكرر

قال المحقّق: و القذف المتكرّر يوجب حدّا واحدا لا أكثر.

أقول: و يدلّ على ذلك ذيل صحيحة محمد بن مسلم المذكورة آنفا حيث قال: و إن قذفه قبل أن يجلد بعشر قذفات لم يكن عليه إلّا حدّ واحد. هذا مضافا إلى أنه بعينه نظير موجبات الغسل أو الوضوء حيث إنّ غسلا واحدا أو وضوءا واحدا يكفي لإحداث متعدّدة قال في الجواهر: و لصدق موجب الرمي و إن تعدّد.

و قال قدس سره بعد ذلك: نعم لو تعدّد المقذوف تعدّد الحد لكلّ واحد منهم.

ثم قال: بل لو تعدّد المقذوف به للواحد كأن قذفه مرّة بالزنا و أخرى باللواط و ثالثة بأنه ملوط به ففي كشف اللثام: عليه لكلّ قذف حدّ.

أقول: إنّ كاشف اللثام بعد أن حكم بأنه لو كرّره بعد الحدّ حدّ ثانيها و ثالثها و هكذا لعموم، «الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ»، و الأخبار. قال: و كذا إذا اختلف المقذوف به و إن اتّحد المقذوف كأن قذفه مرة بالزنا و أخرى باللواط و أخرى بأنه ملوط به فعليه لكلّ حدّ و إن لم يتخلل الحدّ فإنّ الإجماع و النصوص دلّت على إيجاب الرمي بالزنا الحدّ ثمانين اتّحد أو تكرّر و كذا الرمي باللواط و كذا

بأنه ملوط به و لا دليل على تداخلها انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: تعدّد القذف تارة يكون مع اتّحاد المقذوف به و أخرى مع تعدّده، و لا شكّ في تداخل الأسباب في الصورة الأولى على ما مرّ بيانه و أنه صريح ذيل الصحيحة كما أنّها صرّحت بتكرّر الحدّ مع تخلّل الحدّ.

و أمّا الصورة الثانية و هي ما إذا تعدد المقذوف به فإن تخلّل الحدّ بينها فالحكم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 221

واضح و أمّا بدون ذلك فيمكن إلحاقها بالفرض المذكور في ذيل الصحيحة، و يحكم فيها بعدم تكرار الحدّ و ذلك بأن يقال: إنّ القذفات المتكررة المتعدّدة كأسباب الوضوء و الغسل، العديدة لا يزيد بالثاني منها على ما حدث بالأوّل شي ء فالوضوء مثلا قد انتقض بالحدث الأوّل و كذا بالنسبة إلى الغسل، و كذلك الأمر بالنسبة إلى الخبث فالملاقاة للبول في المرّة الأولى أوجبت نجاسة الملاقي و أمّا المرّات المتعاقبة المتأخّرة فلا تؤثّر شيئا.

نعم فيما إذا كانت الأسباب متفاوتة الأثر شدّة و ضعفا فلا محالة تتقدّم الكيفيّة الشديدة و يكون التقدّم مع الأثر الأقوى كما لا يخفى.

و يمكن القول بعدم إلحاقه به فيحكم بتعدّد الحدّ على حسب تعدّد السبب بأن يقال: إنّ التداخل خلاف القاعدة فإنّ كلّ سبب يطالب مسبّبا مستقلّا و إنّما خرج مورد بالنص فالباقي باق تحت عموم القاعدة، و الرمي إلى الزنا شي ء و إلى اللّواط شي ء آخر و هو فاعلا غيره مفعولا فلا وجه لتداخل تلك الأسباب المختلفة و إلى ذلك كان نظر كاشف اللثام.

و لكن لعلّ الظاهر هو الاحتمال الأوّل و ذلك لصدق القذف و رجوع الجميع إلى اسم القذف، و الرمي بالزنا في الصحيح و إن كان

مذكورا في كلام الإمام عليه السلام دون الراوي إلّا أن الظاهر كونه بملاك الرمي و القذف المحقّق في القذف باللواط أيضا مطلقا و لا خصوصيّة بحسب الظاهر للقذف بخصوص الزنا في هذا الحكم.

و بعبارة أخرى: إنّ الآثار قد تكون آثارا لصرف وجود الشي ء و قد تعتبر آثارا للأفراد و الماهيّة ففي الضمانات يكون الأمر على النحو الثاني، فإذا أتلف من مال الغير عشر مرات فعليه ضمان كلّ واحد بنفسه و لا مورد للتداخل أصلا بخلاف باب النجاسة و الطهارة فإنّ طهارة واحدة كافية عن الأحداث المعدّدة، و الظاهر أن مورد البحث من هذا القبيل فالحدّ كالمطهّر كما أن القذف كقذارة باطنيّة للإنسان، و يستظهر ذلك من صحيح ابن مسلم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 222

و على الجملة فيتداخل الحدّ فيما إذا تعدّدت النسبة و المقذوف به كلاهما و لا أقلّ من طروّ الشبهة الدارئة للحدّ فيقتصر على حدّ واحد.

المسألة السادسة في عوامل سقوط الحدّ عن القاذف

قال المحقّق: لا يسقط الحدّ عن القاذف إلّا بالبينة المصدّقة أو تصديق مستحقّ الحدّ أو العفو و لو قذف زوجته سقط الحدّ بذلك و باللّعان.

أقول: حيث إنّه قد جعل اللّه تبارك و تعالى الحدّ على رمي المحصنات فبعد ثبوت الرمي بالنسبة إلى امرأة تكون بحسب الظاهر محصنة أو رجل محصن، استحقّ المقذوف مطالبة حدّ القاذف. فهنا نقول إنّه بعد ثبوت القذف لا يسقط الحدّ عنه إلّا بأمور:

1- البيّنة المصدّقة [1] للقاذف في فعل ما قذفه به و على وقوعه منه.

2- تصديق المقذوف القاذف على ما نسبه إليه من الموجب للحدّ، و إن شئت فقل: إقرار المقذوف بما رماه القاذف به و لو مرّة واحدة مع أن الإقرار مرّة واحدة لا يوجب ثبوت العمل، و

وقوع الفعل بل ذلك يحتاج إلى أربع مرّات كما في الشهود، إلّا أنه يكتفى به في سقوط الحدّ عن القاذف.

3- عفو المقذوف عنه كما تقدّم البحث في ذلك آنفا.

4- اللعان في خصوص مورد قذف الرجل زوجته فإنه يسقط به الحدّ عن الزوج القاذف ففي مورد قذف الرجل لزوجته تجري الأربعة كلّها و في سائر

______________________________

[1] أقول: المذكور في بعض المتون هو البيّنة المصدّقة فيمكن أن يكون المراد منها البيّنة الّتي تصدّق القاذف كما أنه يمكن أن يراد منها: البيّنة الّتي صدّقها الشارع و أنفذها و هي البيّنة الّتي يثبت بها الزناء، فعلى الأوّل يقرء مكسورا و على الثاني مفتوحا فراجع شرح الإرشاد للمحقّق الأردبيلي قدس سره.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 223

الموارد تجري الثلاثة الأول و لا يجري فيها اللعان [1].

و هنا بحث و هو أنه هل عدم الحدّ هنا من باب سقوط ما ثبت بأن كان الحدّ ثابتا، لكون المقذوفة مثلا من المحصنات، أو أنه من باب عدم الثبوت و الجعل أصلا لعدم كونها من المحصنات الّتي يوجب رميهنّ الحدّ؟.

الظاهر هو الثاني و ذلك لأن موضوع ثبوت حدّ القذف هو رمي المحصنات فمن قذف من كان ظاهره العفّة حكم عليه بحدّ القذف.

و بعبارة أخرى: إنّ الملاك هو قذف المتستّر الذي يأبى عن إظهار القبائح فإذا قذف القاذف أحدا فما لم يقم البيّنة مثلا يعتبر المقذوف عفيفا متستّرا فكان يجب على قاذفه الحدّ إلّا أنه بعد ما قامت البيّنة المعتبرة أي أربعة شهود على الزنا، أو أقرّ هو بنفسه يظهر الخلاف و يعلم أنه لم يكن كذلك أي عفيفا متستّرا فلم يكن القذف قذف المتستّر فلم يكن في الواقع و نفس الأمر حدّ

أصلا على القاذف و إنّما كان عليه الحدّ بحسب الظاهر، و على هذا فليس السقوط بمعناه المعروف.

نعم بالنسبة إلى العفو لا كلام أصلا فإنّ العفو هو إزالة ما ثبت و رفع ما تحقّق و وقع بحسب الواقع و في نفس الأمر، فالتعبير بالسقوط هناك في محلّه لأن الحدّ كان ثابتا و إنّما ازاله عفو المقذوف.

و على الجملة فيمكن أن يقال بأن حكم القذف هنا نظير الحكم بالصلاة في

______________________________

[1] و هنا أمور أخر يوجب سقوط حدّ القذف فنقول بالضميمة إلى ما في المتن:

5- الصلح عنه بشي ء.

6- انتقال الحقّ من المقذوف إلى القاذف بالإرث و قد أوضحه في مناهج اليقين بالعبارة المذكورة بعد إجماله في الجواهر ثم قال المامقاني رضوان اللّه عليه في المناهج: و في سقوطه بموت الزوجة تأمّل نعم سقوطه مع انحصار الوارث في الزوج لا يخلو من وجه.

و قال في الغنية: و لا يسقط حدّ القذف بالتوبة على حال و إنّما يسقط بعض المقذوف أو وليّه من ذوي الأنساب خاصّة انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 224

الثوب المحكوم بالطهارة مع الجهل بنجاسته حيث إنّه إذا انكشف كونه نجسا فإنّه لم ينكشف الخلاف بالنسبة إلى ما مضى بل تغيّر الحكم من هذا الحين لأن بطلان الصلاة مترتّب على النجس المعلوم. ففي المقام يكون النسبة إلى الزنا بدون الإتيان بالأربع موجبة للحدّ مع الجهل بوقوعه فإذا قامت البيّنة أو أقرّ المقذوف بالفعل فمن هذا الحين ينقطع الحكم بالحدّ.

و هذا بخلاف أن يقال إنّ الموضوع للقذف هو مورد التستّر و إن كان القاذف عالما بينه و بين اللّه بزناه فإنّه لم يكن له إظهار ذلك فإذا قامت البيّنة أو اعترف المقذوف فإنّه ينكشف بذلك

أن الموضوع لم يكن حاصلا و أنه كان يتخيّل كون الزاني متستّرا و عليه فمن أوّل الأمر لم يكن الموضوع محقّقا و لم يكن الحكم بالحدّ بالطبع ثابتا و إنّما كان ذلك بحسب الظاهر فكأنّ نسبة الزنا إلى غير الزاني و الزانية موجبة للحدّ، و البيّنة كاشفة عن أنه كانت زانية مثلا، و كذا بالنسبة إلى الإقرار و إنّما كان بحسب الظاهر يتخيّل أنّها كانت محصنة يترتّب على قذفها الحدّ. فعلى الأوّل يتمّ التعبير ب (يسقط) و هذا هو الوجه في تعبير العلماء كذلك و أمّا على الوجه الثاني فلا وجه للتعبير به لأنه في الواقع لم يكن حتّى يسقط.

و كيف كان فلا يقام على القاذف حدّ القذف في الموارد الأربعة.

و هل يعزّر بعد سقوط الحدّ عنه؟

بقي الكلام هنا في أنه هل يعزّر القاذف بعد أن سقط عنه الحدّ أو أنه يسقط عنه التعزير أيضا فليس عليه شي ء؟ وجهان.

فمن أن الثابت عليه كان هو الحدّ و قد سقط بأحد هذه الأمور و لا دليل على ثبوت التعزير عليه بعد ذلك فليس عليه التعزير.

و من أن ثبوت المقذوف به بالبيّنة أو الإقرار لا يجوّز القذف و إن جوّز إظهاره عند الحاكم لإقامة الحدّ عليه، و العفو و اللعان أيضا لا يكشفان عن إباحته و لا يسقطان إلّا الحدّ فيلزم أن يعزّر على ما ذكروه من ثبوته في كلّ كبيرة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 225

و قد ذكر الوجهين في كشف اللثام و اقتصر على ذلك فلم يرجّح واحدا منهما و لا اختار شيئا من مقتضاهما.

نعم قوّى صاحب الجواهر الأوّل منهما فإنّه قال بعد ذكر الوجهين: و لعلّ الأوّل لا يخلو عن قوّة.

و هو كذلك لأن أدلّة الحدّ ظاهرة في

أن المرتكب لموجبات الحدّ ليس عليه إلّا الحدّ و مقتضاها تخصيص ما دلّ على وجوب التعزير على كلّ معصية، و استثناء تلك الكبائر التي جعل الشارع عليها الحدّ. و كأنه قيل، كلّ من فعل محرّما يعزّر إلّا إذا أتى بالزنا أو القذف أو السرقة أو غير ذلك من أسباب الحدّ فإنّه لا تعزير عليه و إنّما يجب حدّه بالمقدار المقرّر في تلك الموارد، غاية الأمر أنه قد حدث ما أوجب سقوط هذا الحدّ في المقام فكيف يحكم بالتعزير [1].

و كأنه قد جعل الحدّ في تلك الموارد بدلا عن التعزير و ليس التعزير فيها مجعولا كما يشهد بذلك سيرة أمير المؤمنين عليه السلام بل و سيرة المسلمين في طول الأعصار حتّى الخلفاء، فلم يكونوا يجمعون بين الحدّ و التعزير في معصية واحدة و لم يسمع إلى الآن أن سارقا قد قطعت يده حدّا للسرقة و عزّر هو للحرمة مثلا.

نعم قد يجمع بينهما لجهة أخرى مثل وقوع العمل منه في مكان كذا أو زمان كذا

______________________________

[1] أقول: و يحتمل التفصيل بين الموارد الأربعة. قال: في الروضة ج 2 ص 348 و سقوط الحدّ في الأربعة لا كلام فيه لكن هل يسقط مع ذلك التعزير؟ يحتمله خصوصا في الأخيرين لأن الواجب هو الحدّ و قد سقط و الأصل عدم وجوب غيره، و يحتمل ثبوت التعزير في الأوّلين لأن قيام البيّنة و الإقرار بالموجب لا يجوّز القذف لما تقدّم من تحريمه مطلقا و ثبوت التعزير به للمتظاهر بالزنا فإذا سقط الحدّ بقي التعزير علي فعل المحرّم، و في الجميع لأن العفو عن الحدّ لا يستلزم العفو عن التعزير و له اللعان لأنّه بمنزلة إقامة البيّنة على الزنا انتهى.

قوله: و

في الجميع، يعني يحتمل ثبوته في الجميع أمّا الأوّلان فقد ذكر وجهه و أمّا الأخيران فلما ذكر بعدهما.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 226

فالحدّ للفعل و التعزير لهذه الجهة.

و على الجملة فلم يكن المجعول في مورد الحدّ إلّا أمرا واحدا و قد زال و ارتفع و إذا سقط الحدّ بالمسقط فلا دليل على تبديله بالتعزير.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 227

المسألة السابعة حدّ القذف ثمانون مطلقا

قال المحقّق قدّس سرّه: الحدّ ثمانون جلدة حرّا كان أو عبدا

أقول: و يدلّ على ذلك الكتاب و السنّة و الإجماع. أمّا الأوّل فهو قوله تعالى:

«وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ» «1».

و أمّا الثاني فروايات عديدة أخرجها الشيخ المحدث الحرّ العامليّ في باب عنوانه: باب ثبوت الحدّ على القاذف ثمانين جلدة إذا نسب الزنا إلى أحد أو إلى أمّه أو أبيه.

و مفاد العنوان أنه لا فرق في ترتّب حدّ القذف و كونه ثمانين بين أن ينسب الزنا إلى شخص أو إلى أبيه أو أمّه. و هذا هو المستفاد من تلك الروايات التي أخرجها في الباب:

عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في امرأة قذفت رجلا قال: تجلد ثمانين جلدة «2».

و عن عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: قضى أمير المؤمنين عليه السلام أن الفرية ثلاث يعني ثلاث وجوه: إذا رمى الرجل الرجل بالزنا و إذا قال: إنّ أمّه زانية و إذا دعا لغير أبيه فذلك فيه حدّ ثمانون «3».

و عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إذا سألت الفاجرة من فجربك فقالت: فلان، فإنّ عليها حدّين: حدّا

من فجورها و حدّا من فريتها على الرجل المسلم [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 3، و قوله عليه السلام: الفاجرة،

______________________________

(1) سورة النّور الآية 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 228

و عن محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتب إليه: و علّة ضرب القاذف و شارب الخمر ثمانين جلدة لأن في القذف نفي الولد و قطع النسل و ذهاب النسب و كذلك شارب الخمر لأنه إذا شرب هذي و إذا هذي افترى فوجب عليه حدّ المفتري «1».

و عن حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: القاذف يجلد ثمانين جلدة و لا تقبل له شهادة أبدا إلّا بعد التوبة أو يكذب نفسه. «2».

و أمّا الإجماع فقد صرّح به في الجواهر، كما استدلّ به الأردبيلي في شرح الإرشاد.

ثم إنه لا شكّ في أن الثمانين هو حدّ الحرّ. و أمّا في مورد العبد فهو كذلك على الأصحّ و الرأي السديد و إلّا فهو ليس كالأوّل بل فيه خلاف في الجملة و ذهب بعض كما تقدم إلى أنّ حدّ القاذف العبد هو النصف فيجلد أربعين جلدة و ذلك لقوله تعالى «فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ.» «3» و لخبر سليمان «4» و خبر حمّاد «5».

و قد مرّ أن الآية فسّرت بحدّ الزنا و أمّا الروايات فهي مختلفة و التقديم للروايات الدّالّة على عدم التنصيف فراجع فلذا أفتوا باختصاص تنصيف حدّ المملوك بباب الزنا الذي هو من حقوق اللّه تعالى فلا

يجري في القذف الذي هو من حقوق الناس.

______________________________

ظاهرة في الّتي زنت برضاها فصحّ أن يكون عليها حدّان: حدّ من فجورها و حدّ من فريتها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 5.

(3) سورة النساء الآية 25.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 15.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقيّة الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 229

في ضرب القاذف بثيابه متوسّطا و تشهيره

قال المحقّق: و يجلد بثيابه و لا يجرّد، و يقتصر على الضرب المتوسّط و يشهر القاذف لتجتنب شهادته.

أقول: هنا أحكام:

أحدها أنه يجلد القاذف مع ثيابه لا مجرّدا عنها.

ثانيها أنه من حيث كيفيّة الضرب و أنحائه شدّة و ضعفا يضرب متوسّطا لا شديدا جدّا و لا ضعيفا و خفيفا كذلك.

ثالثها أنه يشهر القاذف كما يجلد حتى لا يعتمد على شهادته.

أمّا الأوّل فقد استدلّ عليه بأمور: عدم الخلاف بل الاتّفاق كما ذكره في كشف اللثام، و بالأصل و الأخبار.

و الظاهر أن التمسك بالأصل ليس في محلّه و لا يدرى ما هو المراد من الأصل فإن كان المراد هو أصالة عدم الحدّ مجرّدا ففيه أن الأصل عدم الحدّ مع الثياب بلا فرق بينهما و ذلك لأن كلا منها حادث ليست له حالة سابقة كي يستصحب، و العلم الإجمالي حاصل بوجوب واحد منهما و هما كالمتباينين، و الاحتياط يقتضي تكرار الحدّ مجرّدا و مع الثياب و لا يمكن الالتزام به. و إن كان المراد أصالة عدم اشتراط الحدّ بكونه مجرّدا فهذا لا يوجب حرمة الضرب مجرّدا و إنّما يفيد هذا الأصل أنه يكفي لو لم

يكن مجرّدا و أين هذا من إثبات اعتبار خصوص كونه مع الثياب الذي هم بصدده.

لا يقال: إنّ المقام من قبيل الشك في التكليف الزائد فإنّه لا شكّ في وجوب حدّ ثمانين و إيلامه بذلك، و إنّما يشكّ في لزوم تجريد جسده أيضا و في اعتبار إيلام أزيد على ضربه بتجريد بدنه و الأصل عدمه.

لأنا نقول: قد ذكرنا أنهما من قبيل المتباينين: الجلد مجرّدا و الجلد مع الثياب، و كما يحتمل أن كان الشارع قد أراد التخفيف في الإيلام فلا يعتبر التجريد، كذلك يحتمل أن يكون قد أراد التشديد و التغليظ في حقّه قلعا لهذه المعصية

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 230

العظيمة فقرّر الجلد مجرّدا فأين الأقل و لأكثر؟.

لا يقال: لعلّ المراد من الأصل قاعدة الدرء لأنا نقول: إنّه خلاف ظاهر الخبر: الحدود تدرء بالشبهات، فإنه متعلّق بأصل الحدّ.

و أمّا الأخبار فمنها:

عن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام قال: المفتري يضرب بين الضربين يضرب جسده كلّه فوق ثيابه «1».

و منها: ما عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أن لا ينزع من ثياب القاذف إلّا الرداء «2». إلى غير ذلك من الأخبار، و يأتي بعضها في البحث الآتي.

نعم مقتضى الرواية الأخيرة استثناء الرداء. و لعلّ الوجه في ذلك هو أنه بحسب الغالب لباس ضخيم غليظ يمنع عن إحساس أ لم الضرب فلذا أمر عليه السلام بنزعه عنه، و بعد نزع الرداء- لو كان عليه- فلا فرق بين أن يكون عليه قميصان أو هو مع القباء أو غير ذلك من أنواع الملابس [1].

هذا و لكن هنا رواية

صحيحة تدلّ على اعتبار التجريد و هي رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في المملوك يدعو الرجل لغير أبيه قال: أرى أن يعرى جلده «3».

قوله: يعرى جلده، من باب الإفعال من أعريته من ثيابه، و عري الرجل عن ثيابه من باب تعب فهو عار و عريان.

______________________________

[1] أقول: و يبد و في الذهن أن وجه استثناء الرداء أنه و إن كان من أنواع الثياب إلّا أنه ليس كسائر الأثواب فهو ثوب منفصل لعدم الأزرار فيه و ليس له كمّ كأكمام الثوب حتى يتعلّق و يرتبط بالبدن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 16.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 231

و قد ذكر صاحب الجواهر قدس سره في توجيه ذلك وجوها [1].

و أمّا الثاني و هو الاقتصار على ضربه متوسّطا فهو أوّلا: مقتضى الأمر بالجلد و الضرب بلا تقييد بالشدّة و الخفّة فإنّه يحمل على المتعارف بين الناس. و ثانيا:

تدلّ على ذلك الروايات الشريفة نصّا.

فعن سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يفتري كيف ينبغي للإمام أن يضربه؟ قال: جلد بين الجلدين «1».

و عن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام قال: يضرب المفتري ضربا بين الضربين يضرب جسده كلّه «2».

و عن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام قال: المفتري يضرب بين الضربين يضرب جسده كلّه فوق ثيابه «3».

و عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

يجلد الزاني أشدّ

______________________________

[1] أقول: منها احتمال كونها قضيّة في واقعة، و منها أنه تعزير منوط بنظر الحاكم لأن الدعوة لغير الأب ليست قذفا، و منها كونه من عراه يعروه إذا أتاه، و الجلد بفتح الجيم أي أرى أن يحضر الناس جلده حدّا أو دونه، و منها أن يكون اللفظ بإعجام العين و تضعيف الراء و البناء للفاعل من التغرية أي يلصق الغراء بجلده و يكون كناية عن توطين نفسه للحدّ أو التعزير انتهى.

و قال في المنجد: الغراء و الغيراء ما طلي به، ما ألصق به الورق أو الجلد و نحوهما انتهى و في مجمع البحرين: الغراء ككتاب شي ء يتخذ من أطراف الجلود يلصق به و ربّما يعمل من السمك و الغراء كعصاء لغة انتهى.

ثم لا يخفى أن ما ذكره في الجواهر من التوجيهات مأخوذ من كشف اللثام فراجع ج 2 ص 224.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 232

الحدّين قلت: فوق ثيابه؟ قال: لا و لكن يخلع ثيابه، قلت: فالمفتري؟ قال:

ضرب بين الضربين فوق الثياب يضرب جسده كله «1».

ثمّ إنّ في بعض هذه الأخبار ما يفيد اعتبار أمر آخر و هو الضرب على كلّ جسده و تمام بدنه.

و لعلّ ذكر ذلك من جهة أنه إذا أمر بضرب أحد على جسده فبالطبع يضربون على تمام بدنه دون موضع خاصّ منه الذي يوجب الجرح فيه و إيجاد إيلام زائد و تبعات مولمة.

و أمّا الثالث و هو تشهير القاذف فهو

لحكمة أن يعرفه الناس بأنه يقول بخلاف الشرع فلا عبرة بأقواله إذا عاد إلى ما فعل و لا تقبل شهادته كما نصّ على عدم قبول شهادته في الآية الكريمة فلا بدّ من أن يعرف فلا تقبل شهادته.

و كيف كان فلا نصّ هنا بخصوصه على ذلك إلّا أنه لمّا ورد النصّ بذلك في شاهد الزور كما في موثّقة سماعة قال: سألته عن شهود زور فقال: يجلدون حدّا ليس له وقت فذلك إلى الإمام و يطاف بهم حتى يعرفهم الناس. «2».

فبتنقيح المناط و تعميم التعليل المذكور و اشتراكه يحكم بالتشهير في المقام أيضا كي يعرفه الناس بذلك و لا يصير قوله في حقّ الآخرين موجبا لتفضيحهم و سقوطهم في أعين الناس.

و بذلك يخرج المقام عن كونه إشاعة الفاحشة المبغوضة عند اللّه تبارك و تعالى الموعود عليها العذاب بقوله سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ» «3». و لعلّ ذلك لكون الزنا مثلا من المعاصي القائمة بشخصين يقع ذلك نوعا في الخفاء و يختم الأمر به في حين أن القذف من المعاصي التي تورث فتنة و فسادا فإنّه سبب لفضيحة الناس و هتكهم و إثارة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 6.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب بقيّة الحدود ح 1.

(3) سورة النّور الآية 19.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 233

العدوان في المجتمع و قطع روابطهم فلذا كانت إشاعة كون فلان زانيا مبغوضة عند اللّه تعالى دون إشاعة كون فلان قاذفا فإنّه ليست كذلك.

في طرق ثبوت القذف

قال المحقق: و يثبت القذف بشهادة العدلين أو الإقرار مرّتين.

أقول: أما الأوّل فلعموم أو إطلاق دليل حجيّة

البيّنة و حيث إنه ليس كالزنا فلذا يكتفي فيه بشاهدين خلافا للزنا الذي لا بد فيه من أربعة شهود.

و أما الإقرار مرتين فليس فيه نصّ خاصّ و إنما الوارد هو الدليل الكلّي، أي إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، و في الجواهر: لا أجد فيه خلافا.

و مقتضى التمسّك به هو الاجتزاء بإقرار واحد أي مرّة واحدة و لكنّهم اعتبروا هنا مرتين، و لعلّ ذلك لمكان أنهم جعلوا إقراره بمنزلة الشهادة فكما أنه يعتبر في الإقرار بالزنا أربعة أقارير كما يعتبر في الشهادة أربعة شهود كذلك في المقام يعتبر إقراران كما يعتبر في الشهادة فيه الشاهدان.

و الحق أنه إن كان هنا إجماع كما هو الظاهر من صاحب الجواهر فهو و إلّا فللمناقشة مجال و مقتضى القاعدة هو الإكتفاء بالإقرار مرّة واحدة.

و أما ما قد يقال من أن اعتبار المرّتين في الإقرار من جهة بناء الحدود على التخفيف فينزّل إقراره منزلة الشهادة على نفسه فيعتبر فيه التعدد.

ففيه إنه يشبه المصادرة و مع ذلك فلا يخلو عن إشكال و لزم تنزيل بيّنة القذف منزلة بيّنة الزنا و الحكم باعتبار الأربعة أيضا في المقام.

و على الجملة فالظاهر أنه لا يصح التمسك بقاعدة بناء الحدود على التخفيف في إثبات اعتبار التعدد مع دلالة دليل الإقرار بنفسه على كفاية المرّة.

نعم يمكن أن يقال: إنه بعد ذهاب العلماء كلّهم إلى اعتبار المرّتين و عدم الاجتزاء بمرّة واحدة فهذا يوجب الشبهة و لا أقلّ من ذلك و حينئذ فيدرء الحدّ بها، و لو لا ذلك فما ذكره غير تامّ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 234

كما أن قوله بتنزيله منزلة الشهادة على نفسه فيعتبر فيها التعدد أيضا لا يخلو عن إشكال لأنه على

ذلك لزم اعتبار المرتين في كلّ الموارد و لم يبق مورد يكتفي بالإقرار مرّة واحدة لأنه لا بدّ في الشهادة من الاثنين.

شرائط المقر بالقذف

قال المحقق: و يشترط في المقرّ التكليف و الحرية و الاختيار.

أقول: إنّ ما ذكره هنا مبنيّ على القواعد الكليّة الجارية في غير المقام أيضا من المقامات فإنّ التكليف شرط عامّ و لا بدّ في ترتّب حدّ القذف على إقرار المقرّ من بلوغه و عقله، و لا عبرة بإقرار الصبي و لا المجنون.

و كذا يعتبر فيه الحريّة و ذلك لأنه لو كان مملوكا للزم أن يكون إقراره على نفس المولى لا نفسه حيث إنّه مال و ملك للمولى و يلزم بهذا الإقرار الضرر على الغير أي المولى و هو غير ناقد.

و يعتبر أيضا فيه الاختيار فلا عبرة بإقرار من أكره على ذلك و لا يؤثّر إقراره هذا شيئا و إنما يفيد الإقرار بالقذف ترتّب الحدّ عليه إذا نشأ عن اختيار كسائر الأقارير، و الدليل على ذلك هو حديث الرفع و غيره.

المسألة الثامنة في ثبوت التعزير إذا تقاذف اثنان

قال المحقّق: إذا تقاذف اثنان سقط الحدّ و عزّرا.

أقول: هذا للتعبّد محضا و لا خلاف في الحكم كما في الجواهر.

و يدلّ على ذلك صحيح عبد اللّه ابن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين افترى كلّ واحد منهما على صاحبه. فقال: يدرأ عنهما الحدّ و يعزّران «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 235

و صحيح أبي ولّاد قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: أتي أمير المؤمنين عليه السلام برجلين قذف كل واحد منهما صاحبه بالزنا في بدنه قال:

فدرأ عنهما الحدّ و عزّرهما «1». و هما مضافا إلى كونهما صحيحين، معمول بهما عند الأصحاب إذا فلا كلام هنا.

نعم قد ذكر صاحب الجواهر هنا فرعا لا يخلو عن كلام،

و هو ما إذا تغايرا و تعارضا بما يقتضي التعزير فإنه لا يسقط تعزيرهما. و ذلك بمقتضى ما ورد في تقاذف الاثنين من سقوط الحد دون التعزير، فكما أن التعزير هناك لا يسقط بالتقاذف كما يسقط الحدّ كذلك تغايرهما و تعارضهما لا يوجب سقوط التعزير عنهما.

هذا، و لكن يرد عليه أن عدم سقوط التعزير في مورد استحقاق الحدّ لو لا مانع كون القذف من الطرفين لا يقتضي استفادة حكم كلّي بأن وقوع الفعل من كلّ جانب بالنسبة إلى الآخر و إن أوجب سقوط الحدّ في مواضعه لكنّه لا يقتضي سقوط التعزير في مواقع المعارضة.

نعم يمكن أن يقال: إنّ عدم سقوط التعزير في مورد التقاذف ليس لخصوصيّة تختصّ به حتى لا يجري الحكم في مورد التغاير و المعارضة و إنّما هو لأجل كونه حقا للّه تعالى و هو لا يسقط و هذه الجهة محققة في مورد التغاير أيضا فلا يسقط تعزيرهما.

لكن لا يخفى أن هذا من باب استفادة المطلب من الخارج دون الاستظهار و الاستفادة من الرواية الذي هو مراد صاحب الجواهر قدس سره حيث قال:

و منه و من غيره يعلم عدم سقوط التعزير عنهما لو تغايرا بما يقتضيه انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 236

المسألة التاسعة في عدم تعزير الكفّار مع التنابز بالألقاب.

قال المحقّق: قيل: لا يعزّر الكفّار مع التنابز بالألقاب و التعيير بالأمراض إلّا أن يخشى حدوث فتنة فيحسمها الإمام بما يراه.

أقول: هنا أبحاث:

أحدها: أنه هل عدم التعزير بعنوان الرخصة أو العزيمة؟ و بتعبير آخر: هل المراد أنه لا يجب تعزيرهم أو أنه لا يجوز ذلك؟.

لعلّ ظاهر العبارة هو الثاني [1] لأنه لو كان المراد عدم الوجوب

فهذا لا يختصّ بتنابزهم بل يجري في غير ذلك من الأمور أيضا.

ثانيها: أنه هل المراد من الكفّار هو أهل الذمّة الذين يجوز للمسلمين مؤاخذتهم على ما يفعلون من محرّماتنا غاية الأمر أنه خصص ذلك بهذا المورد أي تنابزهم بالألقاب أو أن المراد مطلق الكفار سواء كانوا ذميّين أم لا؟.

ظاهر الكلمات هو الثاني فإنّي كلّما تفحّصت في كلماتهم لم أجد التعبير بغير ذلك فراجع الشرائع و القواعد و المسالك و كشف اللثام و الرياض و شرح الأردبيلي على الإرشاد و غير ذلك من الكتب ترى أن كلّهم قد عبّروا بالكفار [2].

ثالثها: في أصل هذا الحكم فنقول: إنّ هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب بل في الجواهر: لم أجد من حكى فيه خلافا انتهى. كما أنه قال في الرياض: و لعلّه

______________________________

[1] أقول: لعلّ الظاهر خلاف ذلك فإنّ المحقق قال قبل ذلك بسطر واحد: إذا تقاذف اثنان سقط الحدّ و عزّرا انتهى. ثم قال: قيل لا يعزّر الكفّار إلخ فالنهي في مقام توهم الوجوب و هو لا يدلّ على أزيد من الجواز، و قد أوردت ذلك في مجلس الدرس.

[2] أقول: قد عثرنا في بعض كلماتهم على التعبير بأهل الذمّة فهذا ابن البرّاج قدس سره قال في المهذّب ج 2 ص 458: و إذا تقاذف بعض أهل الذمّة بعضا كان عليهم التعزير و لا حدّ عليهم و كذلك الحكم في العبيد و الصبيان انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 237

لا خلاف فيه.

رابعها: في الدليل أو التعليل على ذلك: فنقول: إنّه لا نصّ في المقام أصلا فلذا صاروا قدس اللّه أسرارهم بصدد التعليل على ذلك و توجيهه و إن كان كلّ منهم ذكر ما ذكر و أفاد

ما أفاد بعنوان لعلّ أو كأن. و ما ذكروه أمور:

الأوّل: إنّ الكفار مستحقون للاستخفاف و عدم الحرمة لهم و قد ذكره في الجواهر.

و فيه إنّه على ذلك لا خصوصية في تنابزهم بالألقاب بل و لا للتنابز و وقوع النبز بينهما و من الطرفين كلّ بالنسبة إلى الآخر بل يجري في مجرد وقوعه من طرف واحد، و الحال أن ظاهر القائلين به هو اختصاص الحكم بالتنابز من الطرفين و من كلّ واحد بالنسبة إلى الآخر لظهور التنابز في ذلك دون نسبة واحد منهما إلى الآخر.

و قد يقال: بأن المراد هو مطلق إلقاء الألقاب القبيحة و المؤذنة للعيب و الذمّ و تخاطبهم فيما بينهم بذلك و إن كان من طرف واحد، و باب التفاعل لا يختص بوقوع الفعل من الطرفين كما أن قول اللّه تعالى وَ لٰا تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ «1» لا يختص بذلك بل يشمل ما إذا كان ذلك من طرف واحد بالنسبة إلى الآخر.

و يؤيد ذلك ما في نفس عبارة المحقق حيث قال بعد ذلك: (و التعيير بالأمراض) فإنّه يتحقق من الواحد بالنسبة إلى الآخر، و قد جعله قدس سره عبارة أخرى عن الأوّل أو مشابها و نظيرا له [1].

و فيه إنّ الأمر في الآية الكريمة و إن كان كما ذكر إلّا أن عبارة الفقهاء يراد منها

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب سيّدنا الأستاذ الأكبر دام بقاه بما أتينا به في المتن. و لعلّه يمكن المناقشة فيه و ذلك لصراحة بعض العبارات و لا أقل من ظهوره في ما ذكرناه فترى الأردبيلي قدس سره قال بعد ذكر الاستخفاف و عدم الحرمة لهم): فلا يلزم من كسر حرمة بعضهم بعضا شي ء حتّى يلزم التعزير انتهى.

______________________________

(1)

سورة الحجرات الآية 11.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 238

معناه المصطلح أي وقوع الفعل من الجانبين.

الثاني: تكافؤ السّبّ و الهجاء من الجانبين و قد تمسّك به الشهيد الثاني في المسالك قال: كما يسقط الحدّ عن المسلمين بالتقاذف لذلك.

و فيه إنه لو كانت المكافئة و مقابلة المخاطب للقائل موجبة لسقوط التعزير و كانت هي العلّة في ذلك لكان اللازم سقوط التعزير في المسلمين بل كان سقوطه فيهما أولى مع أنه قد تقدّم آنفا أنه إذا تقاذفا يسقط الحدّ بذلك و لكن يعزّران.

فكيف يكون التكافؤ مسقطا للتعزير في مورد الكفار و ليس بمسقط في مورد المسلمين؟.

و لا يخفى أن التعليل بالتكافؤ ظاهر في أنه بمجرده هو العلّة في السقوط و لو لا جهة المكافئة و ردّ المخاطب ما ألقاه إليه المتكلّم لما كان وجه للسقوط بل هو ظاهر في كون الحرمة مفروغا عنها و إنما أوجب التكافؤ السقوط. هذا.

الثالث: جواز الإعراض عنهم في الحدود و الأحكام فهنا أولى فإذا جاز للمسلم أن يعرض عنهم في موارد الأحكام و الحدود و لا يتعرّض لهم بل يخلّي سبيلهم و يتركهم بحالهم و إلى ما يقتضيه دينهم و مذهبهم ففي المقام أولى بعدم التعرّض لهم فإنّ التعزير ليس كالحدّ لأنه هو العقوبة العظمى.

و فيه إنّ هذا الوجه يناسب كونه وجها لعدم الوجوب و يلائم الجواز، في حين أنهم بصدد بيان الوجه لعدم الجواز.

هذا مضافا إلى عدم تماميّة الأولويّة و ذلك لأنه يمكن عدم جواز التعرض لهم في الحكم الشديد بخلاف الحكم الضعيف كالتعزير فيتعرض لهم في ذلك و لا ملازمة بينهما أصلا [1].

الرابع: الوجه المذكور في كلام صاحب الرياض، و سنتعرض لكلامه إنشاء

______________________________

[1] يمكن أن يقال في

بيان وجه الأولوية: إن الكفار لا يتعرض لهم في الأحكام و الحدود مع قطعيتها و عدم التخلف فيها فكيف يجوز التعرض لهم فيما ينوط بنظر الحاكم و يجري فيه التسهيلات كالتعزير، بل لعل هذا التقريب أولى بملاحظة اقتران الأحكام بالحدود.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 239

اللّه تعالى.

ثم إنّه مع ما تقدم من عدم الخلاف في المسألة نرى أن المحقق نسبها إلى القيل و لم يعيّن القائل.

قال في المسالك: و نسب الحكم إلى القيل مؤذنا بعدم قبوله، و وجهه أن ذلك فعل محرّم يستحق فاعله التعزير و الأصل عدم سقوطه بمقابلة الآخر بمثله بل يجب على كلّ منهما ما اقتضى فعله فسقوطه يحتاج إلى دليل كما يسقط الحدّ عن المتقاذفين بالنّصّ انتهى كلامه قدس سره الشريف.

و قال السيد في الرياض بعد أن احتمل عدم الخلاف في المطلب: و لكن نسبه الماتن في الشرائع إلى القيل المشعر بالتمريض، و كأنّ وجهه أن ذلك فعل محرّم يستحقّ فاعله التعزير و الأصل عدم سقوطه بمقابلة الآخر بمثله [إلى آخر ما كان في المسالك] ثم قال: و له وجه لو لا الشهرة القريبة من الإجماع المؤيدة بفحوى جواز الإعراض عنهم في الحدود و الأحكام فهنا أولى، و ما دلّ على سقوط الحدّ بالتقاذف كالصحيحين في أحدهما عن رجلين افترى كلّ واحد على صاحبه فقال: يدرأ عنهما الحدّ و يعزّران و التعزير أولى. و في التأييد الثاني نظر بل ربما كان في تأييد الخلاف أظهر فتدبّر انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

أقول: أمّا الشهرة فقد ذكرنا ذلك و أمّا الوجهان اللذان ذكرهما في تأييد المطلب فالأول هو فحوى جواز الإعراض عنهم في الأحكام و الحدود.

و فيه ما ذكرناه آنفا

فلا يتمّ التأييد به.

و أمّا الثاني فبيانه أن صريح الصحيحين الواردين في رجلين افترى كلّ منهما على الآخر هو سقوط الحدّ عنهما فإذا كان الحدّ يسقط عنهما بالمقابلة بالمثل في القذف فالتعزير أولى بالسقوط بسبب المقابلة بالمثل في السبّ.

و فيه ما أورده بنفسه فإنّ سقوط الحدّ هناك لا يدلّ على سقوط التعزير هنا فإنّ الحدّ أقوى و هذا بخلاف التعزير فإنّه لا مئونة في إقامته فربّما يرفع الشارع الأقوى و هو لا يقتضي سقوط العقوبة الأضعف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 240

هذا مضافا إلى الحكم هناك بتعزير هما و هذا يؤيّد أن يترتّب على تنابز الكافرين التعزير لا عدمه.

ثم إنّ هذا حكم تنابز الكفّار من حيث هو و بلا ملاحظة الطواري و العوارض. أمّا إذا وقع ذلك بينهم و كان بحيث يخشى منه حدوث فتنة و بروز مفسدة بين الأمّة و وقوع الاختلاف و التشاجر بين المسلمين أو كان مظنّة الاختلال في نظام المملكة الإسلاميّة فعلى إمام المسلمين حينئذ أن يحسم مادّة الفساد و يطفى ء نيران الفتنة بما يراه من التعزير و العقوبة كما صرّح بذلك المحقق رضوان اللّه عليه.

ثمّ إنه يظهر من عبارة الجواهر و النقض الذي أورده على الوجه الأوّل من الوجهين المذكورين في المسالك (أي تكافؤ السبّ من الجانبين) أنه استفاد من عبارة الشرائع عدم الاختصاص بما إذا وقع التنابز من الجانبين حيث إنّه أورد على الوجه المزبور بأنه يقتضي اختصاص ذلك بالتنابز من الطرفين انتهى يعني و الحال أن الظاهر عدم الاختصاص به.

و يؤيد هذا أي عدم الاختصاص، ما ذكره بعض المفسّرين بالنسبة إلى قوله تعالى «وَ لٰا تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ» «1»، و هو قولهم في تفسيره: و لا يدع

بعضكم بعضا بلقب السوء [1] و على هذا فإيراده رحمه اللّه هو أن الدليل أخصّ من المدّعى.

و يظهر من إيراده الثاني على ثاني الوجهين (و هو جواز الإعراض عنهم) أنه قدس سره استظهر من عبارة الشرائع الحرمة لأنه أورد على المسالك بأن جواز الإعراض عنهم يقتضي جواز التعزير انتهى يعني و الحال أن ظاهر: لا يعزّر، هو

______________________________

[2] هذا عين عبارة الفيض في الصّافي و كذا البيضاوي ج 2 ص 190 و يقرب منه عبارة الشيخ قدس سره في التبيان فراجع إن شئت. ثم إنّه دام ظلّه كأنه قد مال هنا عمّا أفاده آنفا في جواب إيرادنا.

______________________________

(1) سورة الحجرات الآية 11.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 241

الحرمة.

ثم إنّ صاحب الجواهر بعد أن ذكر أن نسبة المحقق المطلب إلى القيل يشعر بالتردد فيه قال: و لعلّه لأنه فعل محرّم يوجب التعزير في المسلم ففي الكافر أولى.

ثمّ قال: و يمكن منع الحرمة انتهى. يعنى يمكن أن لا يكون تنابز الكفار حراما أصلا.

و نحن نقول: و على هذا فلا بأس بأن ينابز المسلم الكفار أيضا و يلقّبهم بألقاب قبيحة كما تقدم ذلك في باب التعريض إلّا أن ذلك في نفسه غير خال عن الإشكال- كما قدمنا ذلك حيث ترددنا في جواز نسبة كل قبيح إلى الكافر و الفاسق- هذا مضافا إلى أنه لا وجه لذكره ثانيا في هذا المقام.

و كيف كان فلا دليل على المطلب من النصوص و لا علّة في المقام يعتمد عليها و يطمئنّ إليها فلم يبق إلّا القول بذلك من باب الشهرة أو الإجماع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 242

المسائل الملحقة

المسألة الأولى في قتل سابّ النّبي

اشارة

قال المحقّق: و يلحق بذلك مسائل الأولى: من سبّ النّبي صلّى

اللّه عليه و آله جاز لسامعه قتله ما لم يخف الضرر على نفسه أو ماله أو غيره من أهل الإيمان.

أقول: و في المسالك: هذا الحكم موضع وفاق و به نصوص إلخ و في كشف اللثام: اتفاقا متظاهرا بالكفر أو الإسلام فإنّه مجاهرة بالكفر و استخفاف بالدين و قوّامه إلخ.

و في الرياض: بلا خلاف بل عليه الإجماع في كلام جماعة و هو الحجّة مضافا إلى النصوص المستفيضة إلخ.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه إلخ.

و أمّا الروايات الواردة في المقام المستدلّ بها على المطلوب فهي:

حسن بن عليّ الوشاء قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: شتم رجل على عهد جعفر بن محمّد عليهما السلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأتى به عامل المدينة فجمع الناس فدخل عليه أبو عبد اللّه عليه السلام و هو قريب العهد بالعلّة و عليه رداء له مورّد فأجلسه في صدر المجلس و استأذنه في الاتّكاء و قال لهم: ما ترون؟ فقال له عبد اللّه بن الحسن و الحسن بن زيد و غيرهما: نرى أن تقطع لسانه فالتفت العامل إلى ربيعة الرأي و أصحابه فقال: ما ترون؟ قال:

يؤدّب. فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: سبحان اللّه فليس بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين أصحابه فرق؟! «1».

قوله: رداء مورّد أي صبغ على ألوان الورد و هو دون المضرّج.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 243

و عن عليّ بن جعفر قال: أخبرني أخي موسى عليه السلام قال: كنت واقفا على رأس أبي حين أتاه رسول زياد بن عبيد اللّه الحارثي عامل

المدينة فقال:

يقول لك الأمير: انهض إليّ فاعتلّ بعلّة فعاد إليه الرسول فقال: قد أمرت أن يفتح لك باب المقصورة فهو أقرب لخطوك قال: فنهض أبي و اعتمد عليّ و دخل على الوالي و قد جمع فقهاء أهل المدينة كلّهم و بين يديه كتاب فيه شهادة على رجل من أهل وادي القرى قد ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله فنال منه، فقال له الوالي: يا أبا عبد اللّه انظر في الكتاب قال: حتى انظر ما قالوا فالتفت إليهم فقال: ما قلتم؟ قالوا قلنا: يؤدّب و يضرب و يعزّر [يعذّب] و يحبس قال: فقال لهم: أ رأيتم لو ذكر رجلا من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما كان الحكم فيه؟ قالوا مثل هذا. قال: فليس بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و بين رجل من أصحابه فرق؟ فقال الوالي: دع هؤلاء يا أبا عبد اللّه لو أردنا هؤلاء لم نرسل إليك فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: أخبرني أبي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: الناس في أسوة سواء من سمع أحدا يذكرني فالواجب عليه أن يقتل من شتمني و لا يرفع إلى السلطان، و الواجب على السلطان إذا رفع إليه أن يقتل من نال منّي فقال زياد بن عبد اللّه: أخرجوا الرجل فاقتلوه بحكم أبي عبد اللّه «1».

و عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ رجلا من هذيل كان يسبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال:

من لهذا؟ فقام رجلان من الأنصار فقالا: نحن يا رسول اللّه فانطلقا حتى أتيا عربة فسألا عنه فإذا هو يتلقى

غنمه فقال: من أنتما و ما اسمكما؟ فقالا له: أنت فلان بن فلان؟ قال: نعم فنزلا فضربا عنقه. قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي جعفر عليه السلام: أ رأيت لو أن رجلا الآن سب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 244

أ يقتل؟ قال: إن لم تخف على نفسك فاقتله «1».

و عن النهاية: إنّ العربة بالتحريك ناحية قرب المدينة و أقامت قريش بعربة فنسب العرب إليها، و عن المراصد: قرية في أوّل وادي نخلة من جهة مكّة.

و عن الفضل بن الحسن الطبرسي بإسناده في صحيفة الرضا عليه السلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من سبّ نبيّنا قتل و من سبّ صاحب نبيّ جلد «2». إلى غير ذلك من الأخبار، و هذا الحكم مقطوع به عندهم كما عرفت ذلك من قسم من كلماتهم.

نعم هنا بحث من ناحية وجوب القتل و جوازه فإذا كان سابّ النبيّ يقتل في الجملة فهل يجب ذلك أو أنه مجرد الجواز؟.

عبّر المحقق كما علمت بالجواز، لكنّ صاحب الجواهر قال: بل وجب، و قد ادّعى عدم خلاف يجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه.

و ظاهر النصوص المتقدّمة أيضا هو الوجوب دون الجواز.

و قال الأردبيلي رضوان اللّه عليه- عند شرح قول العلّامة في الإرشاد:

و سابّ النبي و أحد الأئمة يقتله السامع مع أمن الضرر-: الدليل على قتل من سبّ النبي معلوميّة وجوب تعظيمه من الدين ضرورة و الذي يسبّه منكر لذلك و يفعل خلاف ما علم من الدّين ضرورة مثل رمي المصحف في القاذورات و إهانة اللّه و إهانة الدّين

و الإسلام و العبادات و شعائر اللّه (ثم نقل بعض النصوص الواردة في المقام ثم قال: إنّ الرواية تدلّ على وجوب قتله و كذا بعض العبارات مثل المتن و قال في الشرائع: من سبّ النبي صلّى اللّه عليه و آله جاز لسامعه قتله ما لم يخف).

ثمّ صار قدس سره بصدد التوجيه و رفع التنافي و قال: فلعلّه يريد رفع التحريم و المنع فيكون الجواز بالمعنى الأعمّ لارتفاع الحرمة الثابتة لقتل النفوس،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حدّ القذف ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 245

انتهى كلامه رفع مقامه. فبحمل الجواز المذكور في كلام المحقق، على معناه الأعمّ الملائم للوجوب أيضا يندفع الإشكال و يرتفع التنافي بين كلام المحقق و غيره أو بينه و بين ما هو المستفاد من النصوص و ما هو مقتضى القواعد أي الوجوب.

نعم ما أفاده قدس سره من أن من سبّ النبيّ منكر لما هو الضروريّ أعني وجوب تعظيمه صلّى اللّه عليه و آله، لعلّه لا يخلو عن كلام و ذلك لأنه و إن كان وجوب تعظيمه ضروريّا إلّا أنه يمكن أن يكون سبّ السابّ في بعض الأحايين عصيانا لا إنكارا كما في معصية اللّه سبحانه فإنّه ربما يرى العاصي أن اللّه تعالى واجب الإطاعة و مع ذلك فلا يطيعه.

ثم إنّه بعد أن ثبت وجوب قتل السّابّ لا بدّ من التنبيه على أن هذا الحكم ممّا أشكل علينا الأمر في هذه الأزمنة التي قد يسمع إلقاء تلك الكلمات الخبيثة، و الإهانة بساحة النبي الأعظم الأقدس و العترة الزاكية الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين،

فترى أن بعضا بمجرد أن شاهدوا من أهل العلم خصوصا المتكفّلين منهم للأمور السياسية و الاجتماعية و من هم منشأ الأمور و إدارة المجتمع و مصدر الرتق و الفتق و الأمر و النهي، ما لا يلائم أميالهم و لا يساعد أهواءهم أقدموا على التفوّه بما فيه السبّ على النبيّ أو الإسلام أو القرآن فضلا عن السلف الصالح و العلماء الأكابر فما يصنع مع وجوب قتل سابّ النبي مثلا و شيوع الأمر؟.

فعلينا توجيه الناس و لو بتنبيههم بأنه مثلا ليس مطلق ما نفعله و نأتي به إلهاما عن النبي و الأئمة عليهم السلام و إن حسابهم خاصّ بهم فلا يصحّ مؤاخذتهم بما نقوله نحن و نفعله إذا لم يكن سديدا.

ثم إنّ التعابير الواردة في أخبار الباب مختلفة فقد يعبّر بالسبّ و أخرى بالشتم و ثالثة ب نال و رابعة بالذكر، و لكن الظاهر أن كلّها يشير إلى معنى واحد و غرض فأرد، و المقصود هو أداء عبارة تدلّ على التنقيص و التخفيف فإذا صدر ذلك و وقع من أحد يجب على السامع أن يقتله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 246

نعم هذا هو حكم من سمع أحدا يسبّ النبيّ من حيث هو و بنفسه و بلا حدوث ضرر على المقدم على قتله. أمّا لو خاف الضرر على نفسه أو ماله الخطير أو على عرضه أو خاف على غيره من أهل الإيمان فهناك يرتفع الوجوب كما هو مقتضى أدلة الضرر و لذا قال المحقق: ما لم يخف إلخ و قال العلّامة في الإرشاد: مع أمن الضرر، و قال في القواعد: مع الأمن عليه و على ماله و غيره من المؤمنين. انتهى كلامه رفع مقامه.

و هل يجب

حينئذ الترك أو يجوز ذلك و يتخيّر فيه؟ لا يبعد وجوب الترك بل هو الظاهر فيكون بينه و بين إقدامه بنفسه على السبّ عند الاضطرار إليه فرق بأن يكون ترك القتل في المقام واجبا دون الإقدام على السبّ في المقام الثاني فإنّه مخيّر بين التسليم للقتل فلا يسبّ و بين أن ينال و يخلّص نفسه من القتل كما في واقعة عمار بن ياسر و أبيه حيث أمرا بسبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سبّ عمار و لم يسبّ والده فخلّوا سبيل عمار و قتلوا والده و قد استصوب النبي صلّى اللّه عليه و آله فعلهما.

و مثله حال رجلين من محبّي أمير المؤمنين عليه السلام فعن عبد اللّه بن عطا قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما ابريا عن أمير المؤمنين عليه السلام فبرئ واحد منهما و أبي الآخر فخلّي سبيل الذي بري ء و قتل الآخر، فقال: أمّا الذي بري ء فرجل فقيه في دينه و أما الذي لم يبرء فرجل تعجّل إلى الجنّة «1».

و على الجملة فهو متعلّق بالإقدام على سبّه صلّى اللّه عليه و آله فيجوز تركه و لو انجرّ إلى قتله و أمّا جواز قتل ساب النبي صلّى اللّه عليه و آله أو وجوبه فهو مخصوص بما إذا لم يخف على نفسه أو غيره.

و ذلك لخبر محمد بن مسلم:. فقلت لأبي جعفر عليه السلام أ رأيت لو أن رجلا الآن سبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أ يقتل؟ قال: إن لم تخف على نفسك

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 11 ب 29 من أبواب الأمر بالمعروف ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص:

247

فاقتله «1».

نعم المذكور فيه هو خصوص الخوف على نفسه. لكن الأصحاب لم يفرّقوا بينه و بين الخوف على المال الخطير و كذا الخوف على الغير نفسا أو مالا كذلك، و لا خلاف في ذلك بينهم على ما صرّحوا به فإنّ الضرر المالي المتوجه إلى الإنسان بقتل السابّ ضرر يرفع بلا ضرر.

نعم في خصوص الضرر المالي المتوجه إلى الغير يشكل التمسّك بلا ضرر و ذلك لأنه لم يورد ضررا كي يرتفع تكليفه بقتل السابّ، و إنّما يسبّب ذلك أن يورد آخر ضررا على الغير.

اللّهم إلّا أن يقال إنّه بالنسبة للغير يتمسّك بقاعدة الأهمّ و المهمّ.

و لكن يرد عليه أنه يتمّ ذلك في خصوص الضرر المتوجه إلى نفس الغير و أمّا عند توجّه الضرر إلى مال الغير بإقدامنا على قتل الساب و بعبارة أخرى عند دوران الأمر بين قتل السابّ و توجه الضرر المالي إلى الغير، و ترك القتل و رفع الضرر المالي عن الغير فلا، لأن الظاهر أن الإقدام على قتل السابّ أهمّ من توجّه ضرر ماليّ إلى الغير.

حكم سب الأئمة عليهم السلام

قال المحقق: و كذا من سبّ أحد الأئمة عليهم السلام

و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه أيضا بل الإجماع بقسميه عليه انتهى.

و يدلّ على المطلب أخبار عديدة قد أخرج ستّة في الوسائل في باب عنونه بقوله: «باب قتل من سبّ عليّا عليه السلام أو غيره من الأئمة عليهم السلام و مطلق الناصب مع الأمن».

عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في رجل

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 248

سبّابة لعلي عليه السلام قال: فقال لي: حلال الدم،

و اللّه لو لا أن تعمّ به بريئا قال: قلت: فما تقول في رجل مؤذ لنا؟ قال: في ماذا؟ قلت: فيك، يذكرك قال:

فقال لي: له في عليّ عليه السلام نصيب؟ قلت: إنّه ليقول ذاك و يظهره قال: لا تعرّض له «1».

قال الشيخ الحرّ العامليّ: و رواه الصدوق في العلل عن أبيه عن أحمد بن إدريس عن أحمد بن محمّد مثله إلى قوله: تعمّ به بريئا قال: قلت: لأيّ شي ء يعمّ به بريئا؟ قال: يقتل مؤمن بكافر، و لم يزد على ذلك.

أقول: و في الرواية جهة إجمال و هي قوله: له في عليّ عليه السلام نصيب، فإنه ليس واضح المعنى.

قال العلّامة المجلسي قدس سره بشرحه: يحتمل أن يكون المراد أنه هل يتولّى عليّا و يقول بإمامته؟ فقال الراوي: نعم هو يظهر ولايته فقال عليه السلام لا تعرّض له، أي لأجل أنه يتولّى عليّا فيكون هذا إبداء عذر ظاهرا لئلّا يتعرّض السائل لقتله فيورث فتنة و إلّا فهو حلال الدم إلّا أن يحمل على ما لم ينته إلى الشتم بل نفي إمامته عليه السلام، و يحتمل أن يكون استفهاما إنكاريّا أي من يذكرنا بسوء كيف يزعم أن له في عليّ عليه السلام نصيبا فتولّى السائل تكرّرا لما قال أوّلا، و يمكن أن يكون الضمير في قوله: له، راجعا إلى الذكر أي قوله يسري إليه أيضا، و منهم من قال: هو تصحيف (نصب) بدون الياء انتهى [1].

فعلى التوجيه الأوّل كان الرجل المؤذي مع إظهار التشيّع يذكر الإمام أمير

______________________________

[1] مرآة العقول ج 23 ص 419 ثم إنّه قال الأردبيلي في شرح الإرشاد بشرح الجملة المزبورة: أي إن كان يحب أمير المؤمنين لا تعرض له و لا تقتل، فكأنهم

لطفوا به و هبوه بذلك و كأنه إشارة إلى أنه ليس من العداوة و البغض كما قيل في مستحلّ ترك الصلاة فتأمل انتهى كلامه رفع مقامه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 249

المؤمنين عليه السلام بسوء و كان في الحقيقة مباح الدّم لذلك إلّا أن الإمام الصادق عليه السلام أراد أن لا يتعرّض هشام لقتله فيثير نار الفتنة و لذا ذكر ما يكون بظاهره عذرا في ترك الإقدام على قتله.

و مفاد استدراكه رحمه اللّه بعد هذا التوجيه، هو أنه يمكن أن يكون ذاك الشخص كان يذكر الإمام بسوء إلّا أنه لم ينته ذكره إلى حدّ الشتم الموجب للكفر و القتل بل كان مجرّد إظهار الشكاية و عدم ارتضائه عنه عليه السلام.

و قوله: بل نفي إمامته يمكن أن يكون عطفا على مدخول إلى فيكون المراد أنه لم ينته ذكره له إلى الشتم بل و لا إلى نفي إمامته بل كان في إطار الشكاية عنه.

و على الجملة فعلى هذا لم يكن مباح الدم و كان عليه السلام قد نهى عن قتله جدّا لا لعدم إثارة نار الفتنة.

و على التوجيه الثاني يحمل الاستفهام على الإنكاري لا الحقيقي فكان عليه السلام قد أنكر كون هذا الشخص ممن له نصيب من محبة أمير المؤمنين عليه السلام على ما كان يظهره و يدّعيه بعد أن كان يذكره عليه السلام بسوء.

و عليه فيكون قول الراوي بعد ذلك تكرارا لما ذكره أوّلا، لا جوابا عن السؤال حيث إنّ الاستفهام لم يكن حقيقيّا و بناءا على هذا أيضا كان هذا الشاتم مباح الدم. و على الاحتمال الثالث أي رجوع ضمير (له)

إلى (ذكره) يكون المراد إنّه هل يسري ذكره لي بسوء إلى جدّي الأمجد أمير المؤمنين عليه السلام فيذكرني و يذكر آبائي بسوء أو أنه يقتصر على ذكري بسوء و قد أجابه بأنه يذكر أمير المؤمنين عليه السلام أيضا بسوء، فهذا أيضا مباح الدم. و على الوجه الرابع فقد سئل الإمام عليه السلام عن أنه هل لهذا الشخص نصب العداوة لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه حتى يكون ناصبيا و من الذين نصبوا العداوة له عليه السلام أم لا فقد وقع تصحيف في ضبط اللفظ فكتب (نصيب) بدل (نصب) و قد أجاب الراوي بأنه يظهر العداوة و النصب، و على هذا أيضا كان هذا الشخص مباح الدم و هو واضح.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 250

و أمّا قوله عليه السلام بعد الحكم (في الفرض الأوّل أي الذي كان سبّابة لعليّ عليه السلام) بأنه مباح الدم: لو لا أن تعمّ به بريئا فالمعنى لو لا أن تعمّ أنت بسبب القتل من هو بري ء منه، أو: لو لا أن تعمّ البلية بسبب القتل من هو بري ء منه [1].

و عن سليمان العامري قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أي شي ء تقول في رجل سمعته يشتم عليا عليه السلام و يبرء منه؟ قال: فقال لي: و اللّه هو حلال الدم و ما ألف منهم برجل منكم، دعه «1» ترى التصريح بأنه مباح الدم، نعم ظاهر كلامه عليه السلام أنه كان المورد من موارد الخوف و لذا أمر عليه السلام أن يدعه و يتركه و كأنه عليه السلام قال: لا تقتله فإنّهم يقتلونك قودا و قصاصا، و لا يساوي ألف رجل منهم واحدا منكم.

هذا، و جدير بكم أيّها الموالون

للعترة الطاهرة و يا أيتها الشيعة المحبون لأمير المؤمنين أن تعرفوا مقامكم و رفعة قدركم و عظم شأنكم و موضعكم على ما بينه الإمام الصادق عليه السلام من انّ واحدا من الشيعة لا يوازن بألف من غيرهم.

و عن عبيد بن زرارة عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قعد في مجلس يسبّ فيه إمام من الأئمة يقدر على الانتصاف فلم يفعل ألبسه اللّه عز و جلّ الذلّ في الدنيا و عذّبه في الآخرة و سلبه صالح ما منّ به عليه من معرفتنا «2» ترى ما فيه من التشديد و التهويل في عذاب من لم يقاوم في رفع السبّ عن الإمام عليه السلام، و معلوم أنه كذلك بالنسبة إلى من كان قادرا على ذلك و إلّا فكان الإمام المجتبى عليه السلام جالسا و خطيب معاوية من أعلى

______________________________

[1] أقول: و في التهذيب ج 10 ص 86 ح 101: لو لا أن يغمز بريئا. و قد ذكر في المنجد أن غمزه يعني سعى به شرّا انتهى. و في كشف اللثام: لو لا أن يعمر بريئا أي لو لا أن يتسبب قتله للطعن في بري ء و اتّهامه و إضرار به.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 251

المنبر يشتم أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و على أولاده الطاهرين.

و عن محمد بن مرازم عن أبيه قال: خرجنا مع أبي عبد اللّه عليه السلام حيث خرج من عند أبي جعفر من الحيرة فخرج ساعة أذن له و انتهى إلى السالحين في أوّل الليل فعرض

له عاشر كان يكون في السالحين في أوّل الليل فقال له: لا أدعك تجوز فأبى إباء و أنا و مصادف معه فقال له مصادف: جعلت فداك إنّما هذا كلب قد آذاك و أخاف أن يردّك و ما أدري ما يكون من أبي جعفر و أنا و مرازم، أ تأذن لنا أن نضرب عنقه ثم نطرحه في النهر؟ فقال له: كفّ [كيف] يا مصادف فلم يزل يطلب إليه حتى ذهب من الليل أكثره فأذن لنا فمضى فقال: يا مرازم هذا خير أم الذي قلتماه؟ قلت: هذا جعلت فداك. قال: إنّ الرجل يخرج من الذلّ الصغير فيدخله ذلك في الذلّ الكبير «1».

الحيرة كما في مجمع البحرين هي البلد القديم بظهر الكوفة كان يسكنه النعمان بن المنذر. و المراد من أبي جعفر، منصور الدوانيقي الخليفة العباسي في زمان الإمام الصادق عليه السلام و قوله: السالحين يعنى قراولان شب گرد، و قال العلّامة المجلسي رضوان اللّه عليه: في السالحين أوّل الليل أي الذين يدورون في أوّل الليل من أهل السلاح كذا قيل، و الأصوب أن السالحين في الموضعين اسم موضع، قال في المغرب: السالحون اسم موضع على أربعة فراسخ من بغداد إلى المغرب إلخ. «2» و قوله عليه السلام: إنّ الرجل يخرج من الذلّ الصغير إلخ يعني إنّ ما تطلبون و تستأذنون منّي و هو قتل الرجل العاشر الذي كان يمنع من الجواز و يثقل عليكم منعه و ترون أنه ذلّ، و تصرّون على قتله مع أنه ربما يثور من قتله فتنة عظيمة تصيب الإمام عليه السلام أيضا و ربما يأخذ الخليفة الإمام عليه السلام و شيعته و أصحابه و يقتلهم، فتحمّل ذلك الذلّ القليل أولى من الوقوع في

هذه الفتنة العظيمة و هذا الذلّ الكبير.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(2) مرآة العقول ج 25 ص 198.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 252

و الرواية ظاهرة جدا في أنه كان هناك خوف ضرر عظيم في الإقدام على قتل ذاك الرجل و كان الإمام عليه السلام في تقيّة شديدة و إلّا فربما كان عليه السلام يأذن في قتله.

و عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في قتل الناصب؟ فقال: حلال الدم و لكني أتّقي عليك فإن قدرت أن تقلب عليه حائطا أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل قلت: فما ترى في ماله؟ قال: توّه ما قدرت عليه «1».

و عن علي بن حديد قال: سمعت من سأل أبا الحسن الأوّل عليه السلام فقال:

إني سمعت محمد بن بشير يقول: إنك لست موسى بن جعفر الذي أنت إمامنا و حجّتنا فيما بيننا و بين اللّه قال: فقال: لعنه اللّه ثلاثا- أذاقه اللّه حر الحديد قتله اللّه أخبث ما يكون من قتلة، فقلت له: إذا سمعت ذلك منه أ و ليس حلال لي دمه؟ مباح كما أبيح دم السابّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الإمام؟ قال:

نعم- حلّ و اللّه حل و اللّه دمه و أباحه لك و لمن سمع ذلك منه. قلت: أو ليس ذلك بسابّ لك؟ قال: هذا سبّاب للّه و سبّاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سبّاب لآبائي و سبّابي و أيّ سبّ ليس يقصر عن هذا و لا يفوقه هذا القول فقلت: أ رأيت إذا أنا لم أخف أن أغمر بذلك بريئا ثمّ

لم أفعل و لم أقتله ما عليّ من الوزر؟ فقال: يكون عليك وزره أضعافا مضاعفة من غير أن ينقص من وزره شي ء، أما علمت أن أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر اللّه و رسوله بظهر الغيب و ردّ عن اللّه و عن رسوله صلّى اللّه عليه و آله «2».

و يستفاد من لحن الرواية و تعبيرات الإمام عليه السلام الشديدة أن هذا الشخص- محمد بن بشير- كان يعرف الإمام موسى بن جعفر عليه السلام و أنه هو الإمام و هادي الرشاد و حجّة اللّه على العباد و إنّما كان بصدد التشكيك

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 5.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 253

بين الناس و صرف القلوب عنه صلوات اللّه عليه.

و قد استظهر من الروايات وجوب قتل سابّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كذا الأئمة عليهم السلام و قد علمت التهديد الوارد في الرواية الأخيرة بالنسبة إلى من قدر على قتله و لم يفعل و أنه بصريح كلام الإمام عليه السلام يحمل عليه أضعاف وزر من أقدم على هذه المعصية العظيمة كما أنه قد استفيد من الأدلّة أن هذا الحكم متعلّق بما إذا لم يكن في إقدامه على قتله ضرر و إلّا فليس عليه ذلك.

و أمّا خبر أبي الصباح قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ لنا جارا فنذكر عليّا عليه السلام و فضله فيقع فيه أ فتأذن لي فيه؟ فقال: أو كنت فاعلا؟ فقلت:

أي و اللّه لو أذنت لي فيه لأرصدنّه فإذا صار فيها اقتحمت عليه بسيفي فخبطته حتى أقتله

فقال: يا أبا الصباح هذا القتل و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن القتل يا أبا الصباح إنّ الإسلام قيد القتل و لكن دعه فستكفي بغيرك [1].

ففيه أن منع الإمام عليه السلام لعلّه كان من خوف قتله أو قتل غيره من المسلمين.

هذا كلّه بالنسبة إلى قتل السابّ و أما من أكره على السبّ فالظاهر الموافق للأدلّة هو جواز السبّ له بل في بعض الروايات الأمر بذلك كما في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم.

ألا و إنّه سيأمر بسبي و البراءة مني أمّا السبّ فسبوني فإنّه لي زكاة و لكم نجاة و أمّا البراءة فلا تبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإيمان و الهجرة [2].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب ديات النفس ح 1 رواه عن الكافي، و فيه: يا أبا الصباح هذا الفتك و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الفتك.

قوله: خبطته أي ضربته.

[2] نهج البلاغة الخطبة 56 أقول: لكن في الكافي ج 2 ص 219 و تفسير العيّاشي ج 2 ص 271

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 254

و لعلّ الفرق بين السبّ و البراءة حيث أمر بالأوّل و نهى عن الثاني، أن السبّ صادر بالنسبة إلى المسلم أيضا بخلاف البراءة فإنها تكون عن المشركين و الكافرين كما قال اللّه تعالى «بَرٰاءَةٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. «1».

و كانّ من كان يأمر بالبراءة عن الإمام عليه السلام يريد أن يجعل الإمام في عداد المشركين و الخارجين عن الدين، و من كان يتبرّأ منه صلوات اللّه عليه يعدّه

من الكفّار، و بهذه المناسبة علّل الإمام عليه السلام نهيه عن البراءة بقوله:

فإنّي ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإيمان و الهجرة، و على هذا فلو أكره على السب، فسبّ فلا شي ء عليه بل و ربّما كان محمودا على فعله كما يشهد بذلك حكاية عمار و نزول الآية الكريمة «مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» «2».

ففي التفسير إنّ قريشا أكرهوا عمار و أبويه على الارتداد فأبى أبواه فقتلا و هما أوّل قتيل في الإسلام، و أعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل يا

______________________________

عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ الناس يروون أن عليا عليه السلام قال على منبر الكوفة: أيّها الناس إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثم تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرّؤوا منّي فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ عليه السلام ثم قال: إنّما قال: إنكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثم ستدعون إلى البراءة عنّي و إنّي لعلى دين محمد، و لم يقل: لا تبرّؤوا منّي، فقال له السائل: أ رأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال: و اللّه ما ذلك عليه و ما له إلّا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ فأنزل اللّه عز و جل فيه «إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عندها: يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل اللّه عز و جل عذرك و أمرك أن تعود إن عادوا.

______________________________

(1) سورة التوبة الآية 1.

(2) سورة النحل الآية 106.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 255

رسول اللّه

إنّ عمارا كفر فقال: كلّا إنّ عمارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه و اختلط الإيمان بلحمه و دمه فأتى عمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و هو يبكي فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يمسح عينيه و قال: مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت «1».

بل و ربّما يستفاد منه و من غيره أن الأفضل له ذلك و إن كان لو لم يجبهم إلى ذلك و لم يسبّ و قتل لذلك لم يكن آثما و مؤاخذا عليه بل هو مأجور و قد تعجّل إلى جنّات النعيم و إلى جوار اللّه ربّ العالمين على حسب ما ورد في بعض الروايات، إلّا أن التقية أفضل.

و مع ذلك كلّه لا بدّ من ملاحظة المصالح و المفاسد و العمل على وفقها فربما يترتب على ترك التقية و على قتله مثلا مفاسد عظيمة فهنا لا بدّ له من التقيّة.

ثم إنّه قد يقال [1]: كيف يمكن القول بأنه يجب قتل من سبّ النبي أو واحدا من الأئمة الطاهرين عليهم السلام و نحن نجد موارد عديدة على خلاف ذلك بل و قد وجدنا موارد كثيرة نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله أو الإمام عليه السلام عن قتل السابّ.

فمن جملة الموارد قول الرجل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ النبيّ ليهجر.

و منها قول الأعرابي للنبي صلّى اللّه عليه و آله: أيّها الساحر الكذّاب الذي ما أظلّت الخضراء و لا أقلّت الغبراء على من هو أكذب منك.

و منها قول رجل عند ما سمع كلاما من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

قاتله اللّه من كافر ما أفقهه [2] و لم يقتله الإمام.

______________________________

[1] قد قاله هذا العبد و أجاب دام ظلّه بما

في المتن.

[2] روي أنه عليه السلام كان جالسا في أصحابه فمرّت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال عليه السلام: إنّ أبصار هذه الفحول طوامح و إنّ ذلك سبب هبابها فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فلئلا مس أهله فإنّما هي امرأة كامرأة فقال رجل من الخوارج. نهج البلاغة الكلمة 412.

______________________________

(1) راجع تفسير الصافي ج 1 ص 941.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 256

و منها كلمات الخوارج و شعارهم مع تلك العقائد الخبيثة الكافرة و أقوالهم الفاضحة بالنّسبة إلى ساحة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و مع ذلك قال الإمام عليه السلام فيهم: لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه «1».

و منها حكاية رجل من ولد الخليفة الثاني الذي كان يؤذي الإمام الهمام موسى بن جعفر عليه السلام و يسبّه إذا رآه و يشتم عليّا عليه السلام فقال له صلوات اللّه عليه بعض جلسائه: دعنا نقتل هذا الفاجر فنهاهم عن ذلك أشدّ المنع إلى أن أتاه يوما في مزرعته و أعطاه مالا و أفضى الأمر إلى أن تاب على يديه و صار من شيعته صلوات اللّه عليه. «2»

و فيه أنه يحمل تلك الموارد و أشباهها إمّا على الجاهل القاصر أو على خوف وقوع الفتنة كما يشعر إلى ذلك ما ورد من نهيه عليه السلام عن صلاة التراويح زمن خلافته و ما وقع عقيب ذلك من غوغاء الناس و رفع أصواتهم بوا عمراه.

و على الجملة فالموانع و المحاذير التي كانت لهم صلوات اللّه عليهم في زمن الخلفاء كانت باقية بعدهم و ما كان يقاسيه علي عليه السلام من المشكلات و الشدائد و الآلام في حياتهم لم ترتفع بعدهم

و بموتهم.

و أمّا قتله عليه السلام الخوارج فلا يدلّ على كمال بسط يده و قدرته و عدم الموانع و ذلك لأن مقاتلته لهم و قتلهم أمر طبيعي في زمن الحرب و عند ما أثاروا نار الفساد.

و الحاصل أنه لا بدّ من الأخذ بمقتضى القواعد و الأدلة، و حمل ما ينافيها على وجود الموانع.

______________________________

(1) نهج البلاغة الخطبة 60.

(2) إرشاد شيخنا المفيد ص 278 و دلائل الطبري ص 150.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 257

سبّ باقي الأنبياء عليهم السلام

و هل الحكم في سائر الأنبياء كذلك أيضا أم لا؟.

قال في المسالك: و في إلحاق باقي الأنبياء بذلك قوّة لأن كمالهم و تعظيمهم علم من دين الإسلام ضرورة فسبّهم ارتداد ظاهر انتهى.

و قال في الرياض: و في إلحاق باقي الأنبياء بهم عليهم السلام وجه قوي لأن تعظيمهم و كمالهم قد علم من دين الإسلام ضرورة فسبّهم ارتداد فتأمّل مع أن في الغنية ادّعى عليه إجماع الإماميّة [1].

و عبارة السيد ابن زهرة في الغنية هذه: و يقتل من سبّ النبيّ و غيره من الأنبياء أو أحد الأئمة. كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة انتهى.

و يدلّ على ذلك ما رواه الطبرسي بإسناده في صحيفة الرضا عليه السلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من سبّ نبيّا قتل و من سبّ صاحب نبيّ جلد «2».

نعم في بعض الروايات ما يدلّ على خلاف ذلك، و الأمر بجلد سابّ غير النبيّ من الأنبياء، مأة و ستّين، ضعف سائر الناس ففي المبسوط: روي عن عليّ عليه السلام إنّه قال: لا أوتى برجل يذكر أن داود صادف المرأة إلّا جلدته مأة و ستين فإنّ جلد النّاس ثمانون و جلد الأنبياء مأة و ستّون

«3».

قوله: صادف المرأة يشير به الى قصّة أوريا. و أورد عليه في الجواهر بقوله:

لكنّه كما ترى انتهى.

و هو كذلك فإنّ من المعلوم أن العمل كان على الأوّل و هذا متروك لم يعمل به.

______________________________

[1] رياض المسائل ج 2 ص 487 أقول: عبارته إلى قوله: ارتداد، عين عبارة الروضة ج 2 ص 303.

______________________________

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(3) المبسوط ج 8 ص 15 باب القذف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 258

الكلام في سباب أمّ النبيّ و بناته و أزواجه

و هل يلحق بهم عليهم السلام أمّ النبيّ و بناته و أزواجه أم لا؟.

قال العلّامة أعلى اللّه مقامه في التحرير: لو قذف أمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو سبّه أو قذف فهو مرتدّ.

و قال الشهيد الثاني في الروضة: و الحق في التحرير بالنبي صلّى اللّه عليه و آله أمّه و بنته من غير تخصيص بفاطمة عليها السلام و يمكن اختصاص الحكم بها عليها السلام للإجماع على طهارتها بآية التطهير [1].

و قال في الرياض: و الحق في التحرير و غيره بالنبي صلّى اللّه عليه و آله أمّه و بنته من غير تخصيص بفاطمة قيل: و يمكن اختصاص الحكم بها للإجماع على طهارتها و هو حسن.

و قال في الجواهر بالنسبة إلى اختصاص الحكم بها سلام اللّه عليها: قلت: هو كذلك بالنسبة إلى قذفها عليها السلام و كذا بالنسبة إلى أمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باعتبار ما علم أنه صلّى اللّه عليه و آله لم تنجّسه الجاهلية بأنجاسها.

فقد تمسّك في طهارة أمّه صلّى اللّه عليه و آله بعدم إصابة أنجاس الجاهلية لذاته الشريف فإنّ ذلك يقتضي طهارة أمه و من المعلوم أن قذفها ينافي طهارة مولد

النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و أمّا بالنسبة إلى فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها فهي بنفسها من أهل الكساء و ممّن نزلت في حقّها آية التطهير «إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «2» و قد صرّح اللّه تعالى بطهارتها، فقذفها ينافي

______________________________

[1] أقول: ذكر في المسالك عين العبارة إلى قوله: عليها السلام، فجملة: و يمكن إلخ من إفاضاته في الروضة فقط، و لعلّ هذا هو الوجه في نقل المطلب في الجواهر عن الروضة دون المسالك.

______________________________

(2) سورة الأحزاب الآية 33.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 259

طهارتها المصرّحة بها على لسان اللّه سبحانه في القرآن الكريم.

و لا يخفى أن ما أفاده بالنسبة إلى أمّ النبيّ الأكرم فهو بعينه جار بالنسبة إلى أمّ أمير المؤمنين عليه السلام بل و أمّهات الأئمة، الطاهرات جمع و منهنّ خديجة سلام اللّه عليها فإنّهم صلوات اللّه عليهم كانوا أنوارا مطهّرة من الأرجاس و الأنجاس بأنفسهم و آبائهم و أمّهاتهم و نقرأ في الزيارات: أشهد أنّك كنت نورا في الأصلاب الشامخة و الأرحام المطهّرة لن تنجسك الجاهلية بأنجاسها.

ثم تعرّض رحمه اللّه للسبّ و حاصل ما أفاده أن سبّ فاطمة سلام اللّه عليها موجب للارتداد و القتل و لعلّه من جهة العلم بكونها كأولادها- الأئمة- سلام اللّه عليهم في الاحترام. و أمّا سب غير فاطمة كأخواتها فإن كان بحيث رجع إلى صدق سبّ النبي فحكمه كسابقه و إلّا فلا.

و قال الشهيد في اللمعة: و قاذف أمّ النبيّ مرتدّ يقتل و لو تاب لم يقبل إذا كان عن فطرة.

و قال في الروضة بشرح العبارة: كما لا تقبل توبته في غيره على المشهور و الأقوى قبولها

و إن لم يسقط عنه القتل، و لو كان ارتداده عن ملّة قبل إجماعا و هذا بخلاف سابّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّ ظاهر النصّ و الفتوى وجوب قتله و إن تاب و من ثمّ قيّده هنا خاصّة و ظاهرهم أن سابّ الإمام كذلك.

و في الجواهر عن حاشية الكركي على اللمعة: و لو قذف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فهو مرتدّ و وجب قتله و لا تقبل توبته إذا كان مولودا على الفطرة و كذا لو قذف أمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو بنته و كذا أمّ الإمام عليه السلام أو بنته انتهى. ثم قال بعد نقل هذه الكلمات: قلت: لا يخفى عليك صعوبة إقامة الدليل على بعض الأحكام المزبورة خصوصا بعد عدم الحكم بالارتداد بما وقع من قذف عائشة و هي زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلخ.

أقول: أمّا بالنسبة للتوبة فظاهر النصوص و الأدلّة قبولها و إن لم يرتفع حكم القتل و ذلك لشمول أدلة التوبة معصية السبّ أيضا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 260

و أمّا قضيّة عائشة فبعد أنه لا يمكن رفع اليد عن الحكم الكلّي البتّيّ بوجوب قتل السابّ فلا بدّ من حملها على ما لا ينافي ذلك:

و يمكن أن يقال: فرق بين ما إذا ذكرت المرأة بقصد سبّ الرجل و شتمه و بين ما إذا كان المقصود هو الزوجة من دون نظر إلى الزوج ليعيّره أو يشتمه و ربّما يكون حين سبّها غافلا عن زوجها فلا يرجع سبّها إلى سبّه مع عدم كونه ملتفتا إلى الزوج بل و مع كونه ملتفتا إذا كان المقصود هو ذمّ الزوجة فقط كما قال اللّه تعالى

«ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَيْنِ فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النّٰارَ مَعَ الدّٰاخِلِينَ» «1» فهنا أيضا لم يكن قذفها سبّا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و راجعا إليه و إن كان الغالب أن قذف امرأة يكون سبّا و هتكا لزوجها.

أو يقال: إنها كانت قضيّة في واقعة و لم يعلم وجهها حتّى تعارض ظواهر الأخبار و ضرورات الدين.

هذا مع أنه قد يقال بأن ذلك كذب عند الشيعة و لا واقعية لها [1].

ثمّ قال في الجواهر: بل قد يشكل جريان حكم المرتدّ على قذف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي يرجع إلى سبّه الذي قد عرفت أن حكمه القتل على كلّ حال

______________________________

[1] في تفسير الصافي عن القمّي: روت العامّة أنها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة و أمّا الخاصّة فإنّهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية و ما رمتها به عائشة إلخ.

أقول: فتأمّل فإنّ مارية أيضا زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، هذا مضافا إلى ما أفاده العلّامة أعلى اللّه مقامه من عدم معرفة الخلاف في أنها في عائشة ففي المسائل المهنائية ص 121: ما يقول سيدنا في قصة الإفك و الآيات التي نزلت ببراءة المقذوفة هل ذلك عند أصحابنا كان في عائشة أم نقلوا أن ذلك كان في غيرها من زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله؟

الجواب: ما عرفت لأحد من العلماء خلافا في أن المراد بها عائشة انتهى.

______________________________

(1) سورة التحريم الآية 10.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 261

نعم ما لا يرجع منه إلى السبّ

يتّجه فيه ذلك.

و فيه أنه إن كان المقصود من الإشكال أنه ليس بمرتدّ فليس بصحيح و إن كان المقصود وجوب قتله من دون استتابة فلا مانع من كون ذلك المرتدّ محكوما بحكم أشدّ من حكم سائر المرتدّين.

هل يتوقّف قتل السابّ على إذن الإمام؟

ثم إنّه بعد أن ثبت وجوب قتل السابّ أو جوازه فهل يتوقف ذلك على إذن الإمام أو الحاكم أم لا بل يستقل السامع للسبّ، في ذلك؟.

ظاهر الكثير و منهم المحقق و صريح آخرين هو الثاني فترى صاحب الرياض عند قول المحقق في النافع بأنه يحلّ دمه لكلّ سامع، قال: من غير توقّف على إذن الإمام. انتهى.

فلا يتوقف ذلك على المراجعة إليه و الاستيذان منه و هو المشهور بين الأصحاب بل المجمع عليه على ما في الغنية حيث قال: و يقتل من سبّ النبيّ و غيره من الأنبياء أو أحد الأئمة و ليس على من سمعه فسبق إلى قتله من غير استيذان صاحب الأمر سبيل، كلّ ذلك بدليل الإجماع انتهى كلامه رفع مقامه.

و يدلّ على ذلك إطلاق النصوص و صريح بعضها كخبر هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّه سئل عمّن شتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الإمام «1».

و لا كلام في دلالته و أمّا من حيث السند فهو حسن كما قد عبّر عنه العلّامة المجلسي رضوان اللّه عليه بذلك «2».

و قد خالف في ذلك الشيخ المفيد قدس سره قال: و من سبّ رسول اللّه أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المرتدّ ح 1.

(2) مرآة العقول ج 23 ص 402.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 262

أحدا من الأئمة فهو

مرتدّ عن الإسلام و دمه هدر يتولّى ذلك منه إمام المسلمين فإن سمعه منه غير الإمام فبدر إلى قتله غضبا للّه لم يكن عليه قود و لا دية لاستحقاقه القتل على ما ذكرناه لكنه يكون مخطئا بتقدمه على السلطان انتهى «1».

و وافقه على ذلك العلّامة في المختلف و استوجه ما ذكره حيث إنه نقل كلام المفيد هذا أوّلا ثم نقل كلام الشيخ في النهاية (و من سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو أحدا من الأئمة عليهم السلام كان دمه هدرا و حلّ لمن سمع ذلك منه قتله ما لم يخف في قتله على نفسه أو غيره) ثم قال: و الوجه ما قاله المفيد لأنه حدّ و المستوفي للحدود هو الإمام «2».

و الدليل على ذلك أوّلا: ملاحظة احترام الإمام في إتيان العمل بإذنه و اطّلاعه و تحت إشرافه فيرجع إلى الأمور الانتظامية.

و ثانيا: خبر عمار السجستاني عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ عبد اللّه النجاشي قال له، و عمار حاضر: إنّي قتلت ثلاثة عشر رجلا من الخوارج كلّهم سمعته يبرء من عليّ بن أبي طالب عليه السلام فسألت عبد اللّه بن الحسن فلم يكن عنده جواب و عظم عليه و قال: أنت مأخوذ في الدنيا و الآخرة فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: و كيف قتلتهم يا أبا بحير؟ فقال: منهم من كنت أصعد سطحه بسلّم حتى أقتله و منهم من دعوته بالليل على بابه فإذا خرج قتلته، منهم من كنت أصحبه في الطريق فإذا خلالي قتلته و قد استتر ذلك عليّ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: لو كنت قتلتهم بأمر الإمام لم يكن عليك شي ء في قتلهم و لكنّك سبقت

الإمام فعليك ثلاثة عشر شاة تذبحها بمنى و تتصدّق بلحمها لسبقك الإمام و ليس عليك غير ذلك «3».

______________________________

(1) المقنعة الطبع القديم ص 116 و الطبع الجديد ص 743.

(2) المختلف ص 821.

(3) وسائل الشيعة ج 19 ب 22 من ديات النفس ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 263

و مرفوع إبراهيم بن هاشم و هو هذا الخبر مع الزيادة و النقصان. فعن علي بن إبراهيم عن أبيه رفعه عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام- أظنه أبا عاصم السجستاني- قال: زاملت عبد اللّه بن النجاشي و كان يرى رأي الزيدية فلمّا كنّا بالمدينة ذهب إلى عبد اللّه بن الحسن و ذهبت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام فلمّا انصرف رأيته مغتمّا فلمّا أصبح قال لي: استأذن لي علي أبي عبد اللّه عليه السلام فدخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام و قلت: إنّ عبد اللّه بن النجاشي يرى رأي الزيدية و إنّه ذهب إلى عبد اللّه بن الحسن و قد سألني أن أستأذن له عليك فقال: ائذن له فدخل عليه فسلّم فقال: يا بن رسول اللّه إنّي رجل أتولّاكم و أقول: إنّ الحق فيكم و قد قتلت سبعة ممن سمعته يشتم أمير المؤمنين عليه السلام فسألت عن ذلك عبد اللّه بن الحسن فقال لي: أنت مأخوذ بدمائهم في الدنيا و الآخرة فقلت: فعلى م نعادي الناس إذا كنت مأخوذا بدماء من سمعته يشتم عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام فكيف قتلتهم؟ قال: منهم من جمع بيني و بينه الطريق فقتلته و منهم من دخلت عليه بيته فقتلته و قد خفي ذلك عليّ كلّه قال: فقال له

أبو عبد اللّه عليه السلام: يا أبا خداش عليك بكلّ رجل منهم قتلته كبش تذبحه بمنى لأنك قتلتهم بغير إذن الإمام و لو أنّك قتلتهم بإذن الإمام لم يكن عليك شي ء في الدنيا و الآخرة «1».

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 263

و فيه مضافا إلى ضعف السند فإن عمار السجستاني أبا عاصم من أصحاب الصادق عليه السلام و هو و إن قيل بأن ظاهره كونه إماميّا إلّا أن حاله مجهول «2» و الخبر في نقل الكليني مرفوع، لم يعمل به الأصحاب و أعرضوا عنه، و على هذا فهو فاقد لشرائط الحجيّة، في قبال الأخبار الماضية التي قد عمل بها الأصحاب و على هذا فلا وجه للحكم باعتبار الإذن من الإمام و يحمل خبر عمّار على الاستحباب و يقال بأنه يستحب الكفّارة المزبورة لو استقلّ في القتل و أقدم عليه

______________________________

(1) الكافي ج 7 ص 376.

(2) راجع رجال المامقاني رضوان اللّه عليه ج 2 ص 317.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 264

بلا استيذان من الإمام، و لا يخفى أن هذه الصدقة مستحبة احتراما للإمام و رعاية لجانبه لا لاحترام المقتول.

و قد يتوهم أن الكفّارة المزبورة واجبة و ذلك لأن المفروض كما هو المصرّح به في النقل الأول هو أن المقتولين كانوا من الخوارج و قد نهى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن قتلهم من بعد شهادته و وفاته بقوله الكريم: لا تقتلوا الخوارج من بعدي [1].

و فيه أن النهي عن قتلهم من حيث هو لا مطلقا حتّى مع سبّهم و شتمهم

له عليه السلام و إثارة الفتنة بين الناس و المفروض في الخبر من هذا القبيل.

و قد يقال: إنّ المنع من الاستقلال على قتل السابّ من جهة كون ذلك من الحدود و أمر الحدود بيد الإمام و لا يجوز لغيره الإقدام عليه بدون الاستيذان منه أو من الحاكم و هذا ما اعتمد عليه العلّامة أعلى اللّه مقامه في المختلف كما تقدم ذلك [2].

و فيه أنه مضافا إلى أن العلّامة بنفسه ذهب في القواعد إلى ما قاله المشهور على ما هو ظاهر كلامه. أن العمدة هو الأخبار فيمكن أن يكون المقام من قبيل التخصيص فأمر الحدود في جميع الموارد بيد الإمام و مرفوع إليه إلّا في هذا المورد و ذلك لمكان هذه الروايات الدّالة على أن للسامع أن يقدم على قتل السابّ بلا افتقار إلى الإذن من الإمام و توقف عليه و إن كان لو رفع الأمر إليه فهو يقتله.

و يحتمل أن يكون المقام من باب التخصّص بأن لا يكون قتل السابّ من باب الحدود فهو خارج عن الحكم الكلّيّ خروجا موضوعيّا، و إن كان يضعف

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب سيدنا الأستاذ الأفخم بما في المتن، و يمكن أن يقال في الجواب-، على ضوء ما أفاده دام ظله- بأن نهيه عليه السلام عن قتلهم كان لأجل بعض المصالح لا أن يكون محرّما رأسا و ذلك لا ينافي جواز قتلهم مع فقد تلك المصالح أو عند مصلحة أقوى في القتل.

[2] أورده أيضا هذا العبد و قد أجاب دام ظله بما في المتن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 265

ذلك إطلاق الحدّ عليه في كلماتهم.

و هل في هذا الحكم فرق بين المسلم و الكافر؟

ثم إنّه هل يختص الحكم بما إذا كان السابّ مسلما

أو يعمّه و الكافر؟.

صرّح في المسالك و الرياض و الجواهر و غير ذلك بعدم الفرق بينهما أصلا.

و قد استدلّ على ذلك بوجهين:

أحدهما: إطلاق النصّ و الفتوى.

ثانيهما: خصوص ما ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعن ابن عبّاس عن عليّ عليه السلام: إنّ يهودية كانت تشتم النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و تقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول اللّه دمها «1».

نعم هنا بحث في خصوص الكافر السابّ إذا أسلم و هو أنه قد ثبت في محلّه أن الإسلام يجبّ ما قبله [2] فإذا أسلم الكافر لا يؤاخذ على ما مضى منه من معاصيه كترك الصلاة و الصيام و غير ذلك، و لا يبعد أن يكون سبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذلك فلو أسلم الكافر السابّ للنبيّ فإنّ إسلامه يكفّر ذلك كسائر معاصيه.

و أمّا إنّه لماذا لم يقتله النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلعلّ ذلك كان لأجل توقّع إسلامه و رجاء أن يرجع و يتوب عمّا كان عليه و لو كان يعجل في قتله لم ينل مراده و لم يدرك رجاءه.

و من ذلك يتّضح ما هو وظيفتنا أيضا بالنسبة إلى الكافر الذي يسبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

______________________________

[2] راجع تفسير القمي ج 2 ص 27 و مثله ما رواه في البحار ج 40 ص 230 عن عليّ عليه السلام: هدم الإسلام ما كان قبله.

______________________________

(1) منقول عن سنن النسائي.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 266

و بذلك ظهر الجواب عمّا يقال: إن سيرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم تكن على قتل من يسبّه بل كان يستمع

إلى شتمهم و سبّهم و لم يجبهم بشي ء أو كان يقول:

اللّهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.

و ذلك لأن إسلامهم الذي يتوقّعه كان يجبّ معاصيهم و من جملتها سبّهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يمكن أن يقال: إنّ ذلك كان من باب العفو فكان له صلوات اللّه عليه أن يعفو عن ذلك و إن لم يكن قد أسلم بل كان باقيا على كفره. و الفرق بينهما إنّ قاعدة الجبّ جارية بالنسبة إلى من قد أسلم عن الكفر بخلاف العفو فإنّه يجري حتى بالنسبة إلى الكافرين لمصلحة يراها الإمام و خصوصا بلحاظ ما هو معلوم من أنهم كانوا يعتنقون الإسلام بعد ما رأوا منه آثار الرحمة و الحنان و العفو و الإحسان بحيث كان يقول بعضهم بعد ذلك مخاطبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كنت أبغض الناس إليّ و الآن أنت أحبّ الناس إليّ.

و بذلك ظهر ما في كلام صاحب الجواهر من التوقف في قتل الكافر السابّ إذا أسلم، و ذلك لأن قاعدة الجبّ تقتضي الحكم بعدم قتله و لا وجه للتوقف أصلا إلّا رعاية حرمة النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و من المعلوم أنه صلوات اللّه عليه ليس بأعظم من اللّه و لا أكثر حرمة منه سبحانه و قد جبّ الإسلام كفره و شركه فكيف لا يجبّ سبّه بالنّسبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟.

الكلام في اعتبار القصد و عدمه

ثم إنّهم ذكروا أنه لا شي ء على غير القاصد للسبّ لغفلة و نحوها.

و نحن نقول: فلو سبّ لكنه كان في مقام المزاح و الهزلة فعلى مقتضى ما ذكروه لا شي ء عليه و لا يجوز قتله.

و هذا مشكل جدا لأن سموّ مقام

النبيّ الخاتم و شموخ مرتبته لا يساعد التفوّه

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 267

بسبّه و لو مزاحا و مداعبة فلا بد من قتل السابّ [1].

نعم لو كان غافلا عن أن هذا سبّ فهناك يصحّ ما ذكروه كما أنه لو كان المراد من القصد هو الاختيار في قبال من سبّ بلا اختيار كما إذا كان عن غضب بالغ مثلا فلما قالوه وجه.

و تدلّ على ذلك رواية علي بن عطية عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كنت عنده و سأله رجل عن رجل يجي ء منه الشي ء على جهة غضب، يؤاخذه اللّه به؟

فقال: اللّه أكرم من أن يستغلق عبده «1».

و في الكافي: و في نسخة أبي الحسن الأوّل عليه السلام: يستقلق عبده.

قال في مجمع البحرين: في الحديث: لا تكن ضجرا و لا غلقا، الغلق بالتحريك ضيق الصدر و رجل غلق: سيّئ الخلق، و فيه: اللّه أكرم من أن يستغلق عبده، لعلّه من الفلق و هو ضيق الصدر، و في بعض النسخ: يستقلق عبده كأنه من القلق بمعنى الحركة و الاضطراب، و في بعضها يستعلق بالعين المهملة كأنه من العلق محرّكة: الخصومة و المحنة [2].

نعم لا يخفى أن الغضب على قسمين:

أحدها ما يوجب سلب الاختيار رأسا بحيث ربّما ضرب نفسه بسلاحه بدلا عن عدوّه و لا يلتفت إلى ذلك.

______________________________

[1] أقول: لعلّه لا ملائمة بين هذا و بين ما تقدم منه دام ظلّه من أن السبّ يمكن أن يكون في بعض الأحايين من باب العصيان لا الإنكار فراجع.

[2] أقول: و في مرآة العقول ج 26 ص 236 قوله عليه السلام من أن يستغلق عبده أي يكلّفه و يجبره فيما لم يكن له فيه اختيار، قال الفيروزآبادي:

استغلقني في بيعته لم يجعل لي خيارا في ردّه. قوله: و في نسخة أبي الحسن الأوّل عليه السلام يستقلق، لعلّه كان الحديث في بعض كتب الأصول مرويّا عن ابي الحسن عليه السلام و فيه كان يستقلق بالقافين من القلق بمعنى الانزعاج و الاضطراب و يرجع إلى الأوّل بتكلّف انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 28 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 268

ثانيها ما لا يكون بهذا الحدّ يعني أنه قد غضب لكنه لم يسلب عنه الاختيار.

و ما ذكروه من عدم مؤاخذة السابّ على سبّه يتم في الفرض الأوّل و أمّا إذا كان الغضب على النحو الثاني الباقي معه الاختيار فلا وجه هناك لعدم ترتب آثار السبّ و إلا فكلّ قتل مثلا يقع في العالم فإنّما هو ناش عن الغضب و قلّ ما يتفق أن يقدم أحد على قتل أحد بلا غضب.

و لذا قال في الجواهر- بعد ذكر المطلب و الاستشهاد عليه بالرواية-:

و إن كنت لم أجد من أفتى به على وجه لا يستلب الغضب اختياره بحيث يسقط عنه التكليف انتهى.

حكم من قال بأن النبي صلّى اللّه عليه و آله كغيره

ثم إنّ ما ذكر كان حكم السابّ فلو لم يسب و إنّما قال: إنّ النبيّ كغيره، فما هو حكمه؟.

أقول: إنّ هذه الجملة لا تعد سبّا و مع ذلك فلا تخلو عن حالين:

فتارة يقتصر القائل على مجرد هذا بلا عناية إلى لوازمه فهذا لا يترتب عليه شي ء فترى أن اللّه سبحانه أمر نبيّه الخاتم أن يقول «إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىٰ إِلَيَّ» «1» فهو أيضا بشر مثل غيره بنصّ اللّه تعالى و إنّما فضله و مزيّته على الناس في نزول الوحي إليه دون غيره، و هذا القائل قد اقتصر

على الجملة الأولى من الآية و لم يذكر تتمة الآية و سكت عن جهة امتيازه على غيره.

و أخرى يريد القائل به أنه كسائر الناس و عامّتهم و كان بصدد إنكار ماله من المزايا و الفضائل الجمّة و هذا ردّ صريح على القرآن الكريم و جحد لما أثبته و بيّنه بالنسبة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إسقاط له عن درجة الرسالة فيترتب عليه آثار ذلك.

______________________________

(1) سورة الكهف الآية 110.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 269

و في رواية مطر بن أرقم قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إنّ عبد العزيز بن عمر الوالي- الوالبي- بعث إليّ فأتيته و بين يديه رجلان قد تناول أحدهما صاحبه فمرس وجهه فقال: ما تقول يا أبا عبد اللّه في هذين الرجلين؟

قلت: و ما قالا؟ قال: قال أحدهما: ليس لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فضل على أحد من بني أميّة في الحسب و قال الآخر: له الفضل على الناس كلّهم في كلّ خير، و غضب الذي نصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فصنع بوجهه ما ترى فهل عليه شي ء؟ فقلت له: إنّي أظنّك قد سألت من حولك فأخبروك، فقال:

أقسمت عليك لمّا قلت، فقلت له: كان ينبغي لمن زعم أن أحدا مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الفضل أن يقتل و لا يستحيى قال: فقال: أو ما الحسب بواحد؟ فقلت: إنّ الحسب ليس النسب ألا ترى لو نزلت برجل من بعض هذه الأجناس فقراك، فقلت: إنّ هذا لحسيب. فقال: أو ما النسب بواحد؟ قلت: إذا اجتمعا إلى آدم فإنّ النسب واحد إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله لم يخلطه شرك و لا بغي فأمر به فقتل «1».

قوله: مرس وجهه أي خدشه بأطراف أصابعه. و الحسب الشرافة [1] قوله:

أو ما الحسب بواحد، كأنه تخيّل أن الحسب هو النسب و لذا سأل أنه هل لا يكون الحسب واحدا؟ و أجابه الإمام عليه السلام بأن الحسب ليس بالنسب و أوضح له ذلك بذكر مثال و هو أن الرجل الشريف الذي قد أحسن الضيافة و بالغ في إكرام ضيفه يعدّ ذا حسب، قوله: القرى الضيافة (و قد ورد في الدعاء: فاجعل قراي في هذه الليلة المغفرة).

و قوله: أو ما النسب بواحد إلخ قد سأل الوالي هنا عن أنه أ ليس نسب النبي و غيره واحدا؟ و أجابه الإمام عليه السلام بأن النسب واحد لانتهائه إلى آدم

______________________________

[1] و في مجمع البحرين: الحسب بفتحتين: الشرف بالآباء و ما يعدّ من مفاخرهم و هو مصدر حسب بالضمّ ككرم و منه: من قصر به عمله لم ينفعه حسبه انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 26 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 270

عليه السلام و لكن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) هو الذي لم يختلط شرك في اعتقاداته و لم يمتزج عمله بالبغي فهو أفضل و إن كان هو أيضا كسائر الناس ينتهي نسبه إلى آدم فإنّ هذا لا ينافي كونه أفضلهم من حيث الحسب و الشرف و الفضيلة [1].

قال في الجواهر: لم أجد من أفتى بمضمونه. و لعلّه لإنكار الضروريّ أو أن ذلك نوع نيل منه فتأمّل.

الطرق التي يثبت بها السبّ

بقي الكلام هنا في ما يثبت به السبّ حتى يترتب عليه القتل.

فنقول: لا إشكال و لا شك في ثبوته باستماع الإنسان بنفسه

ذلك و هو العلم حقيقة و كذلك يثبت بشهادة الشاهدين العادلين و أيضا يثبت ذلك بالإقرار.

و هل يكتفي بإقرار واحد أو أنه لا بدّ من إقراره مرتين؟ مقتضى إطلاق القاعدة هو الأول لأنه بالإقرار مرّة واحدة يصدق أنه قد أقرّ على نفسه فينفذ ذلك.

و قد يقال باعتبار الاثنين لما مرّ في نظائره فكما أنه لا بد في الشهادة على السبّ من اثنين كذلك لا بد في الإقرار به أيضا من مرتين.

و فيه أنه لا وجه لاعتبار ذلك بعد إطلاق القاعدة، و الحكم باعتبار التعدد هنا كما في الشهادة يشبه القياس و قد تقدم هذا البحث في موارد عديدة فراجع.

______________________________

[1] أقول: و يمكن أن يقال: إنّ الإمام عليه السلام كان بصدد إثبات المزيّة لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) حسبا و نسبا أمّا الحسب فللمثال الذي أتى به و أمّا النسب فلأنه و إن كان ينتهي نسبه إلى آدم كغيره لكن لم يكن في سلسلة أجداده باغ و لا مشرك فلم يخلطه شرك و لا بغي لأن أجداده لم يكونوا باغين و لا مشركين.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 271

المسألة الثانية في أن ادّعاء النبوّة يوجب القتل

اشارة

قال المحقق: من ادّعى النبوّة وجب قتله.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده، كما أنه قد ادّعى عدم الخلاف في ذلك غير واحد من العلماء غيره.

و الظاهر أنه لا فرق في مدّعي النبوّة بين كونه مسلما أو كافرا كما أن الظاهر أن قتله ليس لأجل ارتداده بل هو حكم نفس العنوان أي من ادّعى النبوّة و عليه فلا يشترط بشرائط الارتداد بل يقتل بمجرد حصول شرائط التكليف و تحققها.

و تدلّ على ذلك روايات شريفة منها رواية ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه

عليه السلام: إنّ بزيعا يزعم أنه نبيّ فقال: إن سمعته يقول ذلك فاقتله قال: فجلست إلى جنبه غير مرّة فلم يمكني ذلك «1».

و هذه الرواية معتبرة كما قد عبّر عنها بذلك في كلماتهم، و دلالتها واضحة لمكان الأمر بقتل ذاك المدّعي.

و منها رواية أبي بصير يحيى بن القاسم عن أبي جعفر عليه السلام قال في حديث: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أيّها الناس إنّه لا نبيّ بعدي و لا سنّة بعد سنّتي فمن ادّعى ذلك فدعواه و بدعته في النار فاقتلوه و من تبعه فإنّه في النار أيّها الناس أحيوا القصاص و أحيوا الحق لصاحب الحقّ و لا تفرّقوا و أسلموا و سلّموا تسلموا كتب اللّه لأغلبنّ أنا و رسلي إنّ اللّه قويّ عزيز «2».

و منها عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال عن أبيه عن الرضا عليه السلام في حديث قال: و شريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا تنسخ إلى يوم القيامة و لا نبيّ بعده إلى يوم القيامة فمن ادّعى نبيّا أو أتى بعده بكتاب فدمه مباح لكلّ من

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المرتدّ ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد المرتد ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 272

سمع منه «1».

ثمّ إنّ المحقق قدس سره قد تعرّض في هذه المسألة لفرعين:

أحدهما في ادّعاء النبوة، و ما تقدم كان في هذا المقام، و أمّا الفرع الثاني:

حكم من قال: لا أدري محمد بن عبد اللّه صادق أم لا

قال المحقق: و كذا من قال: لا أدرى محمّد بن عبد اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) صادق أو لا و كان على ظاهر الإسلام.

و على هذا فمن كان مسلما

في ظاهر الأمر و مع ذلك أبدى شكّه في رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله فإنّه يقتل. و قد ادّعى في الجواهر عدم خلاف يجده في ذلك.

و تدل عليه روايات. منها ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من شك في اللّه و في رسوله فهو كافر «2».

و منها رواية الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: لو أن رجلا أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: و اللّه ما أدري أ نبىّ أنت أم لا، كان يقبل منه؟ قال: لا و لكن كان يقتله، إنّه لو قبل ذلك ما أسلم منافق أبدا «3».

و الرواية الأولى و إن كانت ساكتة عن حكم القتل و إنّما اقتصر فيها على ذكر كفره الذي ليس هو بنفسه مقتضيا للقتل إلا أن الرواية الثانية ناطقة بذلك فهي تدلّ على أن النبيّ الأعظم كان يقتل من يبدي الشك في نبوّته.

و قد علّل الإمام الصادق عليه السلام ذلك بأن قبوله صلوات اللّه عليه ترديد الشاك كان موجبا لأن لا يسلم المنافق ابدا.

بيان ذلك أنه لو كان إظهار الترديد موجبا للقتل لكان ذلك بنفسه سببا لأن

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المرتد ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد المرتد ح 22.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حدّ المرتد ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 273

يخاف المنافق من إبداء شكّه بل ربما كان ذلك موجبا لأن يسلم و لو ظاهرا و هو أيضا مؤثّر في مجد الإسلام و شوكته و كيانه بخلاف ما لو قبل ذلك

منه و خلّي سبيله فإنّه لا يزال يبقى على حاله و يظهر شكّه و ترديده و يروّج الكفر و الفساد، و حيث إنّ المنافقين كانوا يعلمون أن الشاك أي المظهر بالشك و الترديد يقتل فلذا كانوا يسلمون و لا أقل من إظهارهم الإسلام و عدم إظهارهم الترديد في أمر الدين و كيف كان فقد دلّت الروايات على قتل مدّعي النبوّة و كذا الشاك فيها.

نعم هنا إشكال و هو أن مقتضى كلام المحقق هو قتل الشاك إذا صرّح بشكّه قائلًا: إنّي لا أدري.، و لكن مقتضى رواية عبد اللّه بن سنان قتل الشاك مطلقا و إن لم ينطق بذلك و على هذا يرد أنه لا يقتل من هو أعظم من الشاك و هو المنكر المعتقد بالعدم إذا لم يكن ينطق بكفره كما في المنافقين فلم يكن البناء على قتلهم بل كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون يعاملون المنافقين معاملة المسلم فمن كان كافرا في الباطن منافقا حقيقة لكنه لا يبدي شيئا بل يقرّ بالإسلام، يحكم في الظاهر بإسلامه و يرتب عليه أحكام المسلمين إلى أن يظهر ما يخالف ذلك فكيف بالشّاك الذي هو على ظاهر الإسلام، فالشاك الذي لم يظهر شكّه و كان على ظاهر الإسلام محكوم بكونه مسلما فإذا أبدى الشك و قال: لا أدري، يصير مرتدّا عن الإسلام.

و على هذا فلو كان الكافر في الرواية بمعناه المصطلح فلا بدّ من أن يكون قد أبدى شكّه و إلّا فالمراد من الكفر هو الكفر الباطني لا ما يوجب ترتيب أحكام الكفر.

ثمّ إنّه صرّح الشهيد الثاني و كذا بعض آخر بأن الحكم في باب مدّعي النبوّة أيضا من باب الارتداد كما في باب الشك

قال في المسالك: أمّا وجوب قتل مدّعي النبوّة فللعلم بانتفاء دعواه من دين الإسلام ضرورة فيكون ذلك ارتدادا من المسلم و خروجا من الملل الّتي يقرّ أهلها، من الكافر فيقتل كذلك، و أمّا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 274

الشك في صدق النبيّ فإن وقع من المسلم فهو ارتداد (ثم قال:) و احترز بكونه على ظاهر الإسلام مما لو وقع ذلك من الكافر الذمّي كاليهوديّ و النصرانيّ فإنّه لا يقتل به إقرارا لهم على معتقدهم و كذا يخرج به غير الذمّيّ من الكفار و إن كان قتله جائزا بأمر آخر انتهى كلامه رفع مقامه.

و فيه أنه و إن كان قتل الشاك بحسب الظاهر لأجل الارتداد لا لموضوعية الشك و القول المخصوص إلا أنه بالنسبة إلى السب أو ادّعاء النبوّة لعلّ الأمر لا يكون كذلك فإنّ ادّعاء النبوّة- بعد أنه من المسلّم أنه لا نبيّ بعد النبيّ الخاتم- يوجب القتل سواء نشأ ذلك من المسلم أو الكافر كما تقدم ذلك.

ثمّ إنّ في قبال ما ذكرنا في الشاك من الحكم بالكفر و القتل بعض الروايات الدالّ على أن الشك بمجرده غير مؤثر في هذا و إنّما يوجب الكفر إذا كان مقرونا بالجحد.

ففي صحيحة محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام جالسا عن يساره و زرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد اللّه ما تقول فيمن شك في اللّه؟ فقال: كافر يا با محمّد قال: فشك في رسول اللّه؟ فقال: كافر، ثم التفت إلى زرارة فقال: إنّما يكفر إذا جحد [1] فإنّ لازمها و المستفاد منها أن

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ المرتدّ

ح 56 أقول: و مثلها رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا (الكافي ج 2 ص 388) و هاتان الروايتان صريحتان في أن الكفر بعد إظهار الإسلام يدور مدار الجحد و الإنكار و بدون ذلك فهو محكوم بحكم الإسلام و إن كان شاكّا مظهرا لشكّه و ترديده، و هذا ينافي ما أفاده المحقق من قتل من قال لا أدري أن محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله صادق أم لا حيث إنّ المفروض هناك عدم الجحود و الإنكار و إنّما كان شاكّا مظهرا لشكّه، و قد كان سيدنا الأستاذ يقول في حلّ الإشكال بأن الجحد من باب أحد الأفراد و المصاديق لا من باب الخصوصية و قد أوردت بأن لفظ إنّما ينافي ذلك لأنه للحصر فأجاب دام ظلّه بأن قول لا أدرى بعد الإظهار و الاعتراف يعدّ جحودا عرفا فذكرت بأنه لو كان في العرف كذلك لكن الرواية

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 275

الشاك في حدّ نفسه منافق و أنه بدون الإنكار لا يحكم عليه بالكفر فإذا أفصح عن إنكاره فهناك يكفر و على ذلك فالنسبة بينهما العموم و الخصوص المطلقان.

فرع في مدّعي الإمامة

ثم هنا فرع قد تعرّض له صاحب الجواهر فقال: و قد يلحق مدّعي الإمامة بمدّعي النبوّة.

و على ما ذكره البعض من الإلحاق فمدّعي الإمامة يقتل كمدّعي النبوّة.

و بذلك يشكل الأمر و يتوجّه الإيراد بأنه فلما ذا لم يقدم المسلمون بقتل المدّعين لذلك.

و لعلّه يمكن أن يجاب عنه بأنه فرق بين ادّعاء الإمامة و ادعاء الخلافة، و الذي كان الخلفاء يدّعونه هو الخلافة و الإمارة و لذا يتمسّكون

بأعذار واهية مثل أن عليّا عليه السلام شابّ لا يقبله الناس و لا يستسلمون لأمره، و كان والد بعضهم ينقض عليه في استدلاله: بأنه على ذلك فإنّي أحقّ بها منك لا أنهم يدّعون مقامه الرفيع و علمه الغزير بل ربّما كانوا يراجعون إليه في الأحكام و أحيانا يعترفون بفضله الشامخ و مقامه السامي و أنه لولاه صلوات اللّه عليه لهلكوا و إنّما كانوا ينكرون النصب و التعيين و لعلّ موضوع النصب لم يكن بحيث يعدّ من الضروريات بين المسلمين قاطبة.

و يمكن حل الإشكال بطريق آخر كعدم مساعدة الشرائط مثلا كما لا يخفى.

______________________________

تخطّي العرف و تحقق أن الملاك هو الجحود و أجاب دام ظله بالآخرة بأنه إذا أظهر شكّه صدق عليه أنه جحد و يشمله الرواية.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 276

في الشاك في الإمامة

قال المحقق: و كذا من شك فيه و كان على ظاهر التشيّع كي يكون بذلك منكرا لضروريّ الدين بعد أن كان عنده من الدين هو ما عليه من المذهب فهو حينئذ كمن أنكر المتعة ممّن كان على مذهب التشيّع و في جملة من النصوص إنّ الشاك في عليّ كافر.

أقول: و على ما ذكره فمن كان بحسب الظاهر من الشيعة معترفا بحقانيّته و مع ذلك أبدى شكّه في الإمامة أو المتعة أو غير ذلك مما هو من ضروريات مذهب الشيعة الذي اتخذه دينا له و يرى أحكامه أحكام الدين فحينئذ قد شك فيما يراه من الدين، و يلزم كفره.

و أمّا ما ذكره من النصوص فمنها خبر المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أبو جعفر عليه السلام: إنّ اللّه جعل عليّا عليه السلام علما بينه و بين خلقه ليس

بينه و بينهم علم غيره فمن تبعه كان مؤمنا و من جحده كان كافرا و من شك فيه كان مشركا [1].

و لا يخفى أن الخبر بظاهره منصرف عمّن شك و كان كافرا بل هو منصرف إلى المسلم الذي شك فيه، إلّا أن المراد هنا هو الكفر الباطني لا الكفر المصطلح لكنّ القائل بالكفر قد أخذ بظاهره الذي يفيد أنه قد خرج عن الإسلام بمجرد أن شكّ في ذلك.

و قد قال في الجواهر في ختام المطلب: و لكنّ الإنصاف بعد ذلك كلّه عدم خلوّ الحكم المزبور من إشكال.

ثمّ إنّ الحكم في إنكار واحد من الأئمة عليهم السلام هو الحكم في إنكار عليّ عليه السلام كما صرّح بذلك هو قدس سره فراجع.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ المرتدّ ح 13 و مثله على ما صرّح به سيدنا الأستاذ دام ظله الوارف في مذكّراته ح 14 و 21 و 40 فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 277

المسألة الثالثة في قتل الساحر المسلم

قال المحقق: من عمل بالسحر يقتل إن كان مسلما و يؤدّب إن كان كافرا.

أقول: إنّ أصل الحكم في الجملة لا خلاف فيه نصّا و فتوى لكن فيه موارد للكلام و فروع و مطالب يبحث فيها:

منها: الفرق بين المسلم و الكافر و الوجه في ذلك حتى يحكم بالقتل في المسلم دون الكافر.

فنقول: إنّ مستند الفرق و منشأ التفصيل هو الروايات فمنها رواية السكوني التي قد يعبّر عنها بالمعتبرة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ساحر المسلمين يقتل و ساحر الكفّار لا يقتل فقيل يا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله-: و لم لا يقتل ساحر الكفّار؟

قال: لأن الكفر- الشرك- أعظم من السحر و لأن السحر و الشرك مقرونان «1» و بها يقيّد ما دلّ على قتله مطلقا و سيأتي بعضها في مطاوي الأبحاث الآتية.

و أمّا ما علل به التفصيل و الفرق بين المسلم و الكافر فمفاده أن في الكافر ما هو أعظم و أشدّ من السحر و هو الكفر و مع ذلك لا يقتل به فإذا لم يقتل بالأشدّ فهو أولى بأن لا يقتل بالأضعف.

لكن لا يخفى أن هذا التعليل ليس بتعليل حقيقيّ و إلّا فاللازم عدم قتله بأيّ فعل أتى به و أي موجب من موجبات القتل كالزنا في بعض الموارد و اللواط و قتل النفس المحترمة و ذلك لأن هذه الأمور أيضا ليست بأعظم من الكفر و الشرك فإنّ الشرك أعظم من كلّ معصية و هو لا يقتل به و الحال أن الكافر يقتل قودا أي إذا أقدم على قتل نفس محترمة، و كذا غيره من المعاصي الموجبة للقتل.

و منها أنه هل الملاك في الموضوع هو كونه ساحرا اتّخذ السحر شغلا و حرفة له أو أنه لا يعتبر كونه كصنعة له بل يكفي مطلق العمل بالسحر كما يظهر ذلك من

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب بقيّة الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 278

عبارة المحقق؟.

الظاهر هو الثاني، و ذلك لوجهين:

أحدهما: التبادر فإنّ المتبادر من قوله صلوات اللّه عليه بأن الساحر يقتل هو أنه يقتل لسحره و لأجل فعله و عمله نظير القول بأن السارق تقطع يده المتبادر منه أنه تقطع يده لسرقته لا لاتّخاذ السرقة شغلا لنفسه و حرفة له و إن لم يقع منه سرقة.

ثانيهما: ذيل المعتبرة المذكورة آنفا و

هو قوله: لأن الشرك و السحر مقرونان فإنّه عبّر بالسحر الذي هو نفس العمل و لم يذكر الساحر كي يحتمل إرادة من اتّخذ السحر شغلا و حرفة لنفسه و هذه قرينة صارفة عن كون الساحر بما هو ساحر موضوعا للحكم بل السحر مقرون بالكفر و هو موجب للقتل و على هذا فيكفي مجرد العمل في ترتب الحكم، و الملاك هو الفعل و الإتيان به.

و أمّا ما في رواية إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه إنّ عليّا عليه السلام كان يقول: من تعلّم شيئا من السحر كان آخر عهده بربّه، و حدّه القتل إلّا أن يتوب. «1» من قتل متعلّم السحر.

ففيه إنّ الرواية ضعيفة و لم يعمل بها في ذلك. هذا مع إمكان حملها على ما إذا تعلّم فعمل به.

و منها: أنه قد ذكر أن ساحر الكفّار لا يقتل و قد صرّح المحقق بتعزيره إلّا أنه ليس في روايات الباب أثر و ذكر أصلا عن تعزيره و تأديبه كما أنا لم نجد ما يدلّ على أن كلّ من أتى بكبيرة لا حدّ لها في الشرع فإنّه يعزّر عليها.

نعم ذكر الأردبيلي قدس سره في شرح الإرشاد موارد كثيرة ورد فيها التعزير بصريح روايات شريفة ثم قال: و يمكن استفادة الكليّة من هذه الأخبار.

انتهى.

فإن قلنا باستفادة الكلّي منها فيحكم بأن الكافر إذا عمل بالسحر،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من بقيّة الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 279

و المفروض أنه لا يقتل، فإنّه يعزّر على فعله. لكن هذا موقوف على الجزم باستفادة الكلية و إلا فيشكل الحكم.

و قد يقال: إنّ مقتضى رواية عليّ بن الحسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه عز و جل جعل لكلّ شي ء حدّا و جعل على من تعدّى حدّا من حدود اللّه عزّ و جلّ حدّا. «1» هو وجوب تعزير الكافر بسحره حيث إنّه قد تجاوز الحدّ المقرّر و هو حرمة السحر، فأتى به و ارتكبه و حيث إنّه لا حدّ بالنسبة إلى الكافر فإنّه يعزّر.

و فيه ما ذكرناه من قبل من إجمال هذا الخبر، و ربّما يشمل قوله جعل على من تعدّى حدّا من حدود اللّه حدّا، غير العقوبة أيضا كمن تعدّى في صلاته سهوا إذا لزم جبر ذلك بسجدة السهو أو قضاء الصلاة.

و منها: طريق ثبوته، و المعروف ثبوت ذلك بالبيّنة و بالإقرار.

و خالف في ذلك بعض فقال بانحصار ثبوته في الإقرار و أنه لا يثبت بشهادة الشاهدين.

و استدلّ على ذلك بأن الشاهد لا يعرف قصده و لا يشاهد تأثيره «2».

و يدلّ على الأوّل خبر زيد بن عليّ عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال:

سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الساحر فقال: إذا جاء رجلان عدلان فشهدا بذلك فقد حلّ دمه «3». فإنّه صريح في ترتيب الأثر على شهادة العدلين بذلك و أنه يقتل الساحر بذلك.

و أمّا ما ذكره المخالف من الإشكال ففيه إنّه ليس عمل السحر بنحو لا يمكن مشاهدته بل قد يشاهد و لو بآثاره بحيث يقطع أن هذه الآثار مستندة إلى سحر الساحر و عمله الخفيّ بل و قد وقع في موارد كثيرة أنه قد علم تحقق السحر

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من مقدمات الحدود ح 2.

(2) راجع مفاتيح الشرائع للفيض الكاشاني ج 2 ص 101 و الرياض ج 2 ص

487.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب بقيّة الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 280

و آثاره فيها و ذلك كما في قصة سحرة فرعون فقد شاهد موسى عليه السلام و الناس آثار سحرهم بحيث خاف موسى من ذلك قال اللّه تعالى «قٰالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذٰا حِبٰالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسىٰ قُلْنٰا لٰا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلىٰ.» «1» إلى غير ذلك من الموارد و كثيرا، ترى أنه يشتهر بين الناس أن فلانا سحره فلان و أثّر فيه كذا و كذا.

و على الجملة فالسحر يثبت بشاهدين كما يثبت بالإقرار، و هل يعتبر فيه اثنان أو أنه يكتفى بإقرار واحد؟.

مقتضى دليل حجيّة الإقرار و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز هو الثاني.

و أمّا اعتبار التعدد تمسكا بالاحتياط فغير تام و ذلك لدوران الأمر بين المحذورين حيث إنّه كما يحتمل أن يكون أمر القتل موكولا إلى المرّة الثانية و موقوفا عليها كذلك يحتمل أن يكون مترتّبا على المرّة الأولى فلا يجوز تأخيره إلى الثانية خصوصا بلحاظ أنه ربّما ينكر في المرّة الثانية أو لا يساعد الأمور إقراره الثاني.

نعم لو كان الأمر بنحو حصل الشك فقاعدة الدرء جارية كما إذا لم يحصل الاطمئنان بمؤدّى كلامه بإقراره الأوّل فيقال له: ما ذا تقول؟ أو تدري ما تقول؟ فإذا أقرّ ثانيا فهناك يقتل و أمّا بدون ذلك فظاهر الدليل أخذه بالمرّة الأولى، و قد تقدم البحث في ذلك مرارا في نظائر المسألة.

و منها إنّه هل يفرق في الحكم بقتل الساحر بين ما إذا كان مستحلّا و غير مستحلّ أو أنه لا

فرق بينهما أصلا؟. الظاهر عدم الفرق بينهما فإنّ مقتضى الروايات هو قتله من حيث هو ساحر لا لكونه مستحلّا، و لا أثر عن ذكر المستحلّ في تلك الأخبار، إذا فلا وجه لاختصاصه به كما قيل [1].

______________________________

[1] أقول: ذكر الشهيد قدس سره في الدروس ص 327 بالنسبة للسحر: و يقتل مستحلّه.

______________________________

(1) سورة طه آيات 66 و 67 و 68.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 281

و منها أن تعلّم السحر إن كان للعمل فيحرم كشراء العنب ليعمل خمرا و يشرب و إن لم يكن لذلك بل كان لإبطال السحر فلا يحرم بل قد يجب كمن يتعلّم لإبطال سحر من يدّعي النبوّة.

المسألة الرابعة في تأديب الصبيّ

اشارة

قال المحقق: يكره أن يزاد في تأديب الصبيّ على عشرة أسواط و كذا المملوك.

هذه المسألة ممّا يكثر الابتلاء بها فيجدر أن يتأمّل فيها كثيرا و يلاحظ جوانبها كاملا.

فنقول: لا شك في أن الظلم و التعدّي حرام بلا كلام، و لا شك أيضا في أن ضرب الصبيّ غير المميز من مصاديق الظلم و لا يجوز ضربه عقلا سواء أ كان الضارب أباه أو غيره لأنه على الفرض غير مميز لا يعلم أن ضربه للتأديب أو لغير ذلك لعدم معرفة تلك العناوين و لا يترتب على ضربه إلّا أذاه فلا يجوز ذلك مطلقا. و كذا لا يجوز ضرب الصبيّ المميز، للغضب و تشفّي القلب.

و أمّا إذا كان ضربه للتأديب فهل يجوز ذلك أم لا؟ و على الأوّل فإلى أيّ مقدار يجوز؟ و على الجملة فضرب الطفل و كذا مقداره يحتاجان إلى مسوّغ شرعي و دليل يجوّز ذلك.

______________________________

و قال الفيض الكاشاني في المفاتيح ج 2 ص 102: قيل إنّما يقتل مستحلّه انتهى. و لم يعيّن القائل، و

الظاهر أن مراد صاحب الرّياض من الحاكي الذي هو من متأخري المتأخرين هو الفيض، قال في الرياض: ثمّ إن مقتضى إطلاق النص و الفتوى بقتله عدم الفرق فيه بين كونه مستحلّا له أم لا و به صرّح بعض الأصحاب و حكى آخر من متأخري المتأخرين قولا بتقييده بالأوّل. و وجهه غير واضح بعد إطلاق النصّ المنجبر ضعفه بعد الاستفاضة بفتوى الجماعة و عدم خلاف فيه بينهم أجده و لم أر حاكيا له غيره انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 282

و التحقيق أن ما يصدر منه الذي يحمل الوالد مثلا أو المعلّم على أن يعزّره و يؤدّبه قسمان:

أحدهما: ما كان من قبيل المعاصي التي لو أقدم عليها الكبير كان يحدّ عليها كاللّواط و غير ذلك.

ثانيهما: ما لا يكون كذلك كالأمور العرفيّة التي يعتني بها المجتمع الإنساني كالمواظبة على السّلام و الآداب الإنسانية و كرامتها، فيضربه على أنه لم يسلّم عند وروده في المجلس أو أنه لم يواظب على أداء احترام الأشخاص و تعظيم الأكابر.

أمّا الأوّل فيمكن إثبات جواز ذلك لما مرّ في أوائل بحث القذف من أنه لو قذف الصبيّ فإنّه لا يحد و لكنّه يعزّر، بأن يقال إنه لا اختصاص بباب القذف بل يجري ذلك في كلّ المعاصي و المحرمات فإنّه على ذلك يستفاد منه حكم كلّي و هو أنه كلّما ارتكب الصبي ما لو ارتكبه الكبير يحدّ عليه فهو يعزّر عليه.

و أمره في الزيادة و النقصان بيد من بيده التعزير فيختلف باختلاف عمله و حاله زيادة و نقصا شدّة و ضعفا.

و أمّا المورد الثاني فالظاهر فيه أيضا الجواز و ذلك لأن وظيفة الوالدين تأديب أولادهم و تربيتهم على الأخلاق الكريمة و الآداب

الحسنة، و تمرينهم و تعويدهم على كرائم العادات و فعل الحسنات و منعهم عن كلّ عمل يضرّ بأنفسهم و بغيرهم، و على وليّ الأطفال تكميل نفوسهم [1] و سوقهم إلى ما فيه

______________________________

[1] أقول: ففي نهج البلاغة: و أما حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه و يحسن أدبه و يعلّمه القرآن.

و في الصحيفة السجّادية: و أعنّي على تربيتهم و تأديبهم و برّهم.

و في رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام: و أمّا حقّ ولدك فتعلم أنه منك و مضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره و شرّه و أنك مسئول عما وليته من حسن الأدب و الدلالة على ربّه و المعونة له على طاعته فيك و في نفسه فمثاب على ذلك و معاقب على

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 283

صلاحهم و سدادهم، و ضرب الأطفال لهذه المقاصد المهمّة و الأهداف العالية لا يعدّ ظلما و إنّما هو إحسان إليهم كي يسعدوا بها في حياتهم و يفوزوا بها بعد مماتهم فضرب الصبيّ حينئذ كالعملية الجراحية التي توجب الألم و لكنها إحسان إلى المريض [1].

هذا بالنسبة إلى المقام الأوّل و هو أصل جواز ضرب الصبيّ المميّز تأديبا.

و أمّا المقام الثاني و هو كميّة ضربه أي المقدار الذي يجوز ضرب الصبيّ به، فمقتضى ما ورد في باب التعزيرات من رعاية الحاكم المصلحة هو أن الأمر بنظر الوليّ فكلّما أوجب بنظره الإصلاحي و كان دون الحدّ فهو جائز له.

إلا أن في بعض الروايات ما يخالف ذلك فعن حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام في أدب الصبيّ و المملوك فقال: خمسة أو ستّة و أرفق «1».

و عن السكوني عن أبي عبد

اللّه عليه السلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال: أما إنّها حكومة و الجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب أقتصّ منه [2] و الكتّاب بالضمّ المكتب كما في الوافي ج 2 ص 75 من الحدود

______________________________

الإسائة إليه فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا إلخ راجع تحف العقول ص 189.

و عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ خير ما ورّث الآباء لأبنائهم الأدب لا المال. روضة الكافي.

و قال أمير المؤمنين عليه السلام: أدّب اليتيم بما تؤدّب به ولدك و اضربه بما تضرب به ولدك. وسائل الشيعة ج 15 ب 85 من أحكام الأولاد ج 1.

[1] مآل استدلاله دام ظلّه إلى قاعدة الإحسان و قوله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) سورة التوبة الآية 91.

[2] وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقيّة الحدود ح 2 أقول: و في الفقيه ج 4 ص 72:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقية الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 284

و التعزيرات، و كذا قال في المنجد.

و ظاهر هاتين الروايتين و خصوصا الثانية منهما عدم جواز التعدّي عن المقدار المذكور في كلّ واحد منهما فإنّ الاقتصاص ظاهر في أنه كان الزائد محرّما، و الاقتصاص لا يساعد الكراهة.

هذا مضافا إلى أن منتهى الضرب في هاتين بالنسبة إلى الصبيّ بمقتضى الرواية الأولى هو السّتّة و بمقتضى الثانية ثلاثة و إن كانت الأولى مطلقة و الثانية مختصّة بالمعلّم، و كيف كان فلا ذكر عن العشرة فيهما.

نعم في مرسلة الصدوق قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله: لا يحلّ لوال يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلّا في حدّ و أذن في أدب المملوك من ثلاثة إلى خمسة [1]. و هنا قد ذكرت العشرة إلّا أن الرّواية متعرّضة للوالي.

اللّهم إلا أن يقال إنّ المراد من الوالي هو والي الحدّ و من بيده أمره، أو بعدم الخصوصيّة له، و إن كان المراد من الوالي معناه المصطلح لكن بتنقيح المناط يقال بذلك في غيره. و لعلّ نظر المحقق من ذكر العشرة كان إلى هذه الرواية إلا أن التعبير ب لا يحلّ و كذا توصيف الوالي بالإيمان باللّه و اليوم الآخر الذي يفيد أن

______________________________

روي أنه دنا من أمير المؤمنين عليه السلام صبيّان فقالا: يا أمير المؤمنين خاير بيننا قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ الجور في هذا كالجور في الأحكام أبلغا مؤدبكما عنّي أنه إن ضربكما فوق ثلاث كان ذلك قصاصا يوم القيامة. قوله: خاير أي اختر بينهما و أحكم أيّهما خير و المراد خير الخطّين.

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقية الحدود ح 2، أقول: و قد يستدلّ بصحيحة حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه قال: لا بأس أن يؤدب المحرم عبده ما بينه و بين عشرة أسواط.

قال بعض الأعاظم: و هذه الصحيفة و إن وردت في المحرم إلّا أنه إذا جاز للمحرم أن يضرب عبده عشرة أسواط جاز لغيره بالأولوية.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 285

المتعدّي عن ذلك الحدّ و هذه الكميّة ليس بمؤمن باللّه و رسوله لا يساعدان القول بكراهة ما زاد عن العشرة مع أنه قدس سره صرّح بكراهيته.

هذا مضافا إلى أنه لا محصّل للقول

بكراهة ما زاد عليها لأنّه لو لم يتوقف تأديبه على أكثر منها فالزائد عليها حرام حيث إنّه ظلم و إيذاء كما تقدّم و هو حرام فهل هو مع كونه ظلما يكون مكروها؟ و إن توقف عليه فلا يجوز له تركها.

و الحاصل أن الكلام تارة في وليّ الطفل كالأب و أخرى في معلّمه.

أمّا الأوّل فيجوز له ضرب الصبيّ إذا توقف عليه تأديبه و تربيته، و ظاهر الأخبار أن الأمر بيده و لا حاجة في ذلك إلى استيذان من الحاكم، خلافا لسائر موارد التعزيرات، و قد تقدم منّا أنه لا يقتصر في ذلك على ما إذا صدر عن الصبيّ ما هو خلاف المشروع بل يجري فيه و فيما كان من الأمور الاجتماعيّة التي يراعيها أولياء الطفل- الذين كان الطفل تحت رعايتهم- بالنسبة إليه.

و أمّا كميّة ضربه ففي رواية حمّاد خمسة أو ستّة و يمكن استفادة غير ذلك كثلاثة مثلا من سائر الأخبار. و لعلّ هذا الاختلاف محمول على المناسبات المختلفة و الحالات و الظروف المتفاوتة المتكاثرة، و الملاك الكلّي هو ما يتوقف عليه تأديبه و تكميله مع مفروغيّة عدم جواز بلوغه الحدّ الشرعي.

نعم لا يجوز التعدّي عمّا يحصل به التأديب، كثيرا أو قليلا.

و أمّا الثاني أي المعلّم فمقتضى رواية السّكوني جواز ضربه الأطفال و الظاهر عدم الفرق في ذلك بين إتيان الطفل ما هو خلاف الشرع أو ما هو خلاف برامج المكتب و المناهج التعليميّة و التربويّة و الأنظمة الخاصة الحاكمة على محلّ التعليم، أو الطقوس المعمولة و الرائجة لترفيع الأطفال بالدرس و غير ذلك.

هذا مضافا إلى أن هذا الضرب كان لتكميلهم و تربيتهم فهو إحسان إليهم فيجوز كما في الوالد بالنسبة لولده. هذا بالنسبة إلى ضرب

المعلم الصبيّ الذي يتعلّم منه ولديه.

و أمّا كميّته فمقتضى رواية السكوني هو الاقتصار على ضربه ثلاثة فلا يجوز

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 286

له أن يتجاوز عن ذلك المقدار بل يقتصّ منه إذا تجاوز نظير ما ورد من الاقتصاص من الحدّاد، اي مجري الحدّ، إذا تعدّى عن الحدّ [1].

و على الجملة فليس المعلّم كالحاكم في كون التعزير بيده و منوطا بنظره بل يجب عليه أن لا يتعدّى عن ذلك، و ذلك لقرينة الاقتصاص المذكور في الرواية.

و هل هو مستقلّ في تأديبه بهذا المقدار أم لا بل يحتاج إلى إذن الوليّ؟.

أقول: الظاهر عدم استقلاله في ذلك بل هو محتاج إلى إذن الوليّ فإنّ قصده و إن كان إصلاحيّا نظرا إلى أنه يريد ترفيع مقامه بأخذ الدروس و تعلّمها و صيرورته فطنا ماهرا في العلم و الثقافة لكن ربما لم يكن لأبيه هذا الاهتمام و هو لا يريد صيرورة ولده عالما نحريرا و لا يرضى لابنه أن يضرب و إن لم يتعلّم شيئا فلو نهاه والده عن ضربه مثلا و علم بعدم رضاه فهناك يشكل الإقدام على ضربه و لو بالمقدار المزبور و هو خلاف الاحتياط إلّا أن يستأذن وليّه و هو قد أذن في ذلك. اللهم إلّا أن يقال بأن تسليم الوليّ الطفل إلى الكتّاب أو المدرسة مع ما هو كالسيرة الدائرة الرائجة هناك من ضربهم الأطفال في بعض الموارد بل و توقف التعليم و التربية في بعض الأحايين على ذلك من قبيل إذن الوليّ في ضرب الطفل و هو كإمضاء لتلك السيرة المستمرة، و على ذلك فلو صرّح الأب بأن هذا الطفل لا يستعدّ بحسب حاله للضرب أو نهاه عن ضربه فلا

يجوز له ضربه.

و يمكن التفصيل بين ما إذا كان ضربه الطفل لمكان أنه قد فعل ما هو من قبيل المعاصي و المحرّمات و بين ما إذا أتى بما لا يساعد الأنظمة و البرامج الجارية هناك و كان ضربه لتعليمه و قراءته و كتابته و ما يتعلق بهذه الأمور أو لتأديبه فعلى الأوّل يكون له الإقدام على ضربه استقلالا بخلاف الثاني فإنّه يعتبر فيه إذن

______________________________

[1] ففي الكافي ج 7 ص 260 عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أمر قنبر أن يضرب رجلا حدّا فغلظ قنبر فزاد ثلاثة أسواط فأقاده عليّ عليه السلام من قنبر ثلاثة أسواط.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 287

الوليّ.

ثمّ إنّ الظاهر من ثلاثة ضربات هو ضربه بالسوط لكن الظاهر عدم الخصوصيّة له بل الملاك هو كلّ ما كان دائرا و رائجا في كلّ عصر و زمان فإذا لم يكن السوط رائجا بل كان المتعارف هو الضرب بالخشب أو باليد فالحكم أيضا كذلك و ذلك لتنقيح المناط و وحدة الملاك. هذا كله بالنسبة إلى الصبيّ.

و أمّا المملوك ففي رواية حمّاد المذكورة آنفا: خمسة أو ستة، و الأمر بالرفق كالصبيّ بعينه بل هو كما علمت مقرون بذكر الصبيّ.

و في رواية زرارة بن أعين قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما ترى في ضرب المملوك؟ قال: ما أتى فيه على يديه فلا شي ء عليه و أمّا ما عصاك فيه فلا بأس. قلت: كم أضر به؟ قال: ثلاثة أو أربعة أو خمسة «1».

و عن أبي هارون العبدي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال لبعض غلمانه في شي ء جرى: لو انتهيت و إلّا ضربتك ضرب الحمار «2».

و

عن تفسير النعماني عن عليّ عليه السلام قال في حديث: و أمّا الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار فإنّ اللّه تعالى رخّص أن يعاقب العبد على ظلمه فقال اللّه تعالى: جزاء سيّئة مثلها، و هذا هو فيه بالخيار فإن شاء عفا و إن شاء عاقب «3».

و عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ربّما ضربت الغلام في بعض ما يجرم قال: و كم تضربه؟ قلت: ربما ضربته مأة، فقال: مأة؟

مأة؟ فأعاد ذلك مرّتين ثم قال: حدّ الزنا؟ اتّق اللّه فقلت: جعلت فداك فكم لي أن أضربه؟ فقال: واحدا فقلت: و اللّه لو علم أني لا أضربه إلّا واحدا ما ترك لي شيئا إلّا أفسده قال: فاثنين فقلت: هذا هو هلاكي، قال: فلم أزل أماكسه حتى بلغ خمسة ثم غضب فقال: يا إسحاق إن كنت تدري حدّ ما أجرم فأقم الحدّ فيه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقيّة الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب بقيّة الحدود ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقيّة الحدود ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 288

و لا تعد حدود اللّه «1».

و عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ عليه السلام قال:

اضرب خادمك في معصية اللّه عز و جل و اعف عنه فيما يأتي إليك «2».

و عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل هل يصلح له أن يضرب مملوكه في الذنب يذنبه؟ قال: يضربه على قدر ذنبه إن زنى جلده و إن كان غير ذلك فعلى قدر ذنبه السوط و

السوطين و شبهه و لا يفرط في العقوبة «3».

و عن أحمد بن محمد في مسائل إسماعيل بن عيسى عن الأخير عليه السلام في مملوك يعصي صاحبه أ يحلّ ضربه أم لا؟ فقال: لا يحلّ أن يضربه إن وافقك فأمسكه و إلّا خلّ عنه [1].

و أنت ترى أنه ليس في هذه الروايات ذكر عن العشرة إلّا في مرسل الفقيه المذكور آنفا الوارد في الوالي. و قد تقدم أنه يمكن التمسّك به بالقول بإرادة والي الحدّ أو بتنقيح المناط و كيف كان فالحكم بكراهة الأزيد الذي ذكره المحقق غير واضح الوجه فإنّ الظاهر أن الأمر يدور بين عدم جواز الزيادة إذا حصل التأديب بها و عدم جواز الترك إذا توقف على الزيادة.

قال صاحب الجواهر في حلّ الإشكال: فلا بدّ من حمل ذلك على حال عدم العلم بالحال. انتهى.

و لكن الظاهر أنه ليس بتام لأنه في فرض عدم العلم بالحال، و عند الشك يحرم الضرب و يحتاج ذلك إلى المسوّغ اليقيني. نعم يمكن أن يحمل الجواز على

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2 و قوله: عن الأخير، قال في مرآة العقول: كأنه أبو الحسن الثالث عليه السلام.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 30 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 30 من أبواب مقدّمات الحدود ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 30 من أبواب مقدّمات الحدود ح 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 289

وجه الكراهة على أقليّة الثواب فإنّ الواجب التوصّلي أيضا لو أتي به بقصد القربة يترتب عليه الثواب فتربية الطفل موجبة للأجر و الثواب و كلّ واحد من الأقلّ و الأكثر من

مراحل التربية و لكن الإكتفاء بالأقلّ أولى.

كفارة من ضرب عبده فوق حدّه

قال المحقق: و قيل إن ضرب عبده في غير حدّ حدّا لزمه إعتاقه و هو على الاستحباب.

أقول: و القائل هو الشيخ في النهاية. قال في الجواهر: و لفظه: من ضرب عبده فوق الحدّ كان كفّارته أن يعتقه انتهى.

و فيه أنه ليس هذا لفظ النهاية بل نصّه هذا: و الصبيّ. و المملوك إذا أخطئا أدّبا بخمس ضربات إلى ستّ و لا يزاد على ذلك فإن ضرب إنسان عبده بما هو حدّ كان عليه أن يعتقه كفارة لفعله انتهى «1». ترى أنه ليس في عبارة النهاية لفظة (فوق) و لعلّ النسخة الموجودة عند صاحب الجواهر منه كانت متضمنة لها أو أن ذلك كان قد زيد في قلمه أو قلم النسّاخ.

و كيف كان فالدليل عليه هو صحيح أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: من ضرب مملوكا حدّا من الحدود من غير حدّ أوجبه المملوك على نفسه لم يكن لضاربه كفّارة إلّا عتقه «2».

لكن لسان هذا الخبز غير ما قالوه، فإنّه متعلّق بما إذا ضرب المملوك حدّا من دون سبب و بلا موجب للحدّ و هو بمعزل عن كلامهم إلّا أنه غير معمول به عند الأصحاب فلم يعملوا بهذا الخبز و لا بالمضمون المذكور و لذا قال في الجواهر:

فيتّجه حينئذ حمله على الندب.

______________________________

(1) النهاية ص 732.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 290

و فيه أن عتق العبد مستحبّ و إن لم يكن هذه الجهة، اللّهم إلّا أن يراد بالندب آكديّته و زائدا على طبعه.

و في المختصر النافع أن الاستحباب المزبور لمن زاد في تأديبه على العشرة.

قال: يكره

أن يزاد في تأديب الصبيّ من عشرة أسواط، و كذا العبد، و لو فعل استحبّ عتقه.

و أورد عليه في الجواهر بقوله: و إن لم أجد له شاهدا بل و لا موافقا انتهى.

و أمّا ما أورده صاحب الجواهر على الشيخ بعد ذكر صحيح أبي بصير مستندا للمطلب بقوله: إلّا أنه كما ترى لم يعتبر فوق الحدّ الذي ذكره الشيخ.

ففيه أنه غير وارد على الشيخ إلّا على ما حكاه من عبارته المشتملة على لفظة (فوق) و أمّا على ما نقلناه فلم يكن فيها هذه اللفظة كي يستشكل عليه بما ذكره الجواهر.

ثم قال: و الظاهر أن الاستحباب المزبور للمولى، و ربّما احتمل استحبابه أيضا لغيره بأن يشتريه و يعتقه لكنه ليس بشي ء انتهى.

أقول: و الظاهر أن مراد المحتمل من استحبابه لغيره هو أنه لو ضربه آخر لا مولاه فإنّه يستحبّ لهذا الغير أن يشتريه و يعتقه. و أمّا احتمال أن يراد منه أنه لو ضربه مولاه يستحبّ للغير أن يشتريه و يعتقه، فهو بعيد بل هو خلاف ظاهر نفس الرواية حيث تقول: لم يكن لضاربه كفّارة إلّا عتقه، و من المعلوم أنه لا معنى لارتكاب المولى الجرم و أداء غيره الكفارة، و لا مناسبة بين كون كفارة ضرب المالك على غير المالك، بخلاف الاحتمال الأول الذي عليه يكون الكفارة على من ارتكب الضرب غاية الأمر إسراء الحكم عليه عن المولى إلى غيره و ربّما يكون هذا ظاهر لفظ الرواية حيث عبّر فيها بقوله عليه السلام: من ضرب مملوكا، و هو نكرة في سياق النفي و لم يقل من ضرب مملوكه، كي يختصّ بضرب المولى عبده.

و إن أمكن أن يقال إنّ الظاهر بحسب الاعتبار و التبادر الذهني هو ضرب

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 291

المولى عبده. هذا تمام الكلام في هذا المقام.

تذكرة فقهيّة أخلاقية

ثم إنّه لا بدّ من أن يكون المقصود و الهدف في مقام الضرب هو التأديب الراجع إلى مصلحة الصبيّ لا ما يثيره الغضب النفساني و إلّا فربّما يؤل الأمر إلى أن يؤدب المؤدّب لأن ضربه لم يكن للّه تبارك و تعالى. و على هذا فلا بدّ من أن يكون ضربه في الحال الطبيعي العادي لا حال الغضب و لو كان مغضبا يكون غضبه للّه تعالى لا لنفسه حتى يسوغ ضربه و هذه الحالة قلّما توجد إلّا في النفوس الزكية الطاهرة.

و قد ورد في حالات أمير المؤمنين عليه السلام إنّه ألقى عدوّه على الأرض و جلس على صدره و لمّا أراد أن يقطع رأسه فإذا هو قد ألقى بصاقه عليه فقام الإمام و تركه قليلا ثمّ رجع و قتله و حيث سئل عن إعراضه الأوّل ثم رجوعه إلى العدوّ أجاب بأني غضبت في تلك الوقت لما صنع العدوّ بالنسبة إليّ فلم أقتله في هذه الحالة لثوران نار الغضب فتركته كي يسكن غضبي ثم أتيته و قتلته كي يكون عملي خالصا للّه تبارك و تعالى لا ناشئا عن الأهواء النفسانية و إشباعا لها «1».

لكن أين هو عنّا و أيّ إنسان يملك نفسه و هواه عند غضبه، و يقدر على إطفاء نائرة غيضه، و الإقدام على الضرب للّه تعالى محضا و خالصا لوجهه الكريم إلّا أنه لو حصل للإنسان هذا المقام فله الأثر الخاص في كمال النفس و تهذيبه و هو منشأ سعادته في الدنيا و الآخرة.

______________________________

(1) عين الحياة للعلّامة المجلسي قدس سره ص 587.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 292

المسألة الخامسة في ثبوت ما فيه التعزير بشاهدين أو الإقرار مرّتين

اشارة

قال المحقق قدس سرّه: كلّ ما فيه التعزير من حقوق اللّه سبحانه و تعالى يثبت بشاهدين أو الإقرار مرّتين على قول.

أقول: هنا بحثان: أحدهما إنّ ما كان فيه التعزير من حقوق اللّه يثبت بشاهدين. قال الشهيد الثاني في المسالك: أمّا ثبوته بشاهدين فلا إشكال فيه لأن ذلك حقّ ليس بمال فلا يثبت. انتهى.

و في الجواهر: بلا خلاف و لا إشكال.

و قد يقرر ذلك بأنه ليس من قبيل الزنا كي يحتاج إلى أربعة شهود و لا من قبيل حقوق الناس الذي يمكن أن يقال بكفاية شاهد و يمين فيها فلا بدّ هنا من شاهدين إذا أريد الإثبات بالبيّنة.

ثانيهما: إنّه يثبت بالإقرار و قد نسب في عبارة المتن اعتبار التعدّد إلى القول، و لم يعيّن القائل و هو مشعر بالضعف، و لا يخفى أن القائل بالقول المزبور هو ابن إدريس رضوان اللّه عليه و بعض آخر، بل في المسالك: هو المشهور و لم يذكر العلّامة فيه خلافا.

و ذهب الآخرون إلى كفاية الإقرار مرّة واحدة في إثبات المطلب و ترتب الأحكام. و ذلك بمقتضى قولهم عليهم السلام: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز و صدق الإقرار بالمرّة الواحدة المقتضي للاكتفاء بها مع عدم مخصّص في المقام.

و قد تقدم أن توجيه القول الأوّل بأن يقال بحصول الشبهة بالمرة الواحدة و هو يقتضي الدرء و عدم الإكتفاء في التعزير بمرّة واحدة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 293

تعزير من قذف عبده أو أمته

قال المحقق: و من قذف عبده أو أمته عزّر كالأجنبيّ.

أقول: لمّا كان الشرط في حدّ القاذف هو كون المقذوف حرّا فإذا كان مملوكا كان القاذف يعزّر على ذلك بدلا عن الحدّ فحينئذ نبّه قدس سره على أنه لا فرق في ذلك بين

كون القاذف هو المولى أو غيره و أن مجرد كونه مولى أو مولاة له لا يوجب رفع التعزير.

و في الجواهر بعد عبارة المتن: بلا خلاف لحرمته إلخ.

و يدلّ على ذلك الروايات الشريفة عموما و خصوصا.

أمّا الأوّل فمنها رواية عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لو أتيت برجل قذف عبدا مسلما بالزنا لا نعلم منه إلّا خيرا لضربته الحدّ حدّ الحرّ إلّا سوطا «1».

و منها خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من افترى على مملوك عزّر لحرمة الإسلام «2».

و من المعلوم أن لفظ (رجل) في الأولى و كذا من الموصولة في الثانية مطلق يشمل المولى و غير المولى. و قوله عليه السلام في الأولى: إلّا سوطا، للإشارة إلى التعزير فإنّه دون الحدّ.

و أمّا الثاني فهو خبر غياث عن جعفر عن أبيه قال: جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه إنّي قلت لأمتي: يا زانية فقال: هل رأيت عليها زنا؟ فقالت: لا. فقال: أما إنّها ستقاد منك يوم القيامة، فرجعت إلى أمتها فأعطتها سوطا ثم قالت: اجلديني فأبت الأمة فأعتقها ثم أتت إلى

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف، ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف، ح 12.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 294

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته فقال: عسى أن يكون به «1».

و ما يتوهّم من اشتمالها على خلاف القاعدة من إرجاع التعزير إلى غير الحاكم، ففيه أن التعزير لم يقع و إنّما كان مجرد قول من هذه المرأة و لم يعلم تقرير النبي صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم لها في ذلك. و يحتمل أيضا أنه كان من باب التعزير و احتملنا عفو صاحب الحق بلحاظ أنه من حقوق الناس.

و كيف كان فهي تدلّ قطعا على أن هذه المرأة قد ارتكبت معصية عظيمة بحيث هددها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه ستقاد منك يوم القيامة، فلا بدّ أن يكون عليها التعزير مع أن المفروض أن الرمي بالزنا كان من سيدة إلى أمتها.

نعم يبقى الإشكال في أنه لماذا لم يعزرها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟.

و قد أجاب عنه في الجواهر بقوله: و لعلّ ترك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تعزيرها لعدم إقرارها مرّتين. انتهى.

المسألة السادسة في مورد التعزير [1]

قال المحقق: كلّ من فعل محرّما أو ترك واجبا فللإمام تعزيره بما لا يبلغ الحدّ و تقديره إلى الإمام و لا يبلغ به حدّ الحرّ في الحرّ و لا حدّ العبد في العبد.

و هنا أمور:

أحدها: إنّه لا شك في أن هذا الحكم مختصّ بالمعاصي التي لم يكن عليها حدّ مجعول و عقوبة مقررة معينة من الشارع و ذلك لأنه لم يعهد في مورد أن يعاقب أحد على ذنب واحد له حدّ بالحد و التعزير كليهما.

ثانيها: إنّ المحقق أطلق و عمم الحكم لكلّ معصية لكن صاحب الجواهر قيّد

______________________________

[1] أقول: قد تعرّض دام ظله لهذا البحث سابقا، على التفصيل، فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ القذف، ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 295

ذلك بكونها من الكبائر. و لعلّ الظاهر هو هذا فإنّ الصغائر مكفّرة مع الاجتناب عن الكبائر بصريح الكتاب كما قال اللّه تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ

سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً».

لا يقال: إنّ التكفير متعلّق بالآثار الأخروية كالعقاب و العذاب و هو بمعزل عن التعزير.

لأنا نقول: لا خصوصية لعقاب الآخرة، بل التعزير أيضا نوع عقوبة فيرتفع هذا الأثر كما يرتفع عذاب اللّه في الآخرة و في رواية زرارة عن حمران قال:

سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل أقيم عليه الحدّ في الدنيا أ يعاقب في الآخرة؟ فقال: اللّه أكرم من ذلك «1». فبصريح الرواية إنّ اللّه تعالى أجل و أكرم من أن يعاقب في الآخرة من أقيم عليه الحدّ في الدنيا «2».

ثالثها إنّ صاحب الجواهر ادّعى عدم الخلاف و الإشكال نصا و فتوى على المطلب أي الحكم بالتعزير. و فيه أنه لو أمكن تصديقه في الثاني أي عدم الخلاف و الإشكال بحسب الفتوى فلا يمكن تصديقه في الأوّل أي عدم الخلاف و الإشكال بحسب النصّ و ذلك لما تقدم منّا غير مرّة أن استفادة المطلب من النصوص مشكل و سيأتي البحث فيه أيضا إن شاء اللّه تعالى.

رابعها في الدليل على ذلك و طريق إثباته، و هو وجوه:

منها التمسّك بالاستقراء و فحص الموارد الجزئية و الحكم بالكلّي و قد تمسّك بذلك المحقق الأردبيلي قدس سره على ما تقدم سابقا [1] و قد مضى الإشكال في

______________________________

[1] فإنّه (عند قول العلّامة: و كلّ تعريض بما يكرهه المواجه يوجب التعزير) تعرّض للبحث و صرّح بأن الدليل على الكليّة لا يكاد يوجد ما يكون نصّا فيه نعم قد يوجد في الأخبار ما يمكن فهمه منها و قدر بعضها، ثم نقل تلك الأخبار ثم قال في آخر الصفحة: فيمكن استفادة الكليّة من هذه الأخبار.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 31.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب

مقدّمات الحدود ح 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 296

ذلك فإنّ بعض الذنوب و المعاصي ربما صدر عن بعض الأفراد و لم يقع من المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين بالنسبة إليهم تعزير و لا صدر منهم عليهم السلام أمر بذلك. و إن أمكن أن يقال بكونها صغيرة في تلك الموارد.

و لكن الظاهر خلافه للعلم بأنه قد وقع بعض الكبائر و لم يحكموا عليه بالتعزير.

و منها ما تمسّك به بعض من الروايات الدالة على أن لكلّ شي ء حدّا و لمن تجاوز ذلك الحد حدّا و هي عدة روايات أخرجها في الوسائل في باب 2 من أبواب مقدّمات الحدود.

و فيه ما مرّ سابقا من إجمال تلك الروايات من جهات فلا يعلم أن المراد كلّ الأشياء حقيقة بلا استثناء أو أنه أشياء خاصة، كما لا يعلم أن المراد من حدّ كلّ شي ء ما هو؟ و كذلك لا يعلم المراد من الحدّ الذي جعله على من تجاوز الحدّ.

نعم لو جزم أحد بأن المراد إنّ اللّه تعالى جعل للأشياء أحكاما و مقررات و قرر على من تجاوز عنها حدّا و كان المراد من الحدّ الثاني ما يشمل التعزير لكان حسنا و لكن الكلام في استفادة ذلك.

قال في الجواهر في البحث عن شمول التعزير للتوبيخ مثلا: قد يستفاد التعميم مما دلّ على أن لكلّ شي ء حدّا و لمن تجاوز الحدّ حدّا بناءا على أن المراد من الحدّ فيه التعزير انتهى. و مراده إنّه بناءا على ذلك يمكن أن يقال بعدم اختصاص التعزير بالضرب بل التوبيخ و التعنيف أيضا من مراحل التعزير.

و فيه إنّ مجرد البناء لا ينفع شيئا و النزاع في ظهور هذه الروايات و عدمه و هو غير

ثابت [1].

______________________________

و قد تعرّض رحمه اللّه للبحث ثانيا بنحو الإجمال بعد ورقتين من هذا عند قول العلّامة أعلى اللّه مقامه: و كلّ من فعل محرّما أو ترك واجبا عزّره الإمام انتهى.

[1] أقول: و قد يتمسّك بحفظ النظام و تقريره كما تقدم أن الإسلام قد اهتم بحفظ النظام المادي و المعنوي و إجراء الأحكام على مجاريها و هذا يقتضي أن يعزر الحاكم كلّ من خالف النظام.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 297

و الحاصل إنّه لا دليل لنا تطمئن إليه النفس في الحكم بوجوب التعزير في كلّ معصية بل و لا في خصوص الكبائر منها.

خامسها إنّ التعزير يكون بما دون الحدّ و ذلك لصريح الرواية ففي صحيح حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: كم التعزير؟ فقال: دون الحدّ قال: قلت: دون ثمانين؟ قال: لا و لكن دون أربعين فإنّها حدّ المملوك.

قال: قلت: و كم ذاك؟ قال: على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل و قوّة بدنه «1».

فهذا لا كلام فيه و إنّما البحث و الإشكال في المراد من هذا الحدّ الذي يكون التعزير دونه، و لا بدّ من تعيين ذاك الحدّ حتى يعتبر التعزير إليه و يحكم بوجوب كون التعزير دونه و أقلّ منه. و ها هنا وجوه و احتمالات:

فمنها أنه هو الحدّ الكامل و هو حدّ الزنا أي المائة جلدة.

و منها أقلّ الحدود و هو الخمسة و السبعون، حدّ القيادة فإنّه أقلّ جميع الحدود بالنسبة إلى الأحرار.

و منها أن يكون المراد الأربعين فإنّه أقلّ الحدود الذي ليس دونه حدّ و هو حدّ العبد فيعتبر في التعزير أن لا يبلغ الأربعين و إن كان التعزير تعزير الأحرار [1].

و

منها أن المراد هو الحدّ المناسب للعمل الذي يريد التعزير عليه فالمعيار في ما ناسب الزنا كالتفخيذ و اللمس و الاضطجاع مع الأجنبية هو الزنا، فيجب أن لا يبلغ حدّه و هو مأة، و في ما ناسب القذف كالتعريض يعتبر أن يكون دون حدّ القذف و هو ثمانون و في ما ناسب شرب الخمر يشترط أن يكون أقلّ من حدّه و هو أيضا الثمانون و في ما يناسب القيادة لا بدّ أن لا يبلغ حدها و هو خمس

______________________________

[1] و في الرياض: لا ريب أن الاقتصار عليه أحوط و أولى و إن لم أجد به قائلًا انتهى بل هو مختار الشيخ قدس سره في المبسوط كتاب الحدود ص 66 فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقيّة الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 298

و سبعون.

و هذه الوجوه المختلفة كلّها بحسب الاستظهار و إلّا فلم يصرّح في الروايات بشي ء منها سوى الوجه الثاني فإنّه مذكور في رواية حمّاد بن عثمان المذكور آنفا حيث قال الإمام في بيان التعزير: دون الحد. و لمّا سأل الراوي قائلًا: دون ثمانين؟ أجاب عليه السلام: لا و لكن دون أربعين، و علّل ذلك بقوله عليه السلام: فإنّها حدّ المملوك. فمقتضى هذه الرواية أن الملاك هو ما دون الأربعين و يعتبر التعزير بالنسبة إليه فأيّ معصية وقعت من المجرم و أريد تعزيره فإنّه لا يجوز أن يبلغ الأربعين.

و لكنّ الالتزام بذلك مشكل و ذلك لاستفادة لزوم مراعاة المناسبة من الأخبار الواردة في الرجل و المرأة الذين يوجدان تحت إزار واحد و في لحاف واحد المصرّحة بأنّهما يجلدان مأة إلّا سوطا كصحيحة حريز و رواية الشّحّام و

خبر أبان فراجع الباب العاشر من أبواب حدّ الزنا ح 3 و 19 و 20 و لذا أفتى بذلك المحقق قدس سره في جميع مناسبات الزنا كالتقبيل و المضاجعة في إزار واحد و المعانقة و نحو ذلك مما هو استمتاع بما دون الفرج فإذا رأينا ملاحظة المناسبة في هذه الأخبار بالنسبة إلى العمل المناسب للزنا فنقول بذلك في غير باب الزنا أيضا و النتيجة أنه إذا كان العمل مناسبا للقذف فهناك نقول بوجوب تعزيره في ما دون الثمانين بما يراه الحاكم و هكذا و يقتصر في العمل برواية حمّاد المذكور آنفا على موردها [1].

و على الجملة فإنّه يلاحظ في تعزير كلّ معصية الحدّ المجعول للمعصية المناسبة لها.

قال في المسالك: و كون غايته أن لا يبلغ به الحدّ، الأجود أن المراد به الحدّ لصنف تلك المعصية بحسب حال فاعلها فإن كان الموجب كلاما دون القذف لم

______________________________

[1] أقول: و ما هو موردها بعد أن السؤال عن التعزير مطلقا؟ و هل الذي أفاده سيدنا الأستاذ الأفخم دام ظلّه العالي إلّا طرح هذه الصحيحة؟.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 299

يبلغ تعزيره حدّ القذف و إن كان فعلا دون الزنا لم يبلغ حدّ الزنا و إلى ذلك أشار الشيخ و العلّامة في المختلف انتهى.

و أمّا جعل الملاك هو حدّ الزنا مطلقا و في جميع الموارد فإن كان حرا يعزّر بما دون المائة و إن كان عبدا فبما دون الخمسين الذي هو حدّ العبد، فهو بعيد. و كيف يمكن أن يقال بأن من قذف مثلا يحدّ ثمانين و لكن لو عرّض فإنّه يجوز تعزيره إلى تسع و تسعين مع أن التعريض أقلّ و أهون من القذف؟! [1].

و على

هذا فالقول بمراعاة المناسب هو الأولى [2].

ثم إنّه قال في كشف اللثام عند قول العلّامة: (و كلّ من فعل محرّما أو ترك واجبا كان للإمام تعزيره بما لا يبلغ الحدّ لكن بما يراه الإمام و لا يبلغ حدّ الحرّ في

______________________________

[1] أقول: لو استفدنا من الأخبار أن الملاك هو حدّ الزنا مطلقا فلا استبعاد فيما ذكره دام ظلّه نقضا عليه و ذلك لابتناء الفقه على التعبد و جمع المفترقات و تفريق المجتمعات و أنت ترى أن صاحب الجواهر اختار ذلك بحسب ظاهر كلامه حيث قال في تفسير حدّ الحرّ الوارد في كلام المحقق و هو المائة انتهى و هذا هو الذي ذهب إليه ابن إدريس مصرّحا بأنه مقتضى أصول المذهب و الأخبار عند إيراده على الشيخ.

فإنّ الشيخ قال في الخلاف في باب الأشربة مسألة 14: لا يبلغ بالتعزير حدّا كاملا بل يكون دونه، و أدنى الحدود في المماليك أربعون و التعزير فيهم تسعة و ثلاثون إلخ. و قد نزّله ابن إدريس في السرائر في أواخر حدّ السحق على أنه إذا كان الموجب للتعزير مما يناسب الزنا و نحوه مما يوجب مأة جلدة فالتعزير فيه دون المائة و إن كان مما يناسب شرب الخمر أو القذف مما يوجب ثمانين فالتعزير فيه دون الثمانين ثم اعترض ابن إدريس عليه بقوله: و الذي يقتضيه أصول مذهبنا و أخبارنا أن التعزير لا يبلغ الحدّ الكامل الذي هو المائة أيّ تعزير كان سواء كان مما يناسب الزنا أو القذف و إنّما هذا الذي لوّح به شيخنا من أقوال المخالفين و فرع من فروع بعضهم و من اجتهاداتهم و قياساتهم الباطلة و ظنونهم العاطلة انتهى.

[2] أقول: ذهب إليه الشيخ و الحلبي،

قال في الكافي ص 420: و التعزير لما يناسب القذف من التعريض و النبز و التلقّب من ثلاثة أسواط إلى تسعة و سبعين سوطا و لما عدا ذلك من ثلاثة إلى تسعة و تسعين سوطا انتهى و اختاره في المسالك كما اختاره العلّامة في المختلف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 300

الحرّ و لا حدّ العبد في العبد انتهى) موضحا قوله: ما لا يبلغ الحدّ إلخ. بقوله: (و لا حدّ العبد في العبد): ففي الحرّ من سوط إلى تسعة و تسعين و في العبد من سوط إلى تسعة و أربعين كما في التحرير، و قد مرّ القول بأنه يجب أن لا يبلغ أقل الحدّ و هو في الحرّ ثمانون و في العبد أربعون و بأن التعزير فيما ناسب الزنا يجب أن لا يبلغ حدّه و فيما ناسب القذف و الشرب يجب أن لا يبلغ حدّه، و سمعت بعض الأخبار في ذلك، و ما ورد فيه تقدير كالوطي في الحيض و في الصوم و وطي أمة يتزوّجها بدون إذن الزوجة الحرّة فالأشبه أنه إن عمل بالنصوص المقدّرة فيها فهي حدود.

ثم قال: ثم وجوب التعزير في كلّ محرّم من فعل أو ترك إن لم ينته بالنهي و التوبيخ و نحوهما فهو ظاهر لوجوب إنكار المنكر و أمّا إن انتهى بما دون الضرب فلا دليل عليه إلّا في مواضع مخصوصة ورد النصّ فيها بالتأديب أو التعزير، و يمكن تعميم التعزير في كلامه و كلام غيره لما دون الضرب من مراتب الإنكار انتهى.

أقول: قوله: فهو ظاهر انتهى يعني ظاهرا أنه يجب تعزيره لأنه لا ينتهي بالنهي و التوبيخ لأنه يجب إنكار المنكر و أمّا إن انتهى بما دون

الضرب فلا دليل على وجوب التعزير إلّا في الموارد المنصوصة.

و فيه أوّلا إنّ أدلّة التعزير مطلقة لا تختصّ بما إذا لم ينته بدون الضرب فإنّها تفيد أن عليه ذلك سواء أمكن انتهاؤه بالتوبيخ و التعنيف أم لا؟.

و ثانيا إنّ البحث في التعزيرات بمعزل عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و لكلّ واحد منهما موضع خاص فالنهي عن المنكر يتعلّق بما قبل العمل و عند إرادة الإتيان به فينهى من كان بصدد الارتكاب عنه و ينكر عليه و هذا بخلاف التعزير فإنّه بعد وقوع العمل و تحقّقه، فهو بعينه كالحدّ الذي يعاقب الفاعل بعد عمله به.

نعم قد يترتب عليه الأثر بالنسبة إلى القابل فلا يأتي به بعد ذلك أبدا إلّا أنه

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 301

ليس كليّا و ترى أنه قد لا يؤثّر بالنسبة إلى ما بعد ذلك أصلا بل يأتي به و يرتكبه بعده أيضا و لذا يكرر تعزيره، و في بعض الأوقات ينجرّ إلى قتله- فتأمّل.

و على الجملة فقولهم: كلّ من فعل محرّما يعزّر يراد به تعذيبه و عقوبته على عمله بعد أن صدر عنه و تحقق منه و أين هذا من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر الذي هو مقدمة لترك المعصية و ذريعة إلى أن لا يأتي بها.

و بعبارة أخرى: إنّ التعزير جزاء و عقوبة للعمل القبيح سواء ارتكبه مسبوقا بالنهي عنه أم لا.

و كلامه هذا يؤل إلى أنه لا تعزير في غير الموارد المنصوصة فإنّه في غيرها إن انتهى بالقول الغليظ و التعنيف و التوبيخ فلا يجوز الضرب و إن لم ينته بدون ذلك فإنّه يضرب لكنّ الضرب بنفسه من مراحل الأمر بالمعروف و النهي عن

المنكر.

نعم إنّه قد تعرّض في آخر كلامه لأمر آخر و هو إمكان تعميم عنوان التعزير بالنسبة للضرب و غيره من الشتم و التوبيخ مثلا.

لكن هذا لا يرفع الإشكال لأن هذا شي ء و أن التعزير غير الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لكلّ منهما مورد و محلّ غير الآخر، شي ء آخر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 302

حدّ المسكر و الفقاع

اشارة

أقول: إنّ المسكر هو ما يسمّى في الفارسية ب (مست كننده) و لم يتعرّض المحقق و كثير من المتقدمين و المتأخرين لتعريف المسكر الذي هو محل الكلام و البحث.

نعم قد تعرّض صاحب الجواهر لذلك قائلًا: الذي يرجع فيه إلى العرف كغيره من الألفاظ. و قد تخلّص في الحقيقة عن ذلك بأن المراد منه هو ما يفهمه العرف أنه مسكر. ثم قال: و إن قيل هو ما يحصل معه اختلال الكلام المنظوم و ظهور السرّ المكتوم، أو ما يغيّر العقل و يحصل معه سرور و قوّة النفس في غالب المتناولين، أمّا ما يغيّر العقل لا غير فهو المرقد إن حصل معه تغيب الحواسّ الخمس و إلّا فهو المفسد للعقل كما في البنج و الشوكران، و لكن التحقيق ما عرفته فإنّه الفارق بينه و بين المرقد و المخدّر و نحوهما مما لا يعدّ مسكرا عرفا انتهى.

و عليه فقد عرّفه بعض بما حاصله: هو ما يحصل بسببه اختلال في نظم الكلام و نسقه و ترتيبه، و يظهر به ما لا يظهره العقلاء من الأسرار، فالسكران يتفوّه بكلمات و جملات مخلّة النظام و غير المرتبط بعضها مع بعض و بذلك يعرف السامعون أن المتكلّم سكران كما أنه قد يقدم على ذكر الأسرار المكنونة و إبداء ما يهتمّ العقلاء بإخفائه و

عدم ذكره و يعتنون بكتمانه بحيث يعلم من ذكر تلك الأمور أنه ليس في حال طبيعي و إلّا لم يكن كذلك.

و هو عند بعض آخر ما يغيّر العقل و يحدث سرورا و نشاطا و قوّة في النفس غالبا، و ترى أن من شرب الخمر مثلا فهو كالحيوان الذي انحلّ عقاله لا يتحرّك على ميزان صحيح و لا يسير على منهاج معقول فقد تغيّر عقله و ترى له نشاطا و سرورا كاذبا محسوسا و قوّة في نفسه بحيث ربما اجتمع اثنان أو ثلاثة بل و أكثر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 303

من ذلك ليأخذوه و لا يقدرون على ذلك.

و هذا قد أتى بعنوانين آخرين في جنب المسكر: المرقد و مفسد العقل، و قد ذكر أن ما يغيّر العقل من دون اقتران بالنشاط و قوّة النفس فهو لا يخلو عن أنه حصل مع تغيّر عقله غيبوبة حواسّه الخمس و هذا هو المرقد الذي هو كالمنوّم فإنّه من الرقود الذي بمعنى النوم، قال اللّه تعالى في قصة أصحاب الكهف:

«وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقٰاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ» «1» أو أنه لا يحصل معه ذلك و هذا هو المفسد للعقل كالشوكران، الذي قد قالوا: إنّه عشبة سامة كثيرة الانتشار في العالم و كانوا يستخرجون منها سما يسقى بعض المحكوم عليهم. كذا في اللغة.

هذا و لكن التحقيق هو ما ذهب إليه صاحب الجواهر قدس سره من الصدق العرفيّ، و جعله الفارق الوحيد المائز بين المسكر و المرقد و المخدّر و نحوهما مما لا يعدّ عند العرف مسكرا.

و أمّا الفقاع ففي مجمع البحرين: الفقاع شي ء يشرب يتخذ من ماء الشعير و ليس بمسكر و لكن ورد النهي عنه.

في موجب هذا الحدّ

قال المحقق قدّس

سره: و مباحثه ثلاثة: الأوّل في الموجب و هو تناول المسكر أو الفقاع اختيارا مع العلم بالتحريم إذا كان المتناول كاملا فهذه قيود أربعة شرطنا التناول ليعمّ الشرب و الاصطباغ و أخذه ممزوجا بالأغذية و الأدوية.

أقول: ذكر بعض العلماء عند ذكر الموجب للحدّ: هو شرب المسكر، و لكنّه رحمه اللّه قد عدل عن لفظ الشرب إلى لفظ التناول في الشرائع كما عرفت و كذا في المختصر النافع.

و ادّعى في الجواهر عدم خلاف عندنا يجده بل الإجماع بقسميه على ذلك

______________________________

(1) سورة المؤمنون الآية 18.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 304

و من المعلوم أن التناول أعمّ من الشرب و ذلك لصدقه في موارد لا يصدق فيها الشرب أصلا كما أن المحقق بنفسه علل عدوله و استبداله لفظ التناول، بذلك أي ليعمّ الشرب و الاصطباغ و ما إذا كان ممزوجا و مخلوطا بالغذاء أو الدواء.

و الاصطباغ من اصطبغ بالخلّ أو في الخلّ أي اتّخذه إداما فإنّ الصبغ بكسر الصاد هو ما يصطبغ به من الإدام أي يغمر فيه الخبز و يؤكل قال اللّه تعالى:

«وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» «1». و قال في مجمع البحرين: و يختصّ بكلّ إدام مائع كالخلّ و نحوه و الجمع أصباغ انتهى. و قال في المنجد: الصبغ الإدام كالخلّ و الزيت لأن الخبز يغمس فيه و يلوّن به. انتهى. نعم لا يشمل استعماله بالاحتقان و التضميد أي شدّ موضع الجرح بالضماد.

و الضماد و الضمادة خرقة يشدّ بها العضو المجروح. و كذا الإطلاء و أمثال ذلك.

إن قلت: إنّ التناول بحسب معناه اللغوي يشمل مثل أخذه باليد فإنّ قولنا:

تناوله أي أخذه [1].

نقول: إن المراد بالتناول في المقام هو الشرب و الأكل.

قال الشهيد الثاني في المسالك:

المراد بالتناول إدخاله في البطن بالأكل و الشرب خالصا و ممزوجا بغيره سواء بقي مع مزجه مميزا أم لا.

و من جملة ما يتردد في حكمه في المقام هو السعوط كما أن الشهيد الثاني قال في المسالك بعد ما نقلناه من كلامه: و يخرج من ذلك استعماله بالاحتقان و السعوط حيث لا يدخل الحلق لأنه لا يعدّ تناولا فلا يحدّ به و إن حرم. لكنّه قدّس سره قال بعد ذلك: مع احتمال حدّه على تقدير إفساده الصوم. انتهى.

كما أن العلّامة أعلى اللّه مقامه قال في القواعد: و لو تسعط به حدّ. انتهى.

أقول: إذا كان السعوط بالخمر موجبا لدخوله من طريق الأنف في الجوف

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب دام ظله بما في المتن.

______________________________

(1) سورة: المؤمنون الآية 20.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 305

نظير ما يصنع الأطبّاء و الجرّاحون في هذه الأعصار بالنسبة إلى بعض المرضى بل هو شائع بينهم من إدخال أنبوبة مخصوصة في أنف المريض إلى جوفه، و تغذيته من هذا الطريق فلا ينبغي الإشكال في الحرمة و إيجاب الحدّ. أمّا إذا كان مجرّد صبّه في الأنف أو جذبه بالأنف على ما هو معنى السعوط في اللغة حيث يقال: سعط الدواء أي أدخله في أنفه أو كان مجرّد استشمامه أو استنشاقه فهو و إن كان محرّما إلّا أنه لا دليل على إيجابه الحدّ.

و لذا يرد على المسالك بأنه بعد أن فسّر التناول بإدخاله البطن إلخ كيف احتمل وجوب الحدّ بالنسبة إلى السعوط كما أنه على ذلك لا يوجب بطلان الصوم أيضا.

نعم لو كان بحيث يدخل الحلق و الجوف لتمّ ما ذكره فيحرّم و يوجب الحدّ و يبطل الصوم كما أنهم صرّحوا بذلك

في باب الصوم.

و قد أورد عليه في الجواهر بقوله: و إن كان هو كما ترى ضرورة عدم اقتضاء فساد الصوم بعد فرض عدم دخوله الحلق، الحدّ المزبور انتهى.

يعني: بعد أن المفروض عدم دخوله الحلق لا وجه للحكم بالحدّ و إن قيل بأنه موجب لفساد الصوم.

ثم قال: نعم قد يدخل في التناول ما يستعمل من المسكرات في القليان و نحوها انتهى. و فيه أنه أيّ دليل قام على إيجاب استنشاق دخان الخمر الذي امتزج التتن أو الفحم به الحدّ المتعلّق بالخمر؟.

و على الجملة فهنا أمثلة كثيرة ربما تبتلى به الناس في هذه الأعصار و لعلّ عدم التعرّض لها في كلماتهم لعدم حدوثها في الأعصار الماضية و ذلك مثل ما إذا زرقه بالإبرة فإنّه و إن لم يصدق عليه الشرب لكن لعلّه يشمله التناول نظير أنهم قد يستشكلون في زرق الإبرة في شهر رمضان خصوصا بالنسبة إلى التي تحمل الموادّ الغذائيّة و إن أجازها بعض- و مثل الأشربة الطبيّة التي ترد من الخارج و البلاد الأجنبية غير الإسلامية التي يقال إنّها ممتزجة بشي ء من الأكل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 306

(اسپيرتو)- لو كان من أنواعه المسكر.

و منها ما لو عجن بالخمر مثلا عجينا، و سيأتي ذلك إلى غير ذلك من الموارد.

فلو كان الملاك هو الشرب فهو غير صادق فيها و أمّا لو كان المعيار التناول فإنّه ربّما يصدق ذلك فيها أو في بعضها.

نعم إنّ الكلام في أنه هل ورد لفظ التناول في دليل حتى يؤخذ به و يفتي بمقتضاه؟.

و إنّي قد استقصيت الفحص في روايات المسكر و رأيت روايات الأبواب المتعلّقة به و هي أربعة عشر بابا واحدة بعد أخرى و لم أعثر على

رواية مشتملة على هذا اللفظ و متضمّنة له و إنّما الوارد فيها لفظ الشرب و مشتقّاته.

اللهمّ إلّا أن يقال بكون الملاك هو التناول لا خصوص الشرب بطرق و تقارير أخر.

و ما قيل أو يمكن أن يقال في هذا المقام وجوه:

أحدها: إنّ المحرّم ذاتا و عينا لا من حيث الاسم لا يتفاوت فيه الحال بين قليله و كثيرة فإنّ هذا الذات حرام أينما كان و بأيّ صورة وجد، و المسكر من هذا القبيل حيث إنّ هذا الذات حرام فيحرم أينما كان و بأيّ صورة تحقق شربا أو أكلا أو غير ذلك من أنواع التناول [1].

و فيه أنه ما الفرق بين الخمر مثلا و التراب أو الطين الذي يحرم أكله و مع ذلك لا يحرم شرب الماء عند اختلاطه به كما في ماء الفرات في الربيع كما مثّل بذلك

______________________________

[1] قال الأردبيلي في شرح الإرشاد بعد الإشكال بأنه كيف يكون الحكم في سائر الموارد تابعا للاسم كما إذا حلف أن لا يشرب الخلّ يجوز له شرب السكباج و لكن هنا يحكمون بالحدّ و إن كان ممتزجا بغيره؟ قال: فلعلّ الفرق أن العين حرام أين وجدت و لا شك في وجودها في الممتزج، و الفرض أنه موجب للحدّ فيجب بخلاف ما ذكر في باب اليمين فإنّ المحلوف ليس بحرام إلّا أن يصدق عليه المحلوف عليه و ليس بذلك إلّا ما يصدق عليه الاسم انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 307

بعض العلماء أيضا، و كذلك الكرّ من الماء الذي وقعت فيه قطرة من الدم.

ثانيها: قوله تعالى «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1». بتقريب أن الخمر رجس و

من عمل الشيطان و واجب الاجتناب فلا يجوز أن يقرب الإنسان منه بل يلزم أن يتباعد عنه مطلقا.

و فيه إنّ الاجتناب عن كلّ شي ء بحسبه و طبق لحاله و يلاحظ بالنسبة إلى الأثر المتوقع منه، و من المعلوم أن الأثر المتوقع من الخمر هو الشرب فلا يشمل سائر طرق استعماله.

ثالثها: قوله تعالى «إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» «2».

تقريب الاستدلال أنه لم يعلّق تلك الأمور- إيقاع العداوة و البغضاء و كذا الصدّ عن ذكر اللّه و عن الصلاة- على شرب الخمر بل على نفسه.

و فيه ما ذكرناه في الآية السابقة من أن العناية على الأثر الواضح المطلوب من الخمر عند العرف فلا يمكن استفادة حكم سائر استعمالاته بعد ظهورها في الشرب.

رابعها: إطلاقات بعض الأخبار كمعتبرة أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: كان عليّ عليه السلام يضرب في الخمر و النبيذ ثمانين «3». فإنّه لا ذكر عن الشرب هنا بل الضرب كان على الخمر، و قد استدلّ بذلك بعض المعاصرين- رضوان اللّٰه تعالى عليه- «4».

و لكن يرد عليه أن للحديث ذيلا لم يذكر هنا و قد نقل في الوسائل الرواية

______________________________

(1) سورة المائدة الآية 90.

(2) سورة المائدة الآية 91.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

(4) راجع تكملة المنهاج ص 270.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 308

بتمامها، و ذيلها هذا: الحرّ و العبد و اليهوديّ و النصراني، قلت: و ما شأن اليهوديّ و النصراني؟ قال: ليس لهم أن يظهروا شربه، يكون ذلك في بيوتهم.

و هذا الذيل المصرّح بالشرب يوجب ظهور

الصدر أيضا في ذلك.

نعم رواية سليمان بن خالد قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد في النبيذ المسكر ثمانين كما يضرب في الخمر و يقتل في الثالثة كما يقتل صاحب الخمر «1» ربّما أمكن التمسّك به فيما رامه.

و على هذا فلا دليل يدلّ على وجوب الحدّ في الأمثلة المبحوث عنها و لذا ترى أنه علل في كشف اللثام قول العلّامة في القواعد: و لو تسعّط به حدّ بقوله: لأنه يصل إلى باطنه من حلقه و للنهي عن الإكتحال به و الإسعاط أقرب منه وصولا إلى الجوف انتهى.

و هذان الوجهان أيضا لا يخلوان عن الإشكال.

أمّا الأوّل فلأنه عبّر بالوصول إلى الباطن، و لا يعلم أن مراده هو البطن أو مجرّد الداخل، فلو كان المراد هو البطن فلا كلام فعلا و يكون موافقا لكلام الشهيد الثاني حيث قال بأن المراد بالتناول إدخاله إلى البطن بالأكل و الشرب، إلّا أنه على ذلك يرفع الإشكال عن زرق الخمر بالإبرة كما لعلّه يعمل به أهل الأهواء و المعاصي في هذه الأعصار نظير ما يصنعونه من زرق الموادّ المخدّرة و ذلك لأنه لا يدخل البطن فيلزم أن لا يوجب الحدّ و إن أسكر، و هو مشكل لأنه ربّما يحصل الاطمئنان بأنه إذا أوجب ذلك السكر فهو موجب للحدّ و مع ذلك يلزم مراجعة الأدلّة حتى نرى أنه يجتزي بالإسكار في ترتب الحدّ و إن لم يكن قد شربه أم لا؟.

و أمّا الثاني ففيه أنه هل الإكتحال بالخمر يوجب الحدّ مضافا إلى حرمته كي يقال بأن الإسعاط أقرب وصولا إلى الجوف من الإكتحال؟.

و نحن إلى الآن لم نقف على خبر يدلّ على ذلك و لا سمعنا أنه في مورد أقيم حدّ

______________________________

(1)

وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 13.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 309

المسكر على من اكتحل به.

نعم ما أفاده من أقربيّة الإسعاط من الإكتحال بالنظر إلى الوصول إلى الجوف ثابت فإنّ من صبّ في أنفه دواء يحسّ سريعا اثر ذلك الدواء- حلوا كان أو مرّا- في حلقه لكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصدده و هو جهة إثبات الحدّ.

قال في الجواهر بعد ذكر ما نقلناه عن كاشف اللثام: قلت: و لو فرض عدم وصوله أو عدم العلم بالوصول لم يحدّ للأصل و غيره.

أقول: و الظاهر أنه لا مجال لهذا الكلام بعد أن المفروض وروده في الحلق فإنّ مجرّد ذلك كاف في الدخول في الباطن.

و يبدو في الذهن أن الملاك هو ما كان تحت اختيار الإنسان و قدرته الذي يخرج بعد ذلك عن اختياره فالملاك هو ابتلاعه و إدخاله الحلق و هو موجب للحدّ لا الوصول إلى البطن و لا غير ذلك و عليه فلا يبقى مورد للشك.

و على الجملة فقد تمسّك رحمه اللّه بالأصل و غيره.

أمّا الأصل فهو قسمان: أحدهما الموضوعي و الآخر حكمي.

أمّا الموضوعيّ فهو أصالة عدم الوصول عند الشك في ذلك.

و أمّا الحكميّ فهو أصالة عدم إيجاب الحدّ لأنه قبل صبّ الخمر في أنفه لم يكن الحدّ واجبا عليه فبعد صبّه أيضا كذلك. لكن لا يخفى أن الاستصحاب الموضوعي لا يخلو عن إشكال و ذلك لأنه يترتب على المستصحب أي أصالة عدم الوصول، عدم الشرب فيترتب عليه عدم الحدّ فيلزم كون الأصل مثبتا للآثار العادية و العقلية و هو غير صحيح كما حقق في محلّه.

هذا بالنسبة إلى الأصل، و أمّا غيره المذكور في كلامه فلعلّ المراد

قاعدة الدرء. و يمكن أن يكون مراده كون المقام من قبيل الشبهة المصداقية لقول الشارع: لا تشرب، و من المعلوم أنه لا يجوز التمسّك بالعام و لا يشمله الدليل الدّالّ على إيجاب الحدّ.

ثم إنّ العلّامة أعلى اللّه مقامه قد تعرّض في القواعد و التحرير لفرع في هذا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 310

المقام و هو ما إذا عجن الدقيق بالخمر فقال في الأوّل: و إذا عجن بالخمر عجينا فخبزه و أكله فالأقرب وجوب الحدّ انتهى.

و قال في الثاني: و لو عجن به دقيقا ثم خبزه احتمل سقوط الحدّ لأن النار أكلت أجزاء الخمر نعم يعزّر، و لو قلنا بحدّه كان قويّا. انتهى.

و وافقه صاحب الجواهر على الأوّل و قد ذكر في توجيه الوجه الثاني بعد كلام العلّامة: و لعلّه للنجاسة و لاحتمال البقاء [1].

ثم قال: و فيه أن الأصل بقاؤه.

يعني إنّه على ذلك يترتب عليه الحدّ.

و قال بعد ذلك: اللهم إلّا أن يمنع ثبوت الحدّ بالأصل المزبور بل لا بدّ فيه من العلم ببقاء أجزائه. انتهى.

و قد ذكرنا آنفا ما في التمسّك بالأصل فراجع، و الظاهر أنه لا حدّ عليه و ذلك لأنه قد زال و انعدم و لم يبق منه شي ء عرفا خصوصا إذا بقي الخبز على النار كثيرا حتى يبس.

ما المراد من المسكر؟

قال المحقق: و نعني بالمسكر من ما شأنه أن يسكر فإنّ الحكم يتعلّق بتناول القطرة منه.

أقول: البحث هنا في أنه هل المعتبر الإسكار الفعلي أو يكفي الشأني منه؟.

ذهب المحقق و غيره إلى عدم اشتراط الإسكار بالفعل فلو شرب قطرة منه حدّ و إن لم تسكر [2].

______________________________

[1] أقول: إن الوجهين قد ذكرهما في كشف اللثام ج 2 ص 239 فراجع.

[2] أقول:

خلافا لأبي حنيفة حيث زعم اشتراط الإسكار بالفعل كما صرّح بذلك في الكشف. فراجعه و راجع أيضا الخلاف باب الأشربة ص 172.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 311

و لا يخفى أن هذا الحكم شرعيّ محض لا بدّ من أخذه من الشارع و ليس بعرفيّ فإنّ العرف ربّما لا يساعد ذلك، و خلاصة الكلام أن ما من شأنه الإسكار يحدّ على كثيره و قليله و لو القطرة منه مطلقا.

و يدلّ على ذلك أوّلا عدم خلاف يعتدّ به بل الإجماع بقسميه عليه على ما في الجواهر.

و ثانيا النصوص المستفيضة أو المتواترة المصرّحة باستواء القليل و الكثير منه في إيجاب شربه الحدّ.

نعم قال الصدوق قدس سره: و إذا شرب الرجل حسوة من خمر جلد ثمانين جلدة فإن أخذ شارب النبيذ و لم يسكر لم يجلد حتى يرى أنه سكران انتهى «1».

و الحسوة بالضمّ و الفتح الجرعة من الشراب مل ء الفم (هكذا في مجمع البحرين) فقد ذكر رحمة اللّٰه عليه لفظة الحسوة.

إلّا أن الأخبار ناطقة بعدم الفرق بين الكثير و القليل منه، ففي خبر إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل شرب حسوة خمر قال:

يجلد ثمانين جلدة قليلها و كثيرها حرام «2». فإنّ السّؤال و إن كان عن الحسوة من الخمر إلّا أنّ مقتضى جواب الإمام عليه السلام ترتب الحرمة و الجلد على كثير و قليل منه و إن كان قطرة و على هذا فلا دلالة لهذه الرواية على اعتبار الحسوة في إيجاب الحدّ لو كان مراد الصدوق قدس سره اعتبارها بالخصوص.

و أمّا تتمّة كلامه الّتي نسب إليه بسببها القول بأن النبيذ لا يوجب الحدّ إلّا إذا شرب بمقدار أوجب السكر فلعلّ

ذلك لروايتي الكناني و الحلبي.

أمّا الأولى: عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قلت: أ رأيت إن أخذ شارب النبيذ و لم يسكر أ يجلد؟ قال: لا «3».

______________________________

(1) المقنع ص 153.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 7.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 312

و أمّا الثانية: قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام قلت: أ رأيت إن أخذ شارب النبيذ و لم يسكر أ يجلد ثمانين؟ قال: لا و كلّ مسكر حرام «1».

تقريبه أن لفظة يسكر لازم و فاعله هذا الذي شرب النبيذ فيكون السؤال عمّا إذا شرب بمقدار لم يحصل معه السكر و قد حكم عليه السلام بعدم الجلد.

هذا، و لكن يرد عليه أنه يمكن أن يكون ضبط هذا اللفظ من باب الإفعال، و يكون فاعله النبيذ المذكور في الرواية و حينئذ يفيد أن للنبيذ قسمين: المسكر و غير المسكر و كان هذا الشارب قد شرب من القسم الأخير، و قد حكم الإمام عليه السلام بعدم الحدّ. و على هذا فلا دلالة للخبرين على مراده لأنه ربما يكون نبيذ ليس من شأنه الإسكار، و بالطبع لا يحكم على شاربه بالحدّ.

بل يمكن الترديد في إرادة الصدوق رحمة اللّٰه عليه ما نسب إليه، لاحتمال أن يكون قد أراد أن الشارب قد شرب النبيذ غير المسكر، لا مقدارا منه لم يبلغ حدّ الإسكار.

و لو كان مراده ذلك فالخبران ليسا صريحين في ما قاله و لو كان ظاهرين فيه، و الذي يسهّل الخطب أنهما موافقان للعامة و محمولان على التقية فإنّ الخليفة كان يعتذر عند الاعتراض عليه في

شربه بأنه يشرب القليل بمقدار لا يوجب الإسكار [1] و كيف كان فالروايات العديدة مصرّحة بحرمة النبيذ و هي بإطلاقها تشمل ما إذا كان بمقدار أوجب الإسكار أم لم يوجب.

فعن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: إنّ في كتاب

______________________________

[1] كان الخليفة يشرب النبيذ إلى آخر نفس لفظه، قال عمرو بن ميمون شهدت عمر حين طعن أتي بنبيذ شديد فشربه و كان حدّة شرابه و شدّته بحيث لو شرب غيره منه لسكر و كان يقيم عليه الحدّ غير أن الخليفة كان لم يتأثر منه لاعتياده أو كان يكسره و يشربه. الغدير ج 6 ص 357 قوله: يكسره أي بالماء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 313

عليّ عليه السلام: يضرب شارب الخمر ثمانين و شارب النبيذ ثمانين «1».

و عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: كان عليّ عليه السلام يضرب في الخمر و النبيذ ثمانين «2».

كما أن الأمر في باب الخمر كذلك. فعن عبد اللّٰه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: الحدّ في الخمر أن يشرب منها قليلا أو كثيرا «3».

عدم الفرق بين أنواع المسكرات

قال المحقق: و يستوي في ذلك الخمر و جميع المسكرات التمريّة و الزبيبيّة و العسليّة و المرز المعمول من الشعير أو الحنطة أو الذرّة و كذا لو عمل من شيئين أو ما زاد.

أقول: حيث إنّ الملاك بحسب الظاهر هو الإسكار أو المسكر فلا فرق بين أنواعه و أنحائه، و إطلاق المسكر يشمل جميع أنواعه سواء اتّخذ من التمر المسمّى بالنبيذ أو الزبيب الموسوم ب النقيع أو من العسل و هو البتع أو من

الشعير أو الحنطة أو الذرّة الموسوم ب المزر، و هكذا لو كان قد عمل من شيئين أو ثلاثة أشياء بل و لو أخذ و عمل من الأحجار أو الموادّ الشيميائيّة فإنّ مجرّد كونه مسكرا يكفي في الحكم بالحرمة و الحدّ و قد ادّعى في الجواهر عدم الإشكال نصا و فتوى على عدم الفرق بين الأقسام.

نعم يبقى الكلام في أن ترتب الحكم موقوف على صدق أيّ واحد من العناوين المذكورة و أنه قد شرب الخمر مثلا أو تناوله و إن كان قليلا بل أقلّ قليل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 314

أمّا إذا اضمحلّ فيما اختلط به كما إذا صبّ و ألقي قطرة خمر في حبّ من ماء بحيث لم يبق منه بعد ذلك عين و لا أثر فهل يمكن القول بترتب الحدّ على شربه؟

و الحال أنه لا يصدق عليه أنه شرب الخمر و إنّما يصدق عليه أنه شرب الماء، كما ترى أنه لا يجوز التوضّي بالدبس مثلا أمّا إذا صبّ قطرة منه في الماء فإنّه يجوز التوضّي به لصدق التوضّي بالماء المطلق، و الأحكام مترتبة على الأسماء و العناوين.

و لذا أشكل الأردبيلي امتزاج قطرة من خمر مثلا بحبّ من ماء بعدم صدق شربها و لذا لم يحنث من حلف أن لا يشرب الخلّ أو لا يأكل الدّهن أو التمر بشرب السكباج و أكل الطبيخ الذي فيه دهن غير متميز و أكل الحلوي التي فيها التمر انتهى.

و هكذا كاشف

اللثام فإنه بعد ذكر الحكم بالحد بتناول قطرة من المسكر و إن كان بمزجها بالغذاء أو الدواء قال: و إن لم يتناوله ما في النصوص من لفظ الشرب فكأنه إجماعي. و ما يمكن أن يقال في حلّ الإشكال وجوه:

أحدها: إنّ الحكم إجماعي و لولاه كان مقتضى القاعدة عدم ترتب شي ء أصلا و هذا هو الظاهر من كلام كاشف اللثام.

ثانيها: ما أفاده بعض كصاحب الجواهر و هو أن المحرّم ذاتا لا من حيث الاسم لا يتفاوت الحال بين قليله و كثيره بخلاف متعلّق اليمين الذي مدار الحكم فيه على صدق الفعل فإذا حلف مثلا على عدم شرب الخلّ فإنّه لم يحنث بشرب السكباج و ليس عليه شي ء و ذلك لتعلّق الحلف على ترك شرب الخلّ و هو يدور مدار صدق الاسم و عنوان شرب الخلّ و هو غير صادق لأنه شرب شيئا آخر و إن كان الخلّ أيضا ممزوجا في هذا المائع بخلاف ما إذا تعلّقت الحرمة بذات الشي ء فإنّه في أيّ مورد كان و بأيّ صورة وقع سواء كان خالصا أو ممتزجا بشي ء آخر قليلا كان أو كثيرا فإنّه حرام، صدق على تناوله الشرب أم لا فإنّ الملاك هو وروده في البطن و دخوله في الجوف و إن كان في ضمن مائع أو محلول

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 315

آخر و مضمحلّا فيه.

و لتقريب هذا الوجه و توضيحه نذكر مثالا و هو أنه إذا منع الطبيب المريض المبتلى بضغط الدم مثلا عن الملح و نهاه عن أكله قائلًا: لا تأكل الملح لأنه مضرّ لك، فإنّه يشمل جميع أنواع الأكل مستقلّا أو ممزوجا، و الممنوع عنه المضرّ بحاله هو هذا الذات سواء أكله

على صورته و هيئته أو ألقاه و أدخله في الماء أو الغذاء و بعد أن أذيب فيه بحيث لم يبق منه أثر أصلا و لم يحسّ هو بنفسه الملوحة أصلا، و كذا سائر ما يمنع عنه كالسموم. هذا في العرفيات.

و أمّا مثاله في الشرعيّات فهو مثل ما إذا نهى الشارع عن أكل أموال الناس فلو أخذ غصبا و ظلما مقدارا من الملح من مال الغير و أدخله في الطعام و بعد ذلك أكل من هذا الطعام فهل يمكن له أن يقول: إنّي ما أكلت من مال الغير و إنّما أكلت طعامي؟ و ليس هذا إلّا لأن الذي منع عنه الشارع هو أكل مال الغير و إن خلطه و مزجه بغيره بحيث اضمحلّ في مال نفسه، فإنّه لا يزول الحكم بزوال الاسم.

هذا و لكن مع ذلك كلّه فلا يخلو عن إشكال لأن هذا صحيح لو لم يكن المنهيّ عن أكله عند العرف معدوما فإنّ الذات حرام يترتب عليه الأثر ما دام باقيا فإذا مزج قطرة من الخمر في حبّ من الماء لم يكن الخمر موجودا عند العرف حتى يقال بأن قليله أيضا حرام، و إطلاق الشي ء لا يشمل عدمه.

و أمّا الذرّات العقليّة فهي ليست مصبّ الأحكام الشرعية و ملاكها و لو كان المطلب على نحو ما ذكروه للزم إقامة الحدّ على من شرب من منبع ماء و مخزنة الذي اجتمع فيه مأة كرّ أو أكثر إذا صبّ فيه قطرات من خمر و امتزج بها، و ذلك لعدم الفرق بين القليل و الكثير على حسب التقرير المذكور. و ليس البحث من جهة الطهارة و النجاسة كي يقال بأنّ الكثير لا يتنجّس، و هل يمكن الالتزام بهذا اللازم؟.

ثالثها:

النصوص المشتملة على ضرب الثمانين بالخمر و النبيذ قليلا أو كثيرا كمعتبرة أبي بصير المتقدمة و غيرها فراجع باب 4 من أبواب حدّ المسكر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 316

و فيه ما مرّ فإنّها متعلّقة بالخمر أو النبيذ فصدق العنوان مما لا بدّ منه سواء صدق الشرب أم لا، و المفروض في المقام اضمحلال الخمر رأسا فلا يمكن التمسك بها و ليس لنا دليل خاصّ يدلّ على وجوب الحدّ.

نعم قد وردت روايات تشدد أمر الخمر بتعابير خاصّة مثل ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: لو وقعت قطرة منه في بئر فبنيت منارة مكانها لم أؤذّن عليها و لو وقعت في بحر ثمّ جفّ و نبتت فيه الكلأ لم أرعه «1».

لكنّ المعلوم من لسان هذه الروايات هو أنها واردة في مقام التأكيد و تشديد الأمر لا أنه يثبت بها وجوب الحدّ.

فلو كان في الموارد الّتي اضمحلّ العين و لم يصدق الاسم إجماع فهو، و إلّا فلا وجه للقول بلزوم الحدّ.

و أمّا ما ذكرناه تقريبا للحرمة الذاتية من أكل مال الغير بمزجه في طعام نفسه بحيث صار مضمحلّا، فإنّه ضامن لمال الغير لأنه قد أتلف مال الغير لا لأنه أكل مال الغير.

و أمّا الإجماع فإنّا قد تفحّصنا كلماتهم في الجوامع الفقهية و بعض الكتب الأخر و لم نقف على من صرّح بجريان الحكم فيما إذا لم يصدق الاسم إلّا بعضا.

نعم ربّما يصرّحون بعدم الفرق بين القليل و الكثير و أمّا التعرّض لما إذا اضمحلّ الخمر في شي ء آخر فلا، إلّا عن عدّة من الأعلام كالشيخ و ابن حمزة و الشهيد في اللمعة.

قال الشيخ في النهاية: و لا يجوز أكل طعام فيه شي ء من الخمر

و لا الاصطباغ بشي ء فيه شي ء من الخمر و لا استعمال دواء فيه شي ء من الخمر فمن أكل شيئا مما ذكرناه أو شرب كان عليه الحدّ ثمانين جلدة انتهى «2».

و قال ابن حمزة: فصل في بيان الحدّ على شرب الخمر و سائر المسكرات

______________________________

(1) كنز العرفان ج 2 ص 305 كتاب المطاعم و المشارب.

(2) النهاية ص 712.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 317

و شرب الفقاع و غير ذلك من الأشربة المحظورة: كلّما يسكر كثيره فقليله و كثيره حرام (إلى أن قال:) و كلّ طعام فيه خمر فهو حرام و يلزم بأكله الحدّ على حدّ شرب الخمر «1».

و قال الشهيد في اللمعة: ما أسكر جنسه يحرم القطرة منه و كذا الفقاع و لو مزجا بغيرهما.

و قال الشهيد الثاني بشرحه: و إن استهلكا بالمزج انتهى.

هذا بالنسبة إلى كلماتهم و أمّا ادعاء الإجماع فلم نجد حتى من ابن زهرة في الغنية الذي يدّعي الإجماع كثيرا.

و لعلّ الإجماع الذي احتمله بعض مثل كاشف اللثام الذي قال: لعلّه إجماعي، كان مستندا إلى إطلاق كلماتهم و حكمهم بالحدّ قليلا كان أو كثيرا مضافا إلى تصريح هؤلاء الأعلام و كذا قول العلماء: ما أسكر كثيره فقليله حرام، فإنّ إطلاق القليل يشمل ما إذا كان بحيث استهلك فيما امتزج به.

هذا مضافا إلى بعض الروايات الواردة في باب الأشربة التي يمكن استفادة ذلك منها، و قد خرّجها المحدّث العاملي رحمة اللّٰه عليه في باب أسماه: باب إنّ الخمر و النبيذ و كلّ مسكر حرام لا يحلّ إذا مزج بالماء و إن كثر الماء:

عن عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء

حتى تذهب عاديته و يذهب سكره فقال: لا و اللّٰه و لا قطرة قطرت في حبّ إلّا أهريق ذلك الحبّ «2».

و عن كليب بن معاوية قال: كان أبو بصير و أصحابه يشربون النبيذ يكسرونه بالماء فحدّثت أبا عبد اللّٰه عليه السلام فقال لي: و كيف صار الماء يحلّ المسكر، مرهم لا يشربون منه قليلا و لا كثيرا، ففعلت فأمسكوا عن شربه، فاجتمعنا عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام فقال له أبو بصير: إنّ ذا جاءنا عنك بكذا

______________________________

(1) الوسيلة ص 516- 515.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 18 من الأشربة المحرّمة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 318

و كذا فقال: صدق يا با محمد إنّ الماء لا يحلّ المسكر فلا تشربوا منه قليلا و لا كثيرا «1».

و عن عمرو بن مروان قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنّ هؤلاء ربّما حضرت معهم العشاء فيجيئون بالنبيذ بعد ذلك فإن لم اشربه خفت أن يقولوا:

فلانيّ. فكيف أصنع؟ فقال: أكسره بالماء قلت: فإذا كسرته بالماء أشربه؟

قال: لا «2».

ترى في الرواية الأولى أن الإمام عليه السلام في جواب السّؤال عن قدح مسكر يصبّ عليه الماء يقول: لو وقعت قطرة منه في حبّ من ماء يجب إراقته.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 318

و من المعلوم أن السّؤال لم يكن عن جهة النجاسة و الطهارة و إنّما العناية في السّؤال على جهة إسكار هذا المسكر، و هذا ظاهر في أن الشرب من ماء هذا الحبّ يوجب الحدّ و الحال أن القطرة من المسكر يضمحلّ

و يستهلك في حبّ من الماء.

كما أن مقتضى الرواية الثانية أيضا الحرمة و إن امتزج بالماء و أن ذلك لا يوجب حلّيته و لا أثر لكسر سكره بالماء في ما يترتب على شربه.

و أمّا أن أبا بصير كان يشرب من النبيذ بعد أن كان يكسره بالماء مع أنه من رواة الأخبار المشاهير و من حفّاظ الأحاديث عن أئمتنا المعصومين سلام اللّٰه عليهم أجمعين فلعلّه لشيوع شربه بين العامة و أهل الخلاف فآل الأمر إلى أن أبا بصير أيضا قد تخيل حلّه. و يمكن أن يكون شربه من جهة اجتهاده الشخصيّ و أنه كان يرى أن كسر سكره و عاديته يذهب بحرمته.

و كيف كان فظاهر نهيه عليه السلام هو الحرمة و كذا ترتب الحدّ عليه.

كما أن الرواية الثالثة أيضا تتضمن نهي الإمام عليه السلام عن شرب النبيذ بعد كسره بالماء و ظاهر هذا أيضا أن العناية على جهة إسكاره و أثره و هو الحرمة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 18 من الأشربة المحرّمة ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 18 من الأشربة المحرّمة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 319

و الحدّ.

نعم يشكل الجمع بين هذا الحكم و بين ما قبله و هو أمره عليه السلام بكسر النبيذ بالماء فإنّ هذين الحكمين بظاهرهما لا يجتمعان حيث إنّ الأمر بكسره يفيد جواز الشرب و جوابه عليه السلام سؤال الراوي عن شربه بعد السكر، بالنفي يفيد الحرمة.

و يمكن الجمع بينهما بأن يقال: إنّ الحكم الأوّل أي الأمر بالكسر كان متعلّقا بحال الضرورة كما هو الظاهر من قول الراوي: إن لم أشربه خفت أن يقولوا:

(فلانيّ) فإنّ الفلاني كناية يريد به الرافضي فهنا قد جوّز الإمام

بمقتضى الضرورة أن يشرب النبيذ إلّا أنه لتخفيف العمل أمره بكسره بالماء لكنّه بعد ذلك سئل عن شرب النبيذ مع الكسر مطلقا و قد منعه الإمام عليه السلام عن ذلك.

و النتيجة أنه يختصّ الجواز بحال الضرورة و أمّا في حال الاختيار فهو حرام و يحدّ عليه. و يحتمل أن يحمل الخبر على أن الإمام عليه السلام أمره بكسر النبيذ بالماء و اشتغاله بالنبيذ إراءة لهم أنه يريد أن يشرب ثمّ لا يشرب، و الحكم الأصيل هو عدم الجواز و إنّما كسره بالماء مجرد إتيان مقدمات الشرب كي يشغلهم فيطمئنّوا و يزعموا أنه يشرب منه، نظير ما قد يتفق في بعض المجالس و الضيافات من أن الإنسان يأخذ و يتناول بيده شيئا يتداول إكرام الضيوف به من الثمرات و الفواكه و هو لا يريد أن يأكله لجهة من الجهات فيضعه بين يديه و يشتغل به و أحيانا يشمّه لو كان مثل التفّاح، و مع ذلك لا يأكله.

هذا مضافا إلى ما ورد من التأكيدات البليغة في تحذير الناس عن الخمر و المسكرات، و التعابير الغليظة القامعة في أمره.

و على الجملة فبلحاظ هذه الروايات و فتوى الأعلام المذكورة فنحن لا نتجرّي على الإفتاء بالجواز فالاحتياط لا يترك بترك مطلق تناوله و إن كان مستهلكا في شي ء آخر.

و قد تحصّل من تلك الأبحاث أن شرب الخمر حرام قليلا أو كثيرا سواء أسكر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 320

أم لم يسكر- خصوصا بلحاظ أن الغالب في القليل منه هو عدم الإسكار- و سواء كان عدم إسكاره لقلّته أو لكيفيّة حال الشارب مرضا أو اعتيادا أو كان بعلاج، و يترتب عليه الحدّ المقرّر للشارب و لا يعتبر خصوص

عنوان الشرب فإنّ الملاك هو التناول كما إذا امتزج بالأدوية و الأغذية ما دام صدق اسم الخمر، و التصريح في الروايات بالتسوية بين الكثير و القليل يقتضي عدم الفرق حتى و لو كان أقلّ قليل، كما يمكن التمسّك في ذلك بتنقيح المناط و القول بعدم الخصوصيّة للكثير من الخمر، بأن يكون القليل منه نظير حبّ حامل لمقدار يسير من السمّ.

و قد كان بعض الأطبّاء يقول لنا: إنّ بعض أقسام الحبوب مشتمل على ذلك و لا يؤثّر في قتل الإنسان و موته لكنّه يبقى في البدن تلك الذرّات الضارّة التي كانت فيه و لا يدفع بل يتقوّى بإمداده بمثله و هكذا إلى أن يبلغ حدّا يقتل الإنسان، فلعلّ قليل الخمر أيضا يكون كذلك.

و كيف كان فحكمه حكم الكثير منه و تترتب على شربه و جميع أنواع تناوله حتى مثل زرقه بالإبرة الإحكام سواء كان زرق الخمر الخالص أو الممتزج بغيره من المائعات و إن لم يدخل البطن بل ورد في العروق مثلا.

و على هذا ربما أشكل الأمر في زرق الإبرة في هذه الأعصار حيث إنّه يقال بأن موادّها مخلوطة بشي ء من الألكل المسكر فإنّه عليه و بصرف النظر عن الاضطرار يكون زرقها في العروق حراما يوجب الحدّ.

هذا مضافا إلى أنه قد وردت في هذا الخصوص رواية شريفة و هي:

عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: كان عند أبي قوم فاختلفوا فقال بعضهم: القدح الذي يسكر هو حرام و قال بعضهم: قليل ما أسكر كثيره حرام، فردّوا الأمر إلى أبي عليه السلام فقال أبي عليه السلام:

أ رأيتم القسط لو لا ما يطرح فيه أوّلا أ كان يمتلئ؟ و كذلك القدح الآخر لو لا

الأوّل ما أسكر قال: ثمّ قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: من أدخل عرقا من عروقه قليل ما أسكر كثيره عذّب اللّٰه عزّ و جلّ ذلك العرق بثلاثمأة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 321

و ستّين نوعا من العذاب [1].

و لعلّه يستفاد من هذه الرواية أن عمل زرق الموادّ المسكرة كان في زمن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم، و لعلّه كان ذلك بصورة بسيطة و بآلات غير ما هو دائرة و رائجة في عصرنا هذا [2].

و أمّا إذا خرج عن صدق الخمر بأن استهلك في غيره فهناك يشكل الأمر و ليس لإثبات الحدّ فيه دليل واضح، و من قال فإنّما قال للإجماع أو تمسّكا بأن لزوم الاجتناب عن الخمر المصرّح به في آية «إِنَّمَا الْخَمْرُ. رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ» يقتضي الاجتناب عنه بأي صورة كان و في أي حال أو ببعض الأخبار التي ذكرناها آنفا أو ذاك البيان المخصوص من تقسيم الحرام إلى الذاتي و الاسميّ على ما تقدم شرحه.

و كيف كان فيحتمل بل لعلّه لا يبعد القول بترتب الحدّ هنا أيضا [3] كما يؤيّد ذلك مثال القطرة من الخمر في الحبّ من الماء و الأمر بإراقته و كذا التشديدات البالغة الواردة في الروايات بالنسبة للخمر، و من أراد الوقوف على ذلك

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 17 ب 17 من الأشربة المحرّمة ح 6، ثم إنّ القسط بمعنى الميزان كما حكاه العلّامة المجلسي في مرآة العقول عن القاموس.

[2] أقول: ما أفاده دام ظلّه من الاستشهاد بهذه الرواية لما رامه من زرق الخمر في العرق لا يخلو عن كلام و ذلك لأن المراد من إدخاله العرق

و الظاهر منه هو إدخاله من طريق الشرب، و تغذية العروق منه نظير رواية أبي الصحاري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال سألته عن شارب الخمر فقال: لم تقبل منه صلاة ما دام في عروقه منها شي ء (عقاب الأعمال ص 218).

[3] هكذا أفاد دام ظلّه على ما كتبناها لكن مقتضى ما أفاده آنفا من الاحتياط هو القول بالاجتناب و الحرمة، لكن من المعلوم أن الاحتياط من حيث الحدّ هو العدم و الحدود تدرء بالشبهات. و قد راجعت دفتر مذكّراته دام ظلّه و كان نصّ كلامه هذا: و لا أظنّ أن يحكم بالحدّ على من شرب من منبع فيه مأة كرّ من ماء و مزج معه قطرات من الخمر و كذلك الأدوية التي لا يرى أحد فيه الخمر فتأمّل. انتهى كلامه دام ظلاله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 322

فليراجع مظانّه «1».

و أمّا الإشكال بأنه فلا بدّ على ذلك من القول بالحدّ إذا استهلك الخمر في مخزن من الماء و منبعه. ففيه إنّه يمكن أن يقال بأن الأدلّة منصرفة عن مثل ذلك.

حول أن إقامة الحدّ مشروطة بالعلم بالحرمة

ثم لا يخفى أن ما ذكرناه من وجوب الحدّ على شرب الخمر قليله و كثيره و بأيّ صورة كان خالصا و ممتزجا فإنّما هو مع العلم بالحرمة و أمّا الجاهل بها فلا حدّ عليه.

و تدلّ على ذلك روايات عديدة أخرجها في الوسائل في باب عنوانه: باب أن من فعل ما يوجب الحدّ جاهلا بالتحريم لم يلزمه شي ء من الحدّ.

عن الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لو أن رجلا دخل في الإسلام و أقرّ به ثمّ شرب الخمر و زنى و أكل الربا و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و

الحرام لم أقم عليه الحدّ إذا كان جاهلا إلّا أن تقوم عليه البيّنة أنه قرأ السورة الّتي فيها الزنا و الخمر و أكل الربا و إذا جهل ذلك أعلمته و أخبرته فإن ركبه بعد ذلك جلدته و أقمت عليه الحدّ «2».

و عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل دعوناه إلى جملة الإسلام فأقرّ به ثمّ شرب الخمر و زنى و أكل الربا و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و الحرام أقيم عليه الحدّ إذا جهله؟ قال: لا إلّا أن تقوم عليه بيّنة أنه قد كان أقرّ بتحريمهما «3».

و عن أبي عبيدة الحذّاء قال: قال أبو جعفر عليه السلام: لو وجدت رجلا

______________________________

(1) كبحار الأنوار ج 76 و غيره.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 323

كان من العجم أقرّ بجملة الإسلام لم يأته شي ء من التفسير، زنى أو سرق أو شرب خمرا لم أقم عليه الحدّ إذا جهله إلّا أن تقوم عليه بيّنة أنه قد أقرّ بذلك و عرفه «1».

و عن جميل عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام في رجل دخل في الإسلام شرب خمرا و هو جاهل قال: لم أكن أقيم عليه الحدّ إذا كان جاهلا و لكن أخبره بذلك و أعلمه فإن عاد أقمت عليه الحدّ «2».

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث إنّ أبا بكر أتي برجل قد شرب الخمر فقال له: لم شربت الخمر و هي محرّمة؟ فقال له: لم شربت الخمر و هي محرّمة؟ فقال:

إنّي أسلمت و منزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر و يستحلّونها و لو أعلم أنها حرام اجتنبتها فقال عليّ عليه السلام لأبي بكر: ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين و الأنصار فمن كان تلا آية التحريم فليشهد عليه فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شي ء عليه ففعل فلم يشهد عليه أحد فخلّى سبيله [1].

و لا يتوهّم أن الروايات متعلّقة بتلك الأزمان و القرون التي كانت بدء بزوغ الإسلام أو انتشاره. و ذلك لوضوح عدم الخصوصيّة و كون الميزان هو الجهل و العلم، و كيف يمكن القول بإجراء الحدّ على من لم يقرع سمعه أن شرب الخمر حرام و لم ينقدح في ذهنه احتمال الحرمة؟ و قد كان قسم من الشّبّان الجامعيّين قبل الثورة الإسلاميّة حيث لم يكونوا في بيئة دينيّة و لم يكن لهم خلطة مع أهل الدين و العارفين بالأحكام، لم يحتملوا حرمة الخمر فلم يكونوا آنذاك على ما هم عليه الآن من الإقبال على الدين و المخالطة مع العلماء و خصوصا مع ما يرون

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدّمات الحدود ح 5 أقول: و قد عقد في الوسائل في باب شرب المسكر تحت عنوان باب 10: باب سقوط الحدّ عمّن شرب الخمر جاهلا بالتحريم، و ذكر هناك هذه الرواية الأخيرة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدّمات الحدود ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 324

من إقامة الحدود و التعزيرات على أهل المعاصي و على الجملة فلا حدّ على من كان في تلك الظروف المنكرة كما أنه لا

حرمة منجزّة عليه.

نعم الجاهل المقصّر معاقب لالتفاته إلى ورود تكاليف في الشريعة فالحجّة عليه تامّة و يقال له لماذا تعلّمت كما يقال لمن علم و عصى: لماذا خالفت و هلّا عملت [1] إلّا أن الحكم بإقامة الحدّ عليه غير خال عن الإشكال و ذلك لاحتمال موضوعيّة العلم في إقامة الحدّ بل إنّ ظاهر الروايات المذكورة أن المصحّح للحدّ هو علمه التفصيلي بالحرمة لا مجرد أنه عالم بوجود محرّمات في الإسلام بصورة الإجمال، و العقوبة الأخروية أي العذاب لا تلازم العقوبة الدنيوية أي الحد.

في حكم العصير العنبيّ

قال المحقق: و يتعلّق الحكم بالعصير إذا غلا و إن لم يقذف بالزبد إلّا أن يذهب بالغليان ثلثاه أو ينقلب خلًّا و بما عداه إذا حصلت فيه الشدّة المسكرة.

أقول: المراد بالعصير هو العصير العنبيّ، و إطلاق الغليان يشمل ما إذا كان بنفسه أو بالنار أو بالشمس.

و قوله: و إن لم يقذف بالزبد إشارة إلى ردّ أبي حنيفة حيث اعتبر الإزباد و إطلاق كلامه شامل لما إذا تحقق فيه الإسكار أو لم يتحقق و لم يحصل، فبمجرّد الغليان يحرم و يتعلّق به حكم الخمر و يستمرّ ذلك إلى أن يذهب ثلثاه بالغليان أو ينقلب عن كونه عصيرا إلى الخلّ.

______________________________

[1] أمالي الشيخ الطوسي ج 1 ص 8 عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمّد عليهما السّلام و قد سئل عن قوله تعالى «فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبٰالِغَةُ»، فقال: إنّ اللّٰه تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أ كنت عالما؟ فإن قال: نعم، قال له: أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال: كنت جاهلا، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة.

و رواه في تفسير الصافي في ذيل الآية 149 من سورة

الأنعام.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 325

و في المسالك: مذهب الأصحاب أن عصير العنبيّ إذا غلا بأن صار أسفله أعلاه يصير بمنزلة الخمر في الأحكام.

و في الروضة: و يحرم عندنا العصير العنبيّ.

و في الرياض: كأنه إجماع بينهم.

و في الجواهر بعد العبارة المذكورة عن المحقق: بلا خلاف أجده فيه انتهى.

و هنا مباحث: أحدها في تحريم العصير. ثانيها في تحليله بذهاب الثلثين أو بانقلاب الماهيّة. ثالثها في إيجابه الحدّ و عدمه.

أمّا الأوّل و الثاني فقال السيد الفقيه الطباطبائي قدس سره: الحق المشهور بالخمر العصير العنبيّ إذا غلا قبل أن يذهب ثلثاه و هو الأحوط و إن كان الأقوى طهارته نعم لا إشكال في حرمته سواء غلى بالنار أو بالشمس أو بنفسه و إذا ذهب ثلثاه صار حلالا سواء كان بالنار أو بالشمس أو بالهواء بل الأقوى حرمته بمجرّد النشيش و إن لم يصل إلى حدّ الغليان «1». و قد علّقنا على قوله: بل الأقوى حرمته بمجرّد النشيش، بقولنا: بل الأحوط. و المراد بالغليان كونه بحيث صار أسفله أعلاه و أعلاه أسفله لشدّة الحرارة، و المراد بالنشيش حصول نقاط و كرات صغيرة في سطح المائع لأجل الحرارة و هو غالبا يكون مقرونا بصوت منه.

و قد عقد في الوسائل بابا عنونه بقوله: باب تحريم العصير العنبي و التمريّ و غيرهما إذا غلا و لم يذهب ثلثاه و إباحته بعد ذهابهما.

عن عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه «2». إلى غير ذلك من روايات الباب.

و مقتضى هذا الخبر أن مجرّد إصابة النار كافية في الحكم بالحرمة، و لكن لم يقل بذلك أحد

بل يشترط في ذلك، الغليان أو النشيش على حسب تصريح سائر

______________________________

(1) العروة الوثقى في فصل النجاسات. التاسع الخمر. مسألة 1.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 326

الأخبار.

و في سائر الأبواب أيضا روايات مناسبة للمقام مثل مرسلة محمد بن الهيثم عن رجل عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته أ يشربه صاحبه؟ فقال: إذا تغيّر عن حاله و غلا فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه «1».

مثل ما رواه عن محمد بن عاصم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لا بأس بشرب العصير ستّة أيام «2». و لعلّ ذكر الستّة هنا لمكان أنه لو ترك العصير بهذه المدّة لا يتغيّر بخلاف ما لو ترك بأكثر من ذلك فإنّه يغلي بمضيّ الزمان و يحرم.

و يستفاد من هذه أن الغليان بنفسه أيضا يوجب الحرمة.

و في الوسائل: قال ابن أبي عمير: معناه ما لم يغل.

و عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن شرب العصير قال: تشرب ما لم يغل فإذا غلا فلا تشربه قلت: أيّ شي ء الغليان؟ قال:

القلب «3».

و عن ذريح قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: إذا نشّ العصير أو غلا حرم «4».

و يؤيّد ذلك أيضا الأخبار الدّالّة على حكمة تحريم العصير و ما وقع بين آدم عليه السلام و إبليس لعنه اللّٰه و كذا ما وقع بين نوح عليه السلام و إبليس فراجع الباب 2 من الأشربة المحرّمة.

ثمّ إنّه كما يؤثّر ذهاب الثلثين في الحلّ كذلك يؤثّر في ذلك انقلاب ماهيته بأن يصير

خلًّا. و في المسالك: أو دبسا على قول و إن بعد الفرض. ثمّ بيّن وجه بعده

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 3 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 3 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 17 ب 3 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 327

بقوله: لأن صيرورته دبسا لا يحصل غالبا إلّا بعد ذهاب أزيد من ثلثيه.

و أمّا الثالث و هو المهمّ لنا في هذا المقام و هو حدّ شارب العصير، فالمتقدّمون من الأصحاب لم يذكروا ذلك و لم يكن في كلماتهم في باب الحدود أنه يحدّ شارب العصير مع تصريحهم بحرمته أو نجاسته على اختلافهم في النجاسة.

و الظاهر أن أوّل من نطق بذلك هو المحقق قدس سره و تبعه العلّامة أعلى اللّٰه مقامه في القواعد ثمّ بعد ذلك تبعهما شرّاح الشرائع و القواعد و غيرهم.

قال الفاضل الهندي الأصبهاني بعد ذكر الخمر: و كذا العصير العنبيّ إذا غلا و إن لم يقذف بالزبد خلافا لأبي حنيفة فاعتبر الإزباد سواء غلى من نفسه أو بالنار أو بالشمس إلّا أن يذهب ثلثاه أو ينقلب خلًّا و لا خلاف عندنا في جميع ذلك، و النصوص ناطقة به لكن لم أظفر بدليل على حدّ شاربه ثمانين و لا بقائل به قبله سوى المحقق انتهى «1». قوله: قدس سره «قبله» أي قبل العلّامة.

و في الرياض بعد أن احتمل كون المطلب إجماعيّا بينهم- على ما ذكرناه- كما صرّح به في التنقيح [1] و غيره و لم أقف على حجّة معتدّ بها سواه انتهى.

و

في الجواهر: لعلّ دليله ظهور النصوص أو صريحها المتقدمة في محلّها في أنه بحكم الخمر في الحرمة في الحرمة و غيرها.

هذا من ناحية الأقوال. و أمّا الأدلّة فعمدة مستند القائلين بكون العصير ملحقا بالخمر في النجاسة و سائر الأحكام، الأخبار. و قد علمت أن الأخبار الماضية لا دلالة لها على إثبات الحدّ و ترتّبه عليه نعم صحيح معاوية بن عمار أو موثّقه أظهر من جميع الأخبار في ذلك و لعلّهم اعتمدوا عليه و هو:

عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث و أنا أعرف أنه يشربه

______________________________

[1] أقول: قال الفاضل المقداد في التنقيح ج 4 ص 368: اتّفق علماؤنا أيضا على أن عصير العنب إذا غلا حكمه حكم المسكر إلّا أن يذهب ثلثاه.

______________________________

(1) كشف اللثام ج 2 ص 237.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 328

على النصف أ فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟ فقال: خمر لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحلّه على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال: نعم «1».

تقريب الاستدلال بهذه الرواية أن الإمام عليه السلام أطلق الخمر على العصير العنبي الذي ذهب نصفه لا ثلثاه، تنزيلا إيّاه منزلة الخمر في الأحكام من النجاسة و الحرمة و الحدّ. و فيه الإشكال من ناحيتين: إحداهما من جهة عدم اشتمال بعض النسخ على ما يشتمله بعض آخر. و الأخرى من جهة الدلالة.

أمّا الأولى فإنّه ليس في نسخة الكافي لفظ الخمر أصلا و إنّما الموجود فيه

هو مجرّد النهي عن شربه، و هو و إن كان دالّا على حرمة الشرب لكنّه لا دلالة له على لزوم الحدّ على شربه و ترتبه عليه نعم هو موجود في التهذيب.

و أمّا ما يقال من أنه عند دوران الأمر بين الخطأ في الزيادة أو في النقيصة يرجّح احتمال الخطأ في النقيصة فإنّ الغلبة مع الخطأ فيها دون الزيادة و الترجيح عند دوران الأمر بين أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة، للأولى و لازم ذلك هو الأخذ بنسخة التهذيب المشتمل على لفظ الخمر دون الكافي الفاقد له.

ففيه أنه و إن صحّ ما ذكروه من تقدم أصالة عدم الزيادة عند دوران الأمر بين الزيادة أو النقيصة إلّا أنه لا يجري في المقام و ذلك لأن نسخ التهذيب أيضا مختلفة و ليست متفقة على الاشتمال على اللفظ المزبور و إنّما يشتمل عليه بعض نسخه. هذا مضافا إلى أن الكافي أضبط من التهذيب و على هذا فالترجيح لنسخة الكافي.

و أمّا الثانية فلأنه ربّما يستشكل في دلالة الرواية على المراد و إن كانت مشتملة على اللفظ المذكور و ذلك لأنه لو كان النهي مصدرا بالفاء لتمّ ما ذكروه لاقتضاء فاء الترتيب أن حرمة الشرب لأجل كونها من آثار الخمر و أنها من

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 7 من الأشربة المحرّمة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 329

جملة ما يترتب عليه و من المعلوم أن من جملة ما يترتب عليه هو الحدّ، و أمّا إذا لم يكن كذلك بأن قال: خمر لا تشربه فلا دلالة له على المقصود لأنه على هذا لا يستفاد منه إلّا مجرّد تنزيل العصير منزلة الخمر في عدم جواز شربه لا

في مطلق أحكامه و على هذا فيكون قوله عليه السلام: لا تشربه، بيانا لأصل التنزيل و كأنه يريد أن يقول: لا تشربه فيقول: إنّه خمر، كي ينبّه السائل المخاطب على مبلغ عظمة هذه المعصية.

و على الجملة فبعد عدم ورود خبر رأسا يذكر فيه الحدّ على شرب العصير فهل يمكن إثبات وجوب الحدّ على ذلك بمجرّد إطلاق الخمر عليه في رواية خصوصا مع عدم وجود اللفظ المزبور في نقل بعض العلماء الأخر بل و في جميع نسخ الكتاب الذي نقل فيه و لا أقلّ من كون ذلك من موارد الشبهة الّتي يدرأ بها الحدّ.

نعم هنا احتمال و هو أن هذا البختج الذي نهى الإمام عن شربه و أطلق عليه الخمر كان مسكرا لا بمجرّد أنه لم يذهب ثلثاه، هكذا ذكره بعض.

و لكنّه خلاف الظاهر من الرواية و ذلك لأن السؤال كان عن شربه على النصف و الثلث، و قد مرّ أنه لا دلالة للخبر على الحدّ بل و لا على النجاسة إلّا أن يسكر فيقام على من شربه الحدّ.

و الحاصل أنه إمّا أن يحمل الخبر على عموم التنزيل فتجري الأحكام الثلاثة:

النجاسة و الحدّ و الحرمة، و إمّا أنه يحمل على التنزيل في خصوص حرمة الشرب الّتي صرّح بها في الخبر و حيث إنّهم لا يقولون بالأوّل فلا بدّ من الحمل على مجرّد حرمة الشرب الّتي دلّت على خصوص ذلك روايات عديدة.

و بما ذكرنا يظهر الإشكال في الحكم بالنجاسة أيضا فقد نقل أن المشهور ألحقوا العصير بالخمر في النجاسة أيضا و لم يذكروا ترتّب الحدّ على شربه و هذا لا يستقيم لأنه لو كان يفهم من الصحيحة تنزيله منزلة الخمر في جميع الآثار فلازمه ترتّب الحدّ أيضا

و إن لم يفهم منها أكثر من التنزيل في حرمة الشرب المذكورة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 330

فيها فلا وجه للنجاسة أيضا.

الكلام في حكم طبخ العنب

ثمّ لو قلنا بعموم التنزيل و جريان جميع أحكام الخمر للعصير العنبي فهل يجري هذا الحكم في العنب نفسه أم لا؟.

قد تعرّض له في المسالك قائلًا: و لو طبخ العنب نفسه ففي إلحاقه بعصيره وجهان: من عدم صدق العصير عليه و من كونه في معناه انتهى.

و في الجواهر: لعلّ الثاني لا يخلو عن قوّة بملاحظة النصوص.

و نحن نقول: لعلّ الأوّل هو الأقوى و ذلك لعدم الملازمة بين ترتّب حكم على شي ء إذا كان في الباطن و بين ما إذا كان في الخارج. و نحن و إن كنّا نعلم أن العصير ليس شيئا وراء هذا الماء الموجود في أجواف حبّات العنب و هذا يقرّب ترتّب حكم العصير على العنب نفسه. إلّا أن تفاوت أحكام الشي ء بالنسبة إلى الحالتين و تفارق أحكام حال بالنسبة إلى حال آخر ليس بعزيز.

ألا ترى أن الدم في الخارج هو الدم الموجود في الباطن بلا فرق بينهما و مع ذلك يترتّب على الخارج منه ما لا يترتّب على الداخل منه و بالعكس فلذا نقول بأنه إذا غرز إبرة أو أدخل سكّينا في بدنه أو بدن حيوان فإن لم يعلم ملاقاته للدم في الباطن فطاهر، و إن علم الملاقاة لكنّه خرج نظيفا غير ملوّث بالدم فالأقوى أيضا عدم لزوم الاجتناب عنه، مع أنه لا شك في التنجّس بالملاقاة معه في خارج البدن و هو معلوم.

هذا كلّه مع تسليم كون ما في أجواف الأعناب هو الماء مع أنه يمكن الإشكال في ذلك فإنّ ما تحتويه الحبّات هو الموادّ اللحميّة

لها، و ما في جوف العنب ليس بماء و يعبّر عنه بلحم العنب إلّا في الحبّات الفاسدة التي قد يكون بحيث ليس في جوفها شي ء سوى الماء و هي ليست شيئا سوى الجلدة الرقيقة و الماء و أمّا الحبّات الصحيحة فلا، و إنّما هي بالعصر ينقلب ماءا فإذا هذا شي ء و ذاك شي ء

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 331

آخر و إن كان يطلق عليها أن فيها الماء لكنّه مجازيّ.

أضف إلى ذلك كلّه. جريان الشبهة في إجراء الحدّ و درئه بها.

هذا كلّه على فرض القول بالحدّ في العصير نفسه و قد علمت أنه لا وجه له أصلا. نعم البحث في العنب نفسه ينفع بالنسبة إلى سائر الآثار و الأحكام المترتبة على العصير خصوصا مع كثرة الابتلاء به عند صنع الطبيخ و طبخ الأرزّ فقد يقع فيه حبة أو حبّات من العنب أو يضعونها و يلقونها فيه.

و على ما ذكرنا فيجري في المقام أصالة الإباحة و كذا أصالة الطهارة لو قلنا في العصير بالنجاسة و إلّا فالأمر واضح. و أمّا الحدّ على شرب العصير العنبي فقد تقدم أنه لا وجه له و إن كان ظاهر عبارة الشرائع هو أنه يوجب الحدّ أيضا.

اللّهم إلّا أن يتعلّق قوله في الفرض الآتي: إذا حصلت فيه الشدّة المسكرة، انتهى.

به أيضا فحينئذ لا إشكال عليه لمكان اشتراط الإسكار.

في العصير غير العنبيّ

قال المحقق: و بما عداه إذا حصلت فيه الشدّة المسكرة.

أقول: يعنى إنّ الحكم المتعلّق بالخمر يتعلّق بما عدا العصير العنبي كالعصير التمري و الزبيبي بشرط حصول الشدّة المسكرة بالغليان لا بمجرّد الغليان.

و أمّا صيرورته حراما يتعلّق به حكم الخمر إذا غلا و اشتدّ و أسكر فهو مقتضى روايات صريحة في ذلك.

فعن

ابي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: كلّ مسكر من الأشربة يجب فيه كما يجب في الخمر من الحدّ «1».

و عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: في كتاب عليّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 332

عليه السلام: يضرب شارب الخمر و شارب المسكر، قلت: كم؟ قال: حدّهما واحد «1». فإنّ الحدّ بمقتضى هذه الروايات يقام على شارب المسكر و إن لم يصدق عليه أنه شارب الخمر و لم يصدق الخمر على ذاك المسكر و قد اتفقت النصوص و الفتاوي على ذلك.

و قد علم مما ذكر في المقام أن العصير العنبيّ قد قيّد بالغليان و أمّا العصير المتّخذ من غيره فهو مقيّد بقيد الإسكار فلا حرمة في العصير العنبيّ بدون الغليان كما لا حرمة في العصير المتّخذ من غيره بدون الإسكار.

في التمر المغليّ و الزبيب الذي نقع في الماء فغلى

قال المحقق: و أمّا التمر إذا غلى و لم يبلغ حدّ الإسكار ففي تحريمه تردد و الأشبه بقاؤه على التحليل حتى يبلغ و كذا البحث في الزبيب إذا نقع في الماء فغلى من نفسه أو بالنار فالأشبه أنه لا يحرم ما لم يبلغ الشدّة المسكرة.

أقول: فقد تردد المحقق قدس سره في الفرضين و رأى فيهما أن الأشبه هو عدم الحرمة ما لم يبلغ حدّ الإسكار.

و قال في المسالك: وجه التردد في عصير التمر أو هو نفسه إذا غلا: من دعوى إطلاق اسم النبيذ عليه حينئذ و مشابهته للعصير العنبي، و من أصالة الإباحة و منع إطلاق النبيذ المحرّم عليه حينئذ حقيقة و منع مساواته لعصير العنب لاشتراكهما في الحكم لخروج ذلك بنصّ

خاصّ فيبقى غيره على أصل الإباحة و هذا هو الأصحّ.

أقول: أمّا بالنسبة للنّبيذ ففي مجمع البحرين: النبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر و الزبيب و العسل و الحنطة و الشعير و غير ذلك. يقال: نبذت التمر و العنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذا فصرف من مفعول إلى فعيل. و في المنجد: انتبذ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 333

النبيذ عمله و العنب أو التمر، صار نبيذا. النبيذ جمع أنبذه الخمر المعتصر من العنب، أو الخمر، سمّي نبيذا لأن الذي يتّخذه يأخذ تمرا و زبيبا فيلقيه في وعاء و يصبّ عليه الماء و يتركه حتى يفور فيصير مسكرا، الشراب عموما.

ثم قال في المسالك: و أمّا نقيع الزبيب و هو إذا غلى و لم يذهب ثلثاه فقيل بتحريمه كعصير العنب لاشتراكهما في أصل الحقيقة و لفحوى رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام، و الأصحّ حلّه للأصل و استصحاب الحلّ و خروجه عن اسم العنب الذي عصيره متعلّق التحريم به و لذهاب ثلثيه بالشمس، و دلالة الرواية على التحريم ممنوعة. انتهى «1».

أقول: الرواية هذه: عن عليّ بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ ذلك الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه و يبقى الثلث ثم يرفع و يشرب عنه السّنة؟ قال: لا بأس به «2».

و يستفاد منها أنهم لا يزالون يطبخون الزبيب بحيث كان يخرج طعمه و يسري إلى الماء ثم كانوا يطبخون ذاك الماء و يشربون منه طول عامهم فالراوي سأل عمّا إذا طبخ الماء المذكور بحيث ذهب ثلثاه فيعلم

أنه كان مغروسا في ذهنه و في الأذهان عدم جواز شربه بدون ذهاب ثلثيه و قد حكم الإمام عليه السلام بالجواز و يستفاد من ذلك أنه لا يجوز شربه إذا لم يذهب ثلثاه هذا غاية تقريب التّمسّك بها في الحكم بالحرمة.

لكن لا يخفى أنه قد كان السؤال بالنسبة لهذا المورد و لم يكن ذكر القيد عن الإمام عليه السلام و في كلامه حتى يفيد عدم الجواز في فرض عدم الذهاب جزما و لا تصريح فيها بالبأس في غير الصورة المفروضة و بذلك يمكن الخدشة في دلالة الرواية على الحرمة.

و أمّا ما أفاده المسالك توجيها للحلّ من الاستصحاب فبيانه أنه قبل أن ينقع

______________________________

(1) مسالك الأفهام ج 2 كتاب الحدود ص 439.

(2) (چ) وسائل الشيعة ج 17 ب 8 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 334

في الماء كان حلالا فالآن أيضا كذلك.

و يمكن أن يورد عليه بأن الزبيب حال كونه عنبا كان يحرم إذا غلا فالآن الذي صار زبيبا أيضا كذلك فيكون الحكم بالحرمة مع الغليان حكما لكليهما.

و لكنّ الظاهر أنه لا مورد للاستصحاب و ذلك لانقلاب الموضوع فالحكم المتعلّق بالعنب و عصيره و مائه لا تعلّق له بالزبيب.

هذا مضافا إلى أن الحكم السابق كان متعلّقا بعصير العنب و هنا لا عصير أصلا و إنّما هو ماء و زبيب.

كما أن ما ذكره أخيرا في توجيه الحلّ من ذهاب الثلثين في العنب بالشمس لا محصّل له، و لا يخفى ما فيه: أوّلا أن ذهاب الثلثين المطهّر و الموجب للحلّ هو ما كان بعد الغليان لا مطلقا و إن كان قبله و بدونه كما في الزبيب و التمر. و ثانيا أن

أصل ذهاب ثلثي العنب أو التمر بالهواء أو بالشمس غير معلوم.

ثم لا يخفى أنه ذكر في مجمع البحرين: النقيع شراب يتّخذ من زبيب ينقع في الماء من غير طبخ و قد جاء في الحديث كذلك.

الكلام في الفقّاع

قال المحقق: و الفقاع كالنبيذ المسكر في التحريم و إن لم يكن مسكرا و في وجوب الامتناع من التداوي به و الاصطباغ به.

أقول: هذا توضيح و تفصيل بالنسبة لما ذكره في أوّل البحث بقوله: الموجب و هو تناول المسكر أو الفقّاع.

و قال العلّامة في القواعد: و الفقّاع كالمسكر و إن لم يكن مسكرا. و الظاهر من عبارتهما أن الفقّاع على قسمين: المسكر و غير المسكر و أنه ليس الإسكار من طبعه و لوازمه ذاتا فما سمّي فقّاعا فهو حرام مطلقا.

و فيه أنه يمكن أن يقال: إنّ المستفاد من الأخبار أن الفقّاع مسكر و إن لم يكن إسكاره قويّا شديدا مثل الخمر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 335

قال علم العلم و التقى الشيخ المرتضى أعلى اللّٰه مقامه: ظاهر النصوص و معاقد الإجماع عدم اعتبار الإسكار فيه و قد نسبه في الحدائق إلى ظاهر الأصحاب و تقدم في شرح المفاتيح أن نجاسته و إن لم يكن مسكرا هو المعروف. بل المصرّح به في مجمع البحرين و كشف الغطاء كونه مما لا يسكر قال في الأوّل: هو شي ء يتّخذ من ماء الشعير و ليس بمسكر لكن ورد النهي عنه. و في الثاني: إنّه شراب مخصوص غير متّخذ من الشعير غالبا. و في تحفة الطبّ: إنّه من الأنبذة و لا يسكر. و لكنّ الإنصاف أن ظاهر الأخبار الدّالة على أنها خمر أو بمنزلتها اعتبار الإسكار فيه سيّما بملاحظة ما دلّ على أن

اللّٰه لم يحرّم الخمر لاسمها و إنّما حرّمها لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبته الخمر فهو خمر إلّا أن يلتزم بأنه يحصل منه فتور و إن لم يبلغ حدّ السكر انتهى «1».

و قال الفقيه الهمداني رضوان اللّٰه عليه: ثم إنّ ظاهر الأصحاب حيث جعلوا الفقّاع قسيما للخمر و غيرها من المسكرات عدم اعتبار الإسكار فيه بل سمعت من مجمع البحرين كما صرّح به غيره أيضا أنه شراب غير مسكر لكن يفهم من الأخبار أن حرمته حرمة خمرية فيستشعر منها أنه من الأشربة المسكرة كما يؤيّده ما حكي عن زيد بن أسلم أنه قال: الغبيراء الّتي نهى رسول اللّٰه عنها هي الأسكركة خمر الحبشة انتهى.

و قد فسّر الأسكركة بالفقّاع فلا يبعد أن يكون له مرتبة خفيّة من الإسكار لا توجب زوال العقل فلعلّه لذا سمّي في الأخبار بالخمر المجهول حيث لم يعرف مسكريّته «2».

و في تقريرات أبحاثنا: التاسع من النجاسات الفقّاع و هو شراب خاصّ متّخذ من الشعير كما ذكره غير واحد و نجاسته إجماعية عندنا، و أمّا العامّة فيحكمون بحليّته و لعلّ حكمهم بحليّته مع أن كلّ مسكر عندهم حرام لأجل خفاء السكر فيه

______________________________

(1) طهارة الشيخ الأنصاري قدس سره الشريف ص 321.

(2) مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 557.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 336

أو حصول السكر في كثير منه دون قليله فما يقال من أن الفقّاع لا يشترط فيه السكر فكلّ شي ء يصدق عليه الفقّاع فهو حرام سواء أسكر أم لا، يردّه ما يستفاد من الأخبار من أن الفقّاع من الخمر و لا يصدق الخمر على غير المسكر انتهى «1».

و على الجملة فالمستفاد من بعض الأخبار أنه مسكر سكرا خفيفا و لذا عبّر

عنه بأنه خمر مجهول. و إليك بعض الأخبار الواردة في المقام المستدلّ بها للمرام:

عن الوشاء قال: كتبت إليه يعني الرضا عليه السلام أسأله عن الفقّاع قال:

فكتب: حرام و هو خمر «2».

و عن ابن فضّال قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن الفقّاع فقال: هو الخمر و فيه حدّ شارب الخمر «3».

و عن الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: كلّ مسكر حرام و كلّ مخمّر حرام و الفقّاع حرام «4».

و عن عمار بن موسى قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفقّاع فقال:

هو خمر «5».

و عن زكريّا أبي يحيى قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن الفقّاع و أصفه له فقال: لا تشربه. فأعدت عليه كلّ ذلك أصفه له كيف يصنع قال: لا تشربه و لا تراجعني فيه «6».

و عن الحسين القلانسي قال: كتبت إلى أبي الحسن الماضي عليه السلام أسأله

______________________________

(1) كتاب الطهارة ص 294.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 2.

(4) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 3.

(5) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 4.

(6) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 337

عن الفقّاع فقال: لا تقربه فإنّه من الخمر «1».

و عن محمّد بن سنان قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الفقّاع:

هو الخمر بعينها «2».

و عن هشام بن الحكم إنّه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفقّاع فقال: لا تشربه فإنّه خمر مجهول و إذا أصاب ثوبك فاغسله «3».

و عن زاذان

عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لو أن لي سلطانا على أسواق المسلمين لرفعت عنهم هذه الخميرة يعني الفقّاع «4».

إلى غير ذلك من الروايات الشريفة فراجع. فهذه الأخبار و إن لم تكن لبعضها دلالة على كون الفقّاع مسكرا و ذلك مثل الثالثة التي اكتفى فيها بمجرّد الحرمة، و الخامسة المشتملة على مجرّد النهي عن الشرب و غير ذلك، إلّا أن الرواية الأولى و الثانية و الرابعة و السادسة و السابعة و الثامنة بل و التاسعة دالّة على كونه خمرا. و ما يقال من احتمال كون التنزيل حكميّا فهو خلاف الظاهر خصوصا بالنسبة لما ذكر في بعضها: هو الخمر و فيه حدّ شارب الخمر، أو: هو من الخمر، الظاهر في أنه من أقسام الخمر، أو: هو الخمر بعينها.

و على الجملة فهذه الروايات ظاهرة في كون الفقّاع مسكرا، غاية الأمر في حدّ أخفّ من الخمر و لعلّه الوجه في التعبير عنه في رواية زاذان بالخميرة، و إن كان يحتمل كون التعبير المذكور ناظرا إلى ما ورد في بعض الروايات من أنه خمر استصغره الناس «5» و كيف كان فإنّ ترتب أحكام الخمر عليه مما لا شكّ فيه.

و بذلك يظهر وجه ما أفاده المحقق من وجوب الامتناع من التداوي به

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 6.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 7.

(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 8.

(4) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 9.

(5) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 338

و الاصطباغ. فإنّه

إذا كان الفقّاع من الخمر فيجري فيه الأبحاب الجارية فيه فلا يجوز التداوي به لرفع المرض أو غمس الخبز فيه و أكله كما لا يجوز ذلك في الخمر [1].

في الاختيار و أنه لا حدّ على المكره

قال المحقق: و اشترطنا الاختيار تفصيا من المكره فإنّه لا حدّ عليه.

و في الجواهر: بلا خلاف و لا إشكال بل الإجماع بقسميه عليه سواء كان بإيجار في حلقه أو بتخويف على وجه يدخل به في المكره.

و في المسالك: لا فرق في جوازه مع الإكراه بين من و جر في فمه قهرا أو من ضرب أو خوّف بما لا يحتمله عادة حتى شرب.

ثم قال: و يفهم من إخراج المكره عنه خاصّة أن المضطرّ لا يخرج عنه، و الأصحّ خروج ما أوجب حفظ النفس من التلف كإساغة اللقمة بل يجب ذلك لوجوب حفظ النفس و إن حرم التداوي به لذهاب المرض أو حفظ النفس

______________________________

[1] فعن أبي بصير قال: دخلت أمّ خالد المعبديّة على أبي عبد اللّٰه عليه السلام و أنا عنده فقالت: جعلت فداك إنّه يعتريني قراقر في بطني [فسألته عن أعلال النساء و قالت:] و قد وصف لي أطبّاء العراق النبيذ بالسويق و قد وقفت و عرفت كراهتك له فأحببت أن أسألك عن ذلك.

فقال لها: و ما يمنعك عن شربه؟ قالت: قد قلّدتك ديني فألقى اللّٰه عزّ و جلّ حين ألقاه فأخبره: إنّ جعفر بن محمد عليهما السلام أمرني و نهاني فقال: يا أبا محمد ألا تسمع إلى هذه المرأة و هذه المسائل لا و اللّٰه لا آذن لك في قطرة منه و لا تذوقي منه قطرة فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك ها هنا- و أومأ بيده إلى حنجرته- يقولها ثلاثا: أفهمت؟ قالت: نعم. ثم قال

أبو عبد اللّٰه عليه السلام: ما يبلّ الميل ينجّس حبّا من ماء- يقولها ثلاثا.

الكافي ج 6 ص 413 إلى غير ذلك من الروايات هناك فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 339

انتهى.

أقول: إنّ ذكر الإيجار في الحلق مثالا للإكراه المقابل للاختيار محلّ الإشكال و ذلك لأن من و جر في حلقه فلا حرمة في حقّه للإلجاء و الاضطرار و هذه العناوين غير عنوان الإكراه.

و أمّا التخويف فإن كان من جهة الإيعاد و التهديد على قتله إن لم يشربه فهو، و أمّا لو كان على غير ذلك كتوعيده بضياع وجاهته الاجتماعيّة أو سبّه أو شتمه و ضربه فهناك يشكل الحكم بأنه أكره على شرب الخمر و أنه يجوز له ذلك.

و الحاصل أن الاستكراه على الشي ء الموجب لرفع أحكامه جار في المعاملات بأيّ نحو من أنحاء الاستكراه كان فلا يترتب معه على المعاملة آثارها، و هذا بخلاف إتيان المحرمات و اقترافها و ترك الواجبات فإنّ الاستكراه المسوّغ لذلك لا بدّ فيه من أن يكون الأمر المتوعّد عليه أهمّ من الذي استكره عليه و إلّا فلا أثر له.

و أمّا التقيّة و الاضطرار فهما موضوعان مستقلّان و لا تعلّق لهما بالإكراه.

و كيف كان فالاضطرار لو كان بحيث يتوقف حفظ النفس على الارتكاب و ذلك كإساغة اللقمة فهناك يجري الحكم و يجوز الأكل أو الشرب كي يتخلّص من الهلاك، و يشمله حديث رفع ما اضطرّوا إليه أيضا.

و أمّا الاضطرار إليه لرفع المرض فتجويز الشرب لذلك مشكل، و ما ورد في الأخبار من عدم جعل الشفاء فيه أو عدم التداوي به فهو ناظر إليه و إلّا فلو توقف حفظ نفسه عليه كما إذا رأى الطبيب الحاذق الماهر الموثوق به أن

المرض مهلك و العلاج منحصر في شرب الخمر فهناك يجوز ذلك فمجرّد حفظ النفس عن المرض و إعادة الصحّة ليس مجوّزا له و إنّما يسوّغ ذلك حفظ النفس عن التلف و الهلاك و ذلك لأن حفظ النفس أهمّ من كلّ شي ء إلّا بالنسبة إلى مثله أي نفس آخر. و على هذا فمن شرب الخمر لحفظ نفسه عن الهلاك فلا حدّ عليه أصلا.

و في الجواهر: بل لو قلنا بحرمته معه [أي مع الاضطرار] أمكن منع الحدّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 340

المزبور عليه لظهور ما دلّ عليه في غيره. يعني لظهور ما دلّ على الحدّ في غير الاضطرار.

ثم قال: اللّهم إلّا أن يمنع ذلك انتهى أي ذلك الظهور فهناك يترتب عليه الحدّ أيضا.

ثمّ لو لم يكن إكراه و إنّما كانت التقيّة محقّقة فهل يرفع الحكم بعمومات التقيّة أو أن للمسكرات خصوصيّة لا يرفع حكمها بالتقيّة فيجب الاجتناب عنها و إن كان معرضا للإضرار بالنفس أو المال أو العرض؟ مقتضى عدّة من الروايات هذا، و هي:

عن زرارة قلت لأبي جعفر عليه السلام في المسح على الخفّين تقيّة فقال:

ثلاث لا أتّقي فيهنّ أحدا: شرب المسكر و المسح على الخفّين و متعة الحجّ «1».

و عن سعيد بن يسار قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: ليس في شرب النبيذ تقيّة «2».

و عن حنان قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما تقول في النبيذ فإنّ أبا مريم يشربه و يزعم أنّك أمرته بشربه؟ فقال: معاذ اللّٰه أن أكون أمرته بشرب مسكر و اللّٰه إنّه لشي ء ما اتّقيت فيه سلطانا و لا غيره قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: كلّ مسكر حرام و

ما أسكر كثيره فقليله حرام «3».

فهذه الروايات تدلّ على عدم جريان التقيّة في باب المسكر.

قال صاحب الجواهر قدس سره: و الأخبار الواردة في نفي التقيّة فيه يراد منها عدم التقيّة في بيان حكمه لا التقيّة بمعنى فعله للإكراه عليه كما هو واضح انتهى.

أقول: لعلّ دقيق النظر في الأخبار يقضي بخلاف ذلك فترى أن السؤال في الرواية الأولى عن العمل لا بيان الحكم و كذا الرواية الثانية متعرّضة لشرب

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من الأبواب الأشربة المحرّمة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 341

النبيذ.

و عن عمرو بن مروان قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنّ هؤلاء ربما حضرت معهم العشاء فيجيئون بالنبيذ بعد ذلك فإن لم أشربه خفت أن يقولوا:

فلانيّ، فكيف أصنع؟ فقال: أكسره بالماء، قلت: فإن أنا كسرته بالماء أشربه؟

قال: لا «1». و مقتضى هذه الرواية رفع الحرمة للتقيّة و جريان التقية في النبيذ حيث إنّه عليه السلام أمره بكسر النبيذ بالماء فيكون المراد: أكسره و أشربه.

و إلّا فلو كان المراد مجرّد كسره بالماء من دون أن يشربه كما هو ظاهر الجملة الأخيرة فالعمل المزبور لغو لا طائل تحته.

اللهمّ إلّا أن يكون المراد أمره بالاشتغال بكسره بالماء و إراءة نفسه عند الحاضرين أنه يريد أن يشربه، و لكن نهاه عن شربه. و يمكن أن يكون مقصود الإمام عليه السلام كسره بالماء عند اضطراره إلى الشرب حتى لا يكون مسكرا و إن كان محرّما.

و أمّا نهيه بعد ذلك مع الحمل على حال الاضطرار فيحمل على

أن السائل قد تخيّل أنه يمكن ذلك في الاختيار أيضا بأن يكسر إسكاره بالماء ثم يشرب فنهاه الإمام عليه السلام عن ذلك.

و على الجملة فلهذه الرواية نوع إجمال فعلى احتمال تفيد أنه لا تقيّة في النبيذ فلا يجوز شربه مطلقا و على احتمال آخر يفيد أنه تجري فيه التقيّة و إذا كان جريان الاحتمال موجبا للإجمال و الشبهة فهناك تجري قاعدة الدرء فلا يقام الحدّ على من شربه في التقيّة و إن قلنا بحرمته لصراحة رواية المنع و إجمال المجوّز مع أن المرجع عمومات التقيّة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من الأبواب الأشربة المحرّمة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 342

قال المحقق: و لا يتعلّق الحكم بالشارب ما لم يكن بالغا عاقلا.

أقول: و هذا واضح لأنه لا تكليف على الصبيّ و المجنون نعم يؤدّب الطفل على شربه إذا كان مميزا.

لا حدّ على الجاهل

قال المحقق: و كما يسقط الحدّ عن المكره يسقط عمّن جهل التحريم أو جهل المشروب.

أقول: إن شرب الخمر جهلا على قسمين:

أحدهما: شربه للجهل بالموضوع و أن المائع الذي يشربه خمر.

ثانيهما: شربه للجهل بالحكم كما إذا كان الشارب حديث العهد بالإسلام أو كانت بلاده نائية عن عاصمة الإسلام جدّا لم يصل إليه الأحكام الشرعية. و كلّ منهما معذور على شربه و لا يقام عليه الحدّ بذلك.

أمّا الأوّل و هو ما إذا شرب الخمر بزعم أنه ماء مثلا فيدل على عدم الحدّ عليه حديث الرفع: رفع ما لا يعلمون.

و أمّا الثاني و هو الجهل بالحكم فيدل عليه- مضافا إلى ذلك- خبر ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر فرفع إلى أبي بكر فقال له:

أشربت خمرا؟ قال: نعم، قال: و لم و هي محرّمة؟ قال: فقال له الرجل: إنّي أسلمت و حسن إسلامي، و منزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر و يستحلّون و لو علمت أنها حرام اجتنبتها فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما تقول في أمر هذا الرجل؟ فقال عمر: معضلة و ليس لها إلّا أبو الحسن فقال أبو بكر: ادع لنا عليّا فقال عمر: يؤتي الحكم في بيته فقاما و الرجال معهما و من حضرهما من الناس حتى أتوا أمير المؤمنين عليه السلام فأخبراه بقصّة الرجل و قصّ الرجل قصّته فقال: ابعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 343

و الأنصار من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ففعلوا ذلك به فلم يشهد عليه أحد بأنه قرأ عليه آية التحريم فخلّى سبيله فقال له: إن شربت بعدها أقمنا عليك الحدّ «1».

نعم ذكروا في الجهل بالحكم أنه إذا كان عالما بالتحريم فإنّه يكفي في عدم معذوريّته و إن لم يكن عالما بالحدّ و ذلك لأن علمه بالتحريم كما هو المفروض كاف في إتمام الحجّة و لزوم الاجتناب عليه فلو لم يعتن بذلك و ارتكب الحرام الذي له حدّ يقام عليه ذاك الحدّ و إن لم يكن يعلم هذه الخصوصيّة.

فيما يثبت به الشرب

قال المحقق: و يثبت بشهادة عدلين مسلمين و لا تقبل فيه شهادة النساء منفردات و لا منضمّات و بالإقرار دفعتين و لا تكفي المرّة.

أقول: الكلام هنا في ما يثبت به الشرب حتى يترتب عليه حدّه فاعلم أنه يثبت بالبيّنة أي شهادة رجلين عدلين مسلمين و كذا بالإقرار على نفسه بذلك مرّتين.

أمّا الأول فلإطلاق دليل البيّنة و لا كلام و

لا خلاف في ذلك قال اللّٰه تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ» «2» و قد تحقق عدم اختصاص ذلك بمورد الآية الكريمة أي باب الديون و الأموال بل البينة حجّة في جميع الموارد إلّا ما خرج بالدليل من الموارد التي تحتاج إلى أكثر من ذلك.

و أمّا الشاهد الواحد فقد يدّعي السيرة على قبول قوله. إلّا أنه يجاب عنه- كما في البحث عن خبر الواحد- بأن السيرة و إن كانت قائمة على قبول قول الثقة لكنّه في الأحكام لا الموضوعات، و الكلام الآن، فيها و مقتضى الآية الكريمة هو

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من الأبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) سورة البقرة الآية 282.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 344

اعتبار الاثنين بعد عدم اختصاصها بموردها كما ذكرنا. بل و ادّعى بعض الإجماع على عدم حجيّة شهادة الواحد في الموضوعات، و الحقّ هو الثاني و لا أقلّ من أن الاقتصار على الواحد مورد الشبهة التي يدرأ الحدّ بها.

ثم إنّه يكفي في الشهادة على الشرب أن يشهد الشاهد بأنه شرب مسكرا و إن لم يعيّن جنس ما شربه و أنه شرب القسم الخاصّ منه، نعم لا بدّ من اتّفاقهما على الشهادة.

و أمّا الثاني فإثبات الشرب بالإقرار مرّتين مقطوع به و لا كلام فيه و إنّما الكلام في اعتبار المرّتين أو الإكتفاء بإقرار واحد. فالمشهور عدم الإكتفاء به و اعتبار التعدّد فيه و مقتضى إطلاق دليل الإقرار الإكتفاء بمرّة واحدة و عدم اعتبار أزيد من ذلك كما أنه قد ذهب إلى ذلك بعض من السابقين و المعاصرين «1».

و لكن فتوى المشهور باعتبار المرّتين يصلح لإيجاد الشبهة في الإقرار مرّة واحدة فيدرء الحدّ بها.

بقي الكلام فيما

أفاده من عدم قبول شهادة النساء مطلقا لا منفردات و لا منضمّات إلى الرجال. و ذلك لما تقدم بحثه في كتاب الشهادات من أن شهادة النساء في الحدود غير مقبولة إلّا ما خرج بالدليل كما في باب الزنا الذي مرّ أنه يكفي فيه ثلاثة رجال و امرأتين فقط لا شهادتهن منفردات و لا بغير ما ذكر من الصور المنضمّة، و إنّما يختصّ قبول شهادتهنّ بالمال أو بما لا يطلع عليه الرجال.

فعن علي عليه السلام قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود و لا في القود [1].

إلى غير ذلك من الروايات الدّالة على ذلك فراجع. و قد خصّ الشيخ

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من أبواب الشهادات ح 29 أقول: و مثله خبر 30 من هذا الباب.

______________________________

(1) راجع تكملة المنهاج ص 272.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 345

الطوسي قدس سره هذه الرواية بما عدا حدّ الزنا، و ذلك لما تقدم آنفا من خروج باب الزنا بدليل خاص.

شرائط المقرّ

قال المحقق: و يشترط في المقرّ البلوغ و كمال العقل و الحرية و الاختيار.

أقول: بعد ذكر أنه زاد في الجواهر القصد: أمّا اشتراط البلوغ و العقل فواضح، و أمّا الحرية فلأن إقرار العبد على نفسه يؤل إلى الإقرار في حقّ الغير.

لا يقال إنّ حدّ الشرب هو الجلد و ليس هو القتل كي يكون إقرارا في حق المولى فلا تجري القاعدة هنا.

لأنا نقول: لا أقلّ من أنه في أثناء مدّة الحدّ يتضرر المولى لأن من حقه أن يكون العبد في خدمته دائما.

و أمّا الاختيار فتدل عليه رواية أبي البختري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: من أقرّ عند تجريد أو

تخويف أو حبس أو تهديد فلا حدّ عليه «1». و هي مطلقة شاملة لباب الشرب و السرقة و غيرهما.

ثم إنه قال الشيخ المفيد قدس سره: و يحدّ شارب الخمر و جميع الأشربة المسكرة و شارب الفقّاع عند إقرارهم بذلك أو قيام البيّنة عليهم لا يؤخّر ذلك و لا يحدّ السكران من الأشربة المحظورة حتى يفيق و سكره بيّنة عليه بشرب المحظور و لا يرتقب بذلك إقرار منه في حال صحوه به و لا شهادة من غيره عليه انتهى «2». فاكتفى رضوان اللّٰه عليه في إجراء حدّ الشرب بمجرد السكر و إن لم يكن شربه مشهودا به و لا أنه أقرّ به فكما يثبت الشرب بالبيّنة أو الإقرار كذلك يثبت بالسكر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ السرقة ح 2.

(2) المقنعة الطبع القديم ص 128 و الجديد ص 801.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 346

و أورد عليه في الجواهر بقوله: و لا يخلو من نظر مع احتمال الإكراه و الجهل و غيرهما و من هنا لا تكفي في ثبوته الرائحة و النكهة لاحتمال الإكراه و الجهل و غيرهما. خلافا للمحكي عن أبي حنيفة من الإكتفاء بالرائحة و هو واضح الضعف. و محصّل إيراده أن السكر و إن كان ملازما للشرب لكنه لا يلازم الشرب عن اختيار فلا يحدّ الشارب.

أقول: لعلّ ما أورده عليه لم يكن واردا و ذلك لأن سكره دليل على شربه، و الشرب محمول على الاختيار، و لو كان يرد هذا الاحتمال هنا فهو وارد في مورد قيام الشهادة على شربه، و لم نر من قال باشتراط تقيّد الشهادة بكونه عن اختيار، فإنّ شرب الخمر بظاهره يحمل على القصد

و الإرادة و العلم على ما هو الأصل في كلّ فعل من أفعال البالغين العاقلين، و أصالة السلامة و عدم الاضطرار من الأصول العقلائيّة فيحمل أفعال المكلّف على الاختيار من دون عذر و اضطرار إلى أن يثبت العذر أو ادّعى الإكراه أو الاضطرار أو الجهل و كان يحتمل ذلك في حقّه. و ليس لفعل شرب الخمر الحمل على الصحّة باحتمال العذر ما لم يدّع هو بنفسه أنه شربه جاهلا أو مكرها.

نعم في جريان الأصل العقلائي بالنسبة للعلم و الجهل إشكال و ذلك لأن القصد و الاختيار من الحالات الأولوية للإنسان في حين أن العلم ليس كذلك لأن الإنسان في بدو أمره و بحسب طبعه و مقتضى حاله ليس عالما، بل علمه مسبوق بالجهل [1] إذا فيشكل في الموارد الّتي يشك في صدور المعصية عنه- كشرب الخمر- عن علم أو جهل، حمل فعله على صدوره عن علم فإنّ العلم طار و عارضيّ و الأصل الجاري بالنسبة له هو العدم لأنه لم يخلق عالما.

لكنّ التحقيق أنه و إن كان الأمر كذلك إلّا أن كون الفاعلين بين المسلمين و معهم و نشؤه في بيئة دينيّة و جوّ مذهبيّ يوجب قلب الأمر، فإنّ ذلك يقتضي كونه

______________________________

[1] قال الله تعالى وَ اللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لٰا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» سورة النحل الآية 78.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 347

عالما بالحرمة، فيكون الجهل بها خلاف الظاهر، فإنّ المسلمين عالمون و بأنه حرام مثلا و قد نشأ الشارب فيهم فلذا لا يسمع دعواه الجهل بذلك إلا مع الإثبات أو كان بحيث يظنّ به ذلك و أمكن في حقّه ما يدّعيه كما إذا كان حديث العهد بالدين أو فسد الجوّ

الحاكم إلى أن تصوّر الحرام حلالا.

و لعلّه كان الأمر في عصر حاكميّة الطاغوت بإيران و قبل وقوع الثورة الإسلامية، هذه الحركة الدينيّة العظيمة، كان كذلك و لا أقلّ بالنسبة لقسم من المجتمع، كالشبّان الجامعيّين فقد قلبت الحقائق في ذاك العصر القاسي و اشتبهت الحقائق و مسخت الأحكام بحيث لو كان يدّعي شاب من الجامعيّين مثلا أنه قد أقدم على شرب الخمر جهلا بحرمته و أنه كان لا يعلم ذلك، لم يكن ذلك مستبعدا منه و في حقّه.

و أمّا الآن و في هذه الظروف الّتي يرى ليلا و نهارا ما يصنع بشارب الخمر مثلا من إقامة الحدود فلا، بل و لا يسمع منه دعواه الجهل و إن لم يعلم بترتّب الحدّ على شرب الخمر و ذلك لأن حرمته في هذه الآونة و الظروف مقطوع بها و معلومة لدى كافّة الناس.

لكن يظهر من رواية ابن بكير أنه لا يسمع ادّعاء الجهل في مثل حرمة الخمر ممن كان مسلما بين المسلمين لأنه ضروريّ أو كالضروريّ و لذا بعثوا من يتفحّص عن حاله ليعلم صدقه و كذبه.

فعن ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر فرفع إلى أبي بكر فقال له: أشربت خمرا؟ قال: نعم. قال: و لم و هي محرّمة؟ قال: فقال له الرجل: إنّي أسلمت و حسن إسلامي، و منزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر و يستحلّون و لو علمت أنها حرام اجتنبتها فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال أبو بكر: ادع لنا عليّا فقال عمر: يؤتي الحكم في بيته فقام و الرجل معهما إلى آخر الخبر و قد مرّ آنفا [1] فحيث إنّه قد ادّعى الجهل و كان

يمكن في

______________________________

[1] في بحث عدم الحدّ على الجاهل.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 348

حقّه ذلك فلذا أمر بالتفحّص و إلّا فنشوء الإنسان بين المسلمين بنفسه كاف في إجراء الحدّ عليه حملا على أنه قد اقترفه عالما لأنه لا أقل من علمه بالحرمة و هو كاف في إجراء الحدّ عليه و إن لم يكن عالما بترتب الحدّ عليه.

و على الجملة فتارة يشك في شربه الخمر و احتمل عدم ذلك، فهناك يحمل على الصحة و أنه لم يشرب الخمر و أمّا إذا ثبت و تحقق ذلك فإنّه يحمل على القصد و الإرادة و الاختيار، و كذا يحمل على اقترافه و ارتكابه عالما إذا كان قد نشي ء في بلاد المسلمين و كان معهم و فيهم، و بذلك ينقطع استصحاب الجهل و يدفع احتمال العذر بكونه مكرها على ذلك، أو غير ذلك من الأمور، بالأصل العقلائي على ما قررناه. و لو ثبت أنه شربه مكرها عليه أو لغير ذلك من الأعذار فهناك لا حدّ عليه بلا كلام.

و هنا نكتة لطيفة ينبغي ذكرها و هي أنه يستفاد من هذه الرواية أي خبر ابن بكير أنه كان للمهاجرين و الأنصار مجالس ذكر الأحكام و بيان مسائل الحلال و الحرام [1].

ثم إنّ ما ذكره الجواهر تأييدا لمرامه من عدم كفاية الرائحة و النكهة في إثبات الشرب و ذلك لاحتمال الإكراه و الجهل مثلا. يرد عليه أن الظاهر هو أن عدم الإكتفاء بالرائحة و النكهة ليس لمكان احتمال الإكراه و الجهل، بل هو لأجل أن كثرة الشبع أيضا قد ينجر إلى إثارة الرائحة الكريهة من تلك الأطعمة بحيث يحسّ منه من كان يقرب منه ذلك كما أنه يمكن تلك الرائحة

من جهة أنه قد تمضمض بالخمر أو أنه صبّ و رشّ عليه الخمر فلا تلازم الرائحة الشرب.

ثمّ إنّه يظهر من إسناد الخلاف- في عدم الإكتفاء بالرائحة و النكهة- إلى أبي حنيفة، عدم الخلاف بيننا و الحال أن كلام المفيد قدس سره الشريف و الرواية الواردة في قدامة بن مظعون الذي شهد واحد من الشاهدين بأنه رآه و قد قاء

______________________________

[1] حيث إنّ فيها أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: ابعثوا معه من يدور على مجالس المهاجرين و الأنصار.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 349

الخمر يشملهما و سيأتي نقل هذا الخبر. إلّا أن يدّعى أن الملازمة بين الرائحة و الشرب ليست كالملازمة بين القي ء و الشرب مثلا.

و الحقّ أنه لو كانت الرائحة ناشئة عن الباطن صاعدة عنه لا عن فضاء الفهم و كانت رائحة الخمر نفسه لا ما يشابهه فهناك تكون الرائحة و النكهة كالسكر و القي ء في الدلالة على الشرب و ترتيب الآثار و لا يعبى ء باحتمال الإكراه عليه و الاضطرار إلى شربه للتداوي به إلّا أن يدّعي هو ذلك فعليه إثباته كما في ما إذا ثبت شربه بالبيّنة أو الإقرار كما يستفاد ذلك من الخبر المشار إليه آنفا و هو خبر الحسين بن زيد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام عن أبيه عليهما السلام قال: أتي عمر بن الخطاب بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر فشهد عليه رجلان أحدهما خصيّ و هو عمرو التميمي و الآخر المعلّى بن الجارود فشهد أحدهما أنه رآه يشرب و شهد الآخر أنه رآه يقي ء الخمر فأرسل عمر إلى ناس من أصحاب رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فيهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال لأمير

المؤمنين عليه السلام: ما تقول يا أبا الحسن فإنّك الذي قال له رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: أنت أعلم هذه الأمة و أقضاها بالحقّ فإنّ هذين قد اختلفا في شهادتهما و ما قاءها حتى شربها. [1].

و ذلك لأنه إذا قال الإمام عليه السلام: ما اختلفا و ما قاءها حتى شربها، فإنّه يستفاد منه أنه لا حاجة في الحكم بالشرب إلى البيّنة أو الإقرار بل يكفي مجرّد أن قاء الخمر في الحكم به و بالحدّ عليه و حينئذ يستفاد منه أنه يكفي في الحكم بذلك

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ص 480 ب 14 من أبواب حدّ شرب الخمر ح 1، و لا يخفى أن الرواية في نقل الوسائل ناقصة و قد تعرّض بعض- و لعلّه المرحوم الآية الحاج الشيخ فضل اللّٰه النوري الشهيد المظلوم قدس سره- لذلك في بعض الحواشي له على الوسائل الطبع القديم فراجع، و الصحيح ما هو المذكور في نقل الكافي و هو: أنت أعلم بهذه الأمّة و أقضاها بالحقّ فإنّ هذين قد اختلفا في شهادتهما، قال: ما اختلفا في شهادتهما، و ما قاءها حتى شربها. راجع الكافي ج 7 ص 401.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 350

و إقامة الحدّ عليه كلّ ما كان ملازما للشرب و نتيجة ذلك هو الإكتفاء في الحكم بالشرب و ترتيب تبعاته عليه بالرائحة و النكهة و كذلك الأمر بالنسبة للسكر فكلّ واحد من القي ء و السكر و الرائحة دليل على الشرب فهذه الأمور في حكم البيّنة و الإقرار فيترتب الحدّ لحمل الأفعال على الاختيار و لا يجري الحمل على الصحّة في المحرّمات كما إذا رأينا أحدا ينقب و يثقب جدار دار غيره

بالليل فإنّه يحمل على أنه يريد السرقة و لا يحمل ذلك على الصحّة [1].

في كيفيّة الحد

قال المحقق: الثاني في كيفيّة الحدّ و هو ثمانون جلدة.

أقول: المراد من الكيفيّة في كلامه ما يشمل المقدار و الحالة مثل كونه عريانا و إيقاع الجلدة على ظهره و كتفيه و غير ذلك من الأمور.

و أمّا مقداره فهو ثمانون جلدة. و الدليل على ذلك الإجماع و النصوص.

أمّا الأوّل فقد ادّعاه كثير ممن رأينا كلامهم. ففي المسالك بشرح عبارة المحقق المتقدمة: تحديد حدّ الشرب بثمانين متفق عليه بين الأصحاب و مستندهم الأخبار.

و في كشف اللثام- بعد قول القواعد: و يجب فيه ثمانون جلدة-: بالإجماع و النصوص.

و في شرح الإرشاد للأردبيلي- بعد قول الماتن قدس سره: و يجب الحدّ ثمانون جلدة-: الظاهر أن كون المذكورات من الخمر و غيرها بالشرائط المذكورة موجبا للحدّ إجماعيّ كان الشارب ذكرا أم لا.

و في الرياض- بعد قول النافع: و هو ثمانون جلدة-: إجماعا و للنصوص

______________________________

[1] أقول: لا يخلو عن تأمّل و ذلك لأنه إذا رأينا من يغتاب غيره و لم نعلم أنه كان على وجه الحرام بل احتملنا أنه يغتابه لمبرر فقد يقال بأنه يحمل على الثاني. و أيّ فرق بينه و بين المقام؟.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 351

المستفيضة.

و في الجواهر- بعد عبارة الماتن المذكورة آنفا-: بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر كالنصوص. انتهى.

إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا نتعرّض لها روما للاختصار و لئلّا يطيل بنا الكلام فمن أراد فليراجعها في مظانّها.

نعم قد يقال: بأن الحدّ بالنحو المعمول لم يكن في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله. ففي المسالك: روى العامّة و

الخاصّة أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يضرب الشارب بالأيدي و النعال و لم يقدّروه بعدد فلمّا كان في زمن عمر استشار أمير المؤمنين عليه السلام في حدّه فأشار إليه بأن يضربه ثمانين و علّله بأنه إذا شرب سكر و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فجلده عمر ثمانين، و عمل به أكثر العامّة و ذهب بعضهم إلى أربعين مطلقا لما روي أن الصحابة قدّروا ما فعل في زمانه بأربعين انتهى.

و أمّا الثاني أي النصوص فهي أخبار كثيرة:

منها عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: كيف يجلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال: كان يضرب بالنعال، و يزيد كلّما أتي بالشارب ثم لم يزل الناس يزيدون حتى وقف على ثمانين أشار بذلك عليّ عليه السلام على عمر فرضي بها «1».

و عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: أقيم عبيد اللّه بن عمر و قد شرب الخمر فأمر به عمر أن يضرب فلم يتقدم عليه أحد يضربه حتى قام عليّ عليه السلام بنسعة مثنية لها طرفان فضربه بها أربعين [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 2 و النسع بالكسر سير ينسج عريضا تشدّ به الرجال و القطعة منه نسعة، و في مرآة العقول: قال في النهاية النسعة بالكسر سير مضفور يجعل زماما للبعير و غيره انتهى. ثم قال المجلسي قدس سره: و يظهر منه و مما سيأتي

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 352

و عن الحلبي عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له:

أ رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كيف كان يضرب في الخمر؟ قال: كان يضرب بالنعال، و يزداد إذا أتي بالشارب ثم لم يزل الناس يزيدون حتى وقف ذلك على ثمانين أشار بذلك عليّ عليه السلام على عمر فرضي بها «1».

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال إنّ عليّا عليه السلام كان يقول: إنّ الرجل إذا شرب الخمر سكر و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فاجلدوه حدّ المفتري «2».

و عن عبد اللّه بن سلام قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: الحدّ في الخمر أن يشرب منها قليلا أو كثيرا ثم قال: أتي عمر بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر و قامت عليه البيّنة فسأل عليّا عليه السلام فأمره أن يجلده ثمانين فقال قدامة: يا أمير المؤمنين ليس علي حدّ أنا من أهل هذه الآية: ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا، فقال عليّ عليه السلام: لست من أهلها إنّ طعام أهلها لهم حلال ليس يأكلون و لا يشربون إلّا ما أحلّ اللّه لهم ثم قال عليه السلام إنّ الشارب إذا شرب لم يدر ما يأكل و لا ما يشرب فاجلدوه ثمانين جلدة «3».

و عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الزنا شرّ أو

______________________________

الإكتفاء بالأربعين إذا كان السوط ذا شعبتين أو مثنيا و لم يتعرض له الأصحاب و لعلّ هذا منشأ توهم جماعة من العامّة حيث ذهبوا إلى الإكتفاء بالأربعين مطلقا و يمكن أن يكون إنّما فعله عليه السلام تقيّة فضرب بذي الشعبتين ليكون أقرب إلى الحكم الواقعي إذ لا خلاف بين الأصحاب في أن حدّ شرب الخمر ثمانون في

الحرّ، و المشهور في العبد أيضا ذلك. و ذهب الصدوق رحمة اللّه إلى أن حدّه أربعون انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 5، و الآية: المائدة- 93.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 353

شرب الخمر؟ و كيف صار في الخمر ثمانون و في الزنا مأة؟ فقال: يا إسحاق الحدّ واحد و لكن زيد في هذا لتضييعه النطفة و لوضعه إيّاها في غير موضعها الذي أمر اللّه به «1».

و عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل يشرب حسوة خمر قال: يجلد ثمانين جلدة، قليلها و كثيرها حرام «2».

و عن محمد بن الحنفية عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليه السلام إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضرب في الخمر ثمانين «3».

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في أبواب مختلفة. نعم في بعضها أن التحديد بالثمانين كان متعلّقا بزمن عمر بل عن كتاب الاستغاثة [1] في بدع الثلاثة أن جلد الشارب ثمانين من بدع الثاني و أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله جعل حدّه أربعين بالنعال العربية و جرائد النخل بإجماع أهل الرواية و أن الثاني قال: إذا سكر افترى و إذا افترى حدّ حدّ المفتري.

و هذه النسبة و إن استغربها في كشف اللثام و الجواهر إلّا أن اشتمال قسم من الروايات على هذا المطلب أي تحديد هذا الحدّ بالثمانين في زمن الثاني غير قابل للإنكار كاشتمال بعضها على أن النبيّ كان يضرب بالأيدي و النعال.

نعم في

بعضها أنه قد وقع ذلك أي التحديد بالثمانين في زمن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [2].

______________________________

[1] أقول: و صاحب الاستغاثة هو الشريف أبو القاسم عليّ بن أحمد الكوفي العلويّ المتوفّى سنة 352، و قد يعبّر عن هذا الكتاب بالإغاثة. راجع الذريعة ج 2 ص 28.

[2] و قد مرّ بعضها، و في الاختصاص للشيخ المفيد قدس سره و في خبر عبد اللّه بن سلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و أمّا الثمانون فشارب الخمر يجلد بعد تحريمه ثمانين سوطا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 6.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 7.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 354

و يمكن توجيه ما كان مشتملا على الأوّل بأن ذلك كان بإشارة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كما صرّح بهذا المطلب في بعض الروايات، و إشارته عليه السلام بذلك كانت من باب تفويض بيان بعض الأحكام إلى الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين من ناحية النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله فقرر الإمام عليه السلام و حدود ذلك للاختيار المفوّض إليه صلوات اللّه عليه و على آله الأمجاد و صار ذلك مسلّما بين المسلمين، إلّا ما شذّ و ندر منهم، و جرى الأمر على ذلك بعده.

في عدم اشتراط الذكورة أو الحريّة

قال المحقق: رجلا كان الشارب أو امرأة حرّا كان أو عبدا، و في رواية يحدّ العبد أربعين و هي متروكة.

أقول: بعد أن تحقق أن حدّ الشرب ثمانون فهنا يبحث في أطراف المسألة و من جملتها أنه هل يفرق في ذلك

بين كون الشارب الرجل أو المرأة أم لا؟ و قد صرّح بعدم الفرق أصلا و ذلك للإجماع على ذلك، كما عرفت أنه لا خلاف و لا تفصيل في المسألة بل أطلقوا القول بحدّ الشارب ثمانين، و للأخبار الدّالة بإطلاقها على عدم الفرق بينهما. و من تلك المباحث أنه هل هناك فرق بين الحرّ و العبد أم لا؟.

ذهب المشهور إلى عدم الفرق و أنهما سيّان و إن كان حدّ العبد في الزنا على النصف بالنسبة للحرّ.

و خالف في ذلك الشيخ الصدوق قدس سره فذهب في المقنع و الفقيه [1] إلى أن

______________________________

[1] قال في الفقيه ج 4 ص 56: و شارب المسكر خمرا كان أو نبيذا يجلد ثمانين جلدة. و العبد إذا شرب مسكرا جلد أربعين جلدة و يقتل في الثامنة انتهى.

و أمّا عبارته في المقنع ص 154 فهذه: و شارب الخمر إذا كان عبدا جلد مرّة فإن عاد جلد حتى يفعل ثماني مرّات ثم يقتل في الثامنة انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 355

حدّ العبد في الخمر أربعون و قد مال إلى ذلك العلّامة أعلى اللّه مقامه في المختلف فقال: المشهور أن حدّ الخمر ثمانون في الحرّ و العبد و ذهب إليه الشيخان و ابن البرّاج و ابن إدريس و قال الصدوق في كتابي المقنع و من لا يحضره الفقيه: حدّ الحرّ ثمانون و حدّ المملوك أربعون و قال ابن الجنيد: الحدّ ثمانون فإن كان السوط ثنيّا فأربعون على الحرّ مسلما كان أو ذميّا. إنّ قول ابن بابويه لا بأس به.

و قد قال إلى ذلك الشهيد الأول كما صرّح بذلك الشهيد الثاني في الروضة قائلًا: و قوّاه المصنف في بعض تحقيقاته انتهى. كما

أنه رضوان اللّه عليه بنفسه مال إليه في المسالك.

هذا بالنظر إلى الأقوال، و أمّا الأخبار فنقول إنّ أكثر الأخبار الواردة في المقام يدلّ بالإطلاق أو التصريح على التسوية بينهما و أنه يحدّ العبد ثمانين كما يحدّ الحرّ كذلك. و قد عقد في الوسائل بابا لذلك عنونه بقوله: باب أنه لا فرق في حدّ الشرب بين الحرّ و العبد و المسلم و الذّمي إذا تظاهر.

عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: كان عليّ عليه السلام يضرب في الخمر و النبيذ ثمانين الحرّ و العبد و اليهوديّ و النصرانيّ، قلت: و ما شأن اليهودي و النصراني؟ قال: ليس لهم أن يظهروا شربه، يكون ذلك في بيوتهم «1».

و عن أبي بصير- أيضا- قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد الحرّ و العبد و اليهودي و النصراني في الخمر و النبيذ ثمانين قلت: ما بال اليهودي و النصراني؟ فقال: إذا أظهروا ذلك في مصر من الأمصار لأنهم ليس لهم أن يظهروا شربها «2».

______________________________

و أنت ترى أنه لا تصريح بأربعين اللهم إلّا أن يستفاد ذلك من الحكم بالقتل في الثامنة بعد أن حكم في الحرّ بالقتل في الثالثة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 356

و عن أبي بصير قال: كان علي عليه السلام يجلد الحرّ و العبد و اليهوديّ و النصراني في الخمر ثمانين «1».

و عن أبي بصير قال: قال: حدّ اليهوديّ و النصراني و المملوك في الخمر و الفرية سواء، و إنّما صولح أهل الذمّة على أن يشربوها في بيوتهم «2».

إلى غير ذلك

من الروايات. لكن هنا بعض الروايات يدلّ على خلاف ذلك ففي خبر حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: التعزير كم هو؟

قال: دون الحدّ قلت: دون الثمانين؟ قال: لا و لكن دون الأربعين فإنّها حدّ المملوك قال قلت: و كم ذاك؟ قال: قال علي عليه السلام على قدر ما يرى الوالي من ذنب الرجل و قوّة بدنه [1].

و قد ذكر في الوسائل أنه: حمله الشيخ على التقيّة الموافقة للعامّة.

و فيه إنّه لا وجه لذلك بعد أن النسبة بين الأخبار المتقدّمة و هذه الرواية العموم و الخصوص فيقال بأن حدّ المملوك الأربعون إلّا في خصوص شرب الخمر فإنّه يجلد ثمانين.

و في خبر أبي بكر الحضرمي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن عبد مملوك قذف حرّا قال: يجلد ثمانين هذا من حقوق المسلمين فأمّا ما كان من حقوق اللّه فإنّه يضرب نصف الحدّ قلت: الذي من حقوق اللّه ما هو؟ قال: إذا

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 6 أقول: و الظاهر عدم ورود الإشكال على الشيخ و ذلك لأنه قال في التهذيب ج 10 ص 92: فأول ما فيه أنه ليس في ظاهر الخبر أن حدّ العبد الذي هو الأربعون إنما هو في شربه الخمر و إذا لم يكن ذلك في ظاهره جاز أن يكون ذلك حدّه فيما سواه و لو كان صريحا بأن ذلك حدّه في شرب الخمر جاز لنا أن نحمله على ضرب من التقية لأن ذلك موافق لمذهب بعض العامة انتهى. فترى أنه صرّح بالحمل على العموم و الخصوص لهم نعم لم يذكره الوسائل و منشأ الإشكال ذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18

ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 357

زنى أو شرب الخمر فهذا من الحقوق الّتي يضرب فيها نصف الحدّ «1».

و هذا الخبر يشكل الأمر و ذلك لعدم نسبة الإطلاق و التقييد بالنسبة إليه بل هو معارض لصريح الروايات الماضية.

قال الشيخ قدس سره هذا خبر شاذّ لا يعارض به الأخبار المتواترة في تناول شارب الخمر و استحقاقه ثمانين جلدة. ثم إنّه يحتمل أن يكون الوجه فيه ما قدّمناه في الخبر الأوّل من التقيّة لموافقته لمذاهب بعض العامّة.

و قال الشيخ المحدّث الحرّ العاملي: و يجوز حمله على ما ضربه بسوط له شعبتان انتهى.

أقول: و الإنصاف أن ما أفاده هذا المحدّث الجليل من الحمل خلاف الظاهر جدّا بعد كون الخبر صريحا في التفصيل و التعليل فإنّ المستفاد منه أن المملوك إذا قذف حرّا يجلد ثمانين لأنه من حقوق المسلمين و أمّا في حقوق اللّه كالزنا و شرب الخمر فإنّه يضرب فيها نصف الحدّ، و مع هذا الحال كيف يمكن الحمل على ما لو ضربه بسوط له شعبتان؟.

و عن يحيى بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان أبي يقول: حدّ المملوك نصف حد الحرّ «2». و قد خصّه الشيخ كما نقله في الوسائل بحدّ الزنا لما مرّ [1].

أقول: فالعمدة في المقام هو خبر الحضرمي و بلحاظه يحصل المعارضة فإن كان هناك ترجيح سنديّ فهو، لكنّ الظاهر عدم ذلك و قد ذكروا أن سند الطرفين مخدوش فحينئذ لا ترجيح من هذه الجهة.

نعم روايات الثمانين أكثر عددا و معمول بها عند المشهور بخلاف خبر

______________________________

[1] قال في

التهذيب ج 10 ص 93: هذا الخبر عامّ و يجوز تخصيصه بحدّ الزنا و قد بيّنا ما يقتضي تخصيصه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 358

الحضرميّ و غيره مما يدلّ على الأربعين في العبد فإنه أقلّ عددا أو غير معمول به عند المشهور و هو يوجب ترجيح أخبار الثمانين.

و لو فرض الترديد من هذه الجهة فلعلّه يمكن التمسّك بقاعدة الدرء و الحكم بالأقلّ و ذلك لأن الأكثر مشكوك فيه فيدرء بالقاعدة إن لم يستشكل فيه بأن مجراها ما إذا كان أصل الحدّ مشكوكا فيه دون مقداره بعد الفراغ عن أصله.

و في المسالك: و الحقّ أن الطريق من الجانبين غير نقيّ و أن رواية الحضرميّ أوضح طريقا و يزيد التعليل و ينبغي أن يكون العمل بها أولى لوقوع الشبهة في الزائد فيدرء بها إلّا أن المشهور الأوّل. انتهى.

و فيه أن الحق هو أنه يشكل الصفح عمّا ذهب إليه المشهور، و التعليل يمكن كونه من قبيل الحكمة و كيف كان فذهاب المشهور إلى الثمانين مرجّح لأخبارها على أخبار الأربعين خصوصا بلحاظ ما في الجواهر من قوله: المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا إلخ.

و ما في عبارة الشرائع من قوله بأن رواية الأربعين متروكة، فإنّه مشعر بكون المطلب إجماعيّا، و إن كان تعبير بعضهم بالنسبة للقول بالثمانين بالأشهر يدلّ على عدم كون القول الآخر متروكا.

نظرة أخرى في الأخبار و كيفيّة الترجيح فيها

ثمّ إنّ الأخبار الواردة في الباب بنظر كلّي جامع على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما هو مطلق يدلّ على أن حدّ الشارب للخمر ثمانون بلا تعرّض لخصوصيّات الشارب.

و

من هذه الأخبار رواية إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل شرب حسوة خمر قال: يجلد ثمانين جلدة، قليلها و كثيرها

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 359

حرام «1».

و مثلها رواية قدامة بن مظعون ففي آخرها قال علي عليه السلام: إنّ شارب الخمر إذا شربها سكر و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فجلده عمر ثمانين جلدة «2» و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «3» و رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه «4» إلى غير ذلك من الروايات.

ثانيها: ما تعرّض لذكر العبد مصرّحا بأنه يضرب ثمانين، و ذلك كخبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام «5» و خبره الثاني «6» و الثالث «7» و الرابع «8» و قد تقدمت فراجع.

ثالثها ما هو متعرّض لذكر العبد و أن حدّه الأربعون على عكس القسم الثاني كخبر حمّاد بن عثمان «9» و خبر الحضرميّ «10» و خبر يحيى بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام «11».

و من المعلوم تحقق التعارض بين هاتين الطائفتين فإن كان هنا مرجّح لإحديهما فلا بدّ من الأخذ بذات الترجيح سواء كانت هي الأولى أو الثانية و قد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 3.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح

2.

(7) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

(8) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 5.

(9) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 6.

(10) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 7.

(11) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 360

رجّح بعض، أخبار الثمانين و بعض أخبار الأربعين.

و مؤيّدات القول بالتنصيف و مرجّحات خبر الحضرمي هو: الأصل و قاعدة التنصيف في حدّ العبد و اشتمال خبر الحضرميّ على التعليل و بناء الحدود على التخفيف و كون ذلك من باب الشبهة الّتي يدرأ بها الحدّ و أوضحيّة طريق خبر الحضرميّ. و المراد من الأصل هو أصالة عدم الزائد كما أن المراد من قاعدة التنصيف هو كون عقوبة العبد على النصف من عقوبة الحرّ و هي مقتنصة من موارد خاصّة يجري فيها الحكم بالتنصيف.

و أمّا التعليل فهو مستفاد من قوله عليه السلام في خبر الحضرمي: هذا من حقوق المسلمين، و كذا من قوله عليه السلام: فهذا من الحدود الّتي يضرب فيها نصف الحدّ.

و أمّا بناء الحدود على التخفيف فواضح فإنّ الحدّ أذيّة على المسلم و لذا يبنى على ما هو الأخفّ المتيقّن الذي لا شك في جوازه.

و أمّا الشبهة فلأنه لا شك و لا شبهة في وجوب الأربعين لتوافق الأخبار على ذلك و أمّا الأربعون الزائد فهو محلّ الشك و الترديد و مصداق من مصاديق الشبهة فيدرأ هذا الزائد بها.

و أمّا أوضحيّة الطريق فراجع سند الرواية.

و أمّا المرجّح بالنسبة إلى روايات الثمانين فأمور: منها أنها أكثر. و منها أنها

المشهور. و منها أنها مخالفة للعامّة في قبال أخبار النصف الّتي هي أقلّ و متروكة و موافقة للعامّة.

و الحقّ أن الراجح هو أخبار الثمانين فإنّ قاعدة التنصيف ليست ثابتة بهذه الكليّة بل الحكم بالنصف وارد في بعض الموارد و نحن نقتفي الآثار فكلّ مورد نطق به الدليل نقول به و كلّما لم يدلّ عليه دليل فلا.

و أمّا اشتمال خبر الحضرميّ على التعليل ففيه- مضافا إلى ما تقدم- أن بعضا من الأخبار الدالّة على الثمانين أيضا مشتمل على التعليل كخبر زرارة عن أبي

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 361

جعفر عليه السلام قال: إنّ عليّا عليه السلام كان يقول: إنّ الرجل إذا شرب الخمر سكره و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فاجلدوه حدّ المفتري «1». و ذلك لأنه يدلّ على أنّ الشّارب يضرب الثمانين لأنه بسبب سكره يقدم على الافتراء فيجب عليه حدّ المفتري، و من المعلوم أنّ هذه العلّة تجري في العبد أيضا كما تجري في الحرّ.

و أمّا أوضحيّة طريق أخبار الأربعين التي ذكرها الشهيد الثاني في المسالك بعد أن ناقش في سند كلتا الطائفتين فغير ظاهرة الوجه كما أنّ باقي الوجوه أيضا لا ينفع شيئا بعد ما ذكر من الترجيح لأخبار الثمانين و على هذا فيكون تعارض الطائفتين من باب تعارض الحجة و اللاحجّة فيؤخذ بالحجّة و يترك اللاحجّة.

و هنا شي ء آخر يبدو في نظري و لم أر من تعرّض له و هو أنه و لو فرض عدم الترجيح لأخبار الثمانين فإنّه بعد تعارض القسمين إن لم يكن ترجيح في البين يتعيّن العمل بالمطلقات الشاملة لكلّ شارب و منه العبد الدّالة على الثمانين و ذلك لما هو المقرر في الأصول

من أنه لو كان هناك مطلق أو عامّ و كان في قباله مقيّدان متعارضان أو خاصّان كذلك فلو كان لأحدهما ترجيح فهو أولى بالتقديم في تقييد المطلق أو تخصيص العامّ و هو جمع عرفيّ أمّا لو لم يكن هناك ترجيح فلا بدّ من الرجوع إلى المطلق أو العامّ كما إذا قيل: أكرم العلماء ثم ورد: أكرم زيدا، و كذا: لا تكرم زيدا، فإنّهما يتساقطان و يرجع إلى عموم العامّ.

و نتيجة ذلك في المقام أنه بعد تساقط الأخبار الخاصّة المتعرّضة لحال العبد الناطقة بوجوب الثمانين و الأخبار الخاصّة المتعرّضة لحدّ العبد الناطقة بوجوب الأربعين يرجع إلى المطلقات الدّالّة بنحو الإطلاق على أنّ حدّ شرب الخمر هو الثمانون فإنّها بإطلاقها شاملة للحرّ و العبد كليهما.

و نتيجة ذلك في المقام أنه بعد تساقط الأخبار الخاصّة المتعرّضة لحال العبد الناطقة بوجوب الثمانين و الأخبار الخاصّة المتعرّضة لحد العبد الناطقة بوجوب

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 362

الأربعين يرجع إلى المطلقات الدّالّة بنحو الإطلاق على أن حدّ شرب الخمر هو الثمانون فإنّها بإطلاقها شاملة للحرّ و العبد كليهما. و لعلّه كان نظر العلماء من ذهابهم إلى الثمانين، إلى ذلك بعد تضارب المرجّحات و تساقطها [1].

هذا تمام الكلام و توضيح المرام في باب حدّ شرب العبد، و المسألة و إن لم تكن مبتلى بها في عصرنا هذا إلّا أنه لا بدّ من البحث فيه فلعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا أوجب أخذ العبيد و الإماء من الكفّار كغيره من الأحكام الّتي كانت متروكة قبيل هذا و الآن صارت رائجة متداولة بين الشعب الإسلامي و الحمد للّه على

ذلك.

و من جملة المباحث التي لا بدّ من التعرّض لها هو. أن ظاهر النصّ و الفتوى اعتبار الثمانين مترتّبة- واحدة بعد أخرى إلى أن يتم و يكمل الثمانون- إلّا أن هنا روايتين تدلّان على الإكتفاء بأربعين، بسوط مثلا له شعبتان.

فعن زرارة قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّ الوليد ابن عقبة حين شهد عليه بشرب الخمر قال عثمان لعليّ عليه السلام: اقض بينه و بين هؤلاء الذين زعموا أنه شرب الخمر فأمر عليّ عليه السلام فجلد بسوط له شعبتان أربعين جلدة. و رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد و زاد: فصارت ثمانين جلدة «1».

و عن زرارة أيضا قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: أقيم عبيد اللّه بن عمر و قد شرب الخمر فأمر به عمر أن يضرب فلم يتقدّم عليه أحد يضربه حتّى قام عليّ عليه السلام بنسعة مثنية لها طرفان فضربه بها أربعين «2».

و لعلّه يمكن حملها على جواز ذلك لعلّه و مصلحة كما قال بذلك صاحب

______________________________

[1] أقول: لعلّه لا تصل النوبة إلى ذلك لأنه فرع عدم الترجيح و هنا ليس كذلك فإنّه لا أقل من موافقة العامّة و مخالفتهم و هي كافية في الترجيح على ما نصّ بذلك في الروايات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 363

الجواهر رضوان اللّه عليه.

هل يقام الحدّ على الشارب إذا كان كافرا؟

قال المحقق: أمّا الكافر فإن تظاهر به حدّ و إن استتر لم يحدّ.

أقول: إنّ موضوع المسألة في كلام المحقق: الكافر، بخلاف صاحب الجواهر حيث قيّده بقوله: الذمي منه و من في معناه. و لعلّ

المراد من الثاني في كلامه هو المعاهد أي من لم يكن في ذمة الإسلام إلّا أنه قد تعهدت الدولة الإسلاميّة و الحاكم الإسلامي حفظه فعلا.

و قال الشيخ في النهاية- و المعروف أنها نصوص أوردها قدس سره فتوى له-: من شرب شيئا من المسكر. وجب عليه الحدّ ثمانون جلدة حدّ المفتري سواء كان مسلما أو كافرا حرّا كان أو عبدا لا يختلف الحكم فيه إلّا أن المسلم يقام عليه الحدّ على كلّ حال شرب عليها، و الكافر إذا استتر بالشرب أو شربه في بيته أو بيعته أو كنيسته لم يكن عليه حدّ و إنّما يجب عليه الحدّ إذا أظهر الشرب بين المسلمين أو خرج بينهم سكران «1».

و قال السيد أبو المكارم بن زهرة: و الحدّ في شرب قليل المسكر و كثيره و إن اختلف أجناسه إذا كان شاربه كامل العقل حرّا كان أو عبدا رجلا أو امرأة مسلما أو كافرا متظاهرا بذلك بين المسلمين ثمانون جلدة بدليل إجماع الطائفة «2».

و قال ابن حمزة: فإن شربها كافر و ظهر بشربه للمسلمين حدّ و إن لم يظهر لم يحدّ «3».

______________________________

(1) النهاية ص 710.

(2) غنية النزوع، الجوامع الفقهية ص 623.

(3) الوسيلة إلى نيل الفضيلة ص 416.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 364

و قال ابن البرّاج: و إذا شرب إنسان خمرا أو نبيذا أو مزرا أو نقيعا أو غير ذلك من الأشربة التي يسكر قليلها أو كثيرها وجب الحدّ ثمانون جلدة حرّا كان أو عبدا مسلما كان أو كافرا إلّا أن المسلم يقام عليه ذلك على كل حال شربه عليها و الكافر لا يحدّ إلّا بأن يظهر شرب ذلك بين المسلمين أو يخرج بينهم سكران فإن استتر بذلك

فشربه في بيته أو كنيسته أو بيعته- لم يجز أن يحدّ «1».

و قال ابن سعيد: و يحدّ شارب الخمر و المسكر و الفقّاع ثمانين جلدة حرّا كان أو عبدا مسلما أو كافرا قاءها أو شربها بشهادة شاهدين عدلين «2».

و قال العلّامّة بعد الحكم بأن حدّه ثمانون جلدة: هذا إذا كان الشارب مسلما فإن كان كافرا و تظاهر بالشرب أو خرج بين المسلمين سكران جلد ثمانين جلدة و إن استسرّ في منزله أو بيعته أو كنيسته بالشرب و لم يخرج سكران بين المسلمين لم يحدّ [1].

و هؤلاء الأعلام كلّهم قد عنونوا الكلام في الكافر كما في الشرائع.

و أمّا الأخبار فبعضها مطلق شامل لكلّ من شرب الخمر أي سواء كان مسلما أو كافرا، و بعبارة أخرى الموضوع في هذا القسم من الأخبار: من شرب الخمر أو المسكر، و قد تقدم، و هذا العنوان مطلق شامل للمسلم و الكافر الذمّي منه و الحربيّ. و قسم من الأخبار تعرّض لخصوص عنوان اليهوديّ و النصرانيّ و قد تقدم، و واحد منهما ذكر المجوس معهما أيضا و هو خبر محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام أن يجلد اليهوديّ

______________________________

[1] التحرير ج 2 ص 226 أقول: هكذا أفاد و استظهر دام ظله من كلمات العلماء و قد أضفنا كلام ابن البراج و ابن سعيد و العلّامة لكن لا يخفى عليك أن عبارة سلّار ليست كذلك فإنه قال في المراسم ص 257: و يجلد أهل الذّمة في شرب الخمر كحد المسلم انتهى. و لم يتعرّض الحلبي في الكافي للمسألة أصلا.

______________________________

(1) المهذّب البارع ج 2 ص 535.

(2) الجامع للشرائع ص 557.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2،

ص: 365

و النصرانيّ في الخمر و النبيذ المسكر ثمانين جلدة إذا أظهروا شربه في مصر من أمصار المسلمين و كذلك المجوس و لم يعرض لهم إذا شربوها في منازلهم و كنائسهم حتى يصير بين المسلمين «1».

و مفاد هذه الروايات أن اليهود و النصارى- و كذا المجوس- إذا شربوا الخمر متظاهرين به يقام عليهم الحدّ و ظاهرها اختصاص الحكم بهم دون الحربيّ و دون خصوص الذميّين منهم.

اللهمّ إلّا أن يقال بانصراف هذه الروايات إلى اليهود و النصارى الموجودين في زمن الإمام أمير المؤمنين و الأئمة عليهم السلام الذين كانوا في بلاد المسلمين و تحت ذمّتهم و حيث إنّ الذّمّة أمر جعلي و عهديّ فإن تستّروا في الشرب فقد أكّدوا هذه المعاهدة و حقّقوها أمّا لو تظاهروا بذلك فقد نقضوها حيث إنّ عقد المعاهدة كان مبنيّا على صيانة نفوسهم و أموالهم و أعراضهم بشرائط منها أن لا يتظاهروا في المملكة الإسلاميّة بخلاف مبانيها و مظاهرها كشرب الخمر جهارا و على رءوس الأشهاد، فالكافر إذا كان ذميّا معتنقا لشرائط الذمّة فهو بحكم المسلم، و مع التظاهر و التجاهر يحدّ، دون ما إذا تستّر فإنّه لا يحدّ لاستفاضة النصوص في ذلك. و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه نصّا و فتوى. و أمّا الحربيّ فلا حكم له كما قال في أوّل كتاب الشرب من القواعد: و لا حدّ على الحربيّ.

و قال في كشف اللثام بشرحه: و إن تظاهر بشربه لأن الكفر أعظم منه نعم إن أفسد بذلك أدب بما يراه الحاكم.

لكن لا يخفى أنه يشكل الالتزام بذلك و العلّامة الذي صار إلى ذلك فقد قال به في خصوص كتاب القواعد دون كتبه الأخر [1] كما أن غير العلّامة

أيضا

______________________________

[1] أقول: ذكر ذلك في الإرشاد أيضا فقال: و شرطه البلوغ و العقل و الإسلام و الاختيار و العلم فلا حدّ على الصبيّ بل يعزّر و لا المجنون و لا الحربيّ و لا الذمي مع الاستتار فإن أظهرها حدّ انتهى. و وافقه الأردبيلي أيضا بحسب ظاهر كلامه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 366

استظهروا من هذه الأخبار العموم و أفتوا به دون خصوصيّة لليهود و النصارى كما مرّ كلماتهم.

و ما أفاده كاشف اللثام من التعليل لا ينفع في إثبات المطلب و ذلك لأن مجرّد كون الكفر أعظم من شرب الخمر لا يوجب عدم الحدّ على شرب الخمر و إلّا فالكفر أعظم من الزنا و غيرها من الفواحش أيضا مع أنه يحكم في تلك الموارد بالحدّ فراجع.

هذا مضافا إلى أنه على ذلك كان اللازم الحكم بعدم حدّ الشارب إذا ارتدّ بعد شربه و ذلك لجريان العلّة و إن كان بينه و بين المقام فرق و هو أن المسألة المبحوث فيها شرب الكافر الخمر، و أمّا المسألة المنقوض بها كان الشارب مسلما حين شربه ثم بعد ذلك ارتدّ، إلّا أنه لا فرق بينهما من جهة جريان العلّة في كليهما فإنّ الارتداد أعظم من الشرب مع أنه يقام على الشارب الذي ارتدّ بعد شربه، الحدّ، حتى فيما إذا كان حكمه بمقتضى ارتداده القتل فإنّه لا بدّ من جلده أوّلا للشرب ثم قتله للارتداد. و لذا أورد عليه صاحب الجواهر قدس سره بأن الأدلّة هنا عامّة فضلا عمّا دلّ على تكليفهم بالفروع، ثم قال: و عدم إقامتها على الذمي المتستّر باعتبار اقتضاء عقد الذمة ذلك

لا لعدم الحدّ عليه انتهى.

لا يقال: إنّ ما ذكره في كشف اللّثام مؤيّد بما ورد في روايات السحر ففي خبر السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ ساحر المسلمين يقتل و ساحر الكفّار لا يقتل قيل: يا رسول اللّه لم لا يقتل ساحر الكفّار؟ فقال: لأن الكفر أعظم من السحر و لأن السحر و الشرك مقرونان [1].

______________________________

[1] أورده عليه دام ظله بعض تلاميذه و أجاب بما حكيناه و لعلّ الأولى أن يجاب عنه بأنه لا يمكن إسراء التعليل الوارد في القتل إلى الجلد حيث إنّ القتل أهمّ من الجلد بلا كلام.

ثمّ إنّه قد أورد عليه بعض السادة من زملائنا في مجلسه الخصوصي بأن قوله عليه السلام في خبر أبي بصير: و إنّما صولح أهل الذمّة على أن يشربوها في بيوتهم ب 6 ح 5، يدلّ على الاختصاص.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 367

لأنا نقول: لا يمكن الأخذ و التمسّك بإطلاق تعليل هذه الرواية فلا يرفع اليد عن الحدّ بالنسبة إلى الكفّار تمسّكا بهذا التعليل بعد أن ثبت خلافه بالدليل كما تقدم ذلك.

ثم إنّ مما يبتلى به المسلمون كثيرا في هذه الأعصار و لهم بذلك مساس شديد هو أنه هل اليهود و النصارى الذين يعيشون في المملكة الإسلامية محكومون بالذّمة أم لا؟ و بعبارة أخرى هل إنّهم أهل الذّمة كي يفصّل في حدّهم بين تستّرهم و تجاهرهم بذلك أم لا حتى يقام عليهم الحدّ بمقتضي ما قرّبناه؟.

يمكن أن يقال: إنّهم إن كانوا بحيث يرون أنفسهم مستقلّين و يدّعون عدم تعلّقهم بغيرهم فهناك لا يعتبرون من أهل الذمّة؟ و أمّا إذا لم يكونوا كذلك و لم

تكن لهم الجرأة على إظهار عدم التعلّق بالمسلمين في المملكة الإسلاميّة- و لعلّهم كذلك بعد نجح الثورة الإسلاميّة و هذه الحركة الدينيّة- فهنا يحكم عليهم بحكم أهل الذّمة و إن لم يتحقق بينهم و بين الحكومة الإسلاميّة عقد الذّمة إلا أنه يكفي مجرّد تعهّد الحكومة الإسلامية لحفظهم و صيانتهم و على هذا فلو شربوا الخمر بالعيان و على رءوس الأشهاد يقام عليهم الحدّ، و أمّا لو شربوا في الخفاء و مستورا فلا حدّ عليهم.

تجريد الشارب عند حدّه

قال المحقق: و يضرب الشارب عريانا على ظهره و كتفيه و يتقى وجهه و فرجه و لا يقام عليه الحدّ حتى يفيق.

أقول: أمّا ضربه عريانا أي مجرّدا عن الثياب فلصحيح أبي بصير قال: سألته عن السكران و الزاني قال: يجلدان بالسياط مجرّدين بين الكتفين «1». و قد ادّعى

______________________________

فأجاب دام ظلّه بأنا نقول بالتعميم لوجود الملاك و وحدة المناط و هو الإفساد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 368

في الجواهر عدم خلاف معتدّ به في ذلك.

و لكن خالف في ذلك شيخ الطائفة فقال في كتاب الأشربة عند بيان كيفيّة ضرب الشارب و تحت عنوان صفة المضروب: و لا يجرّد عن ثيابه لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر بالضرب و لم يأمر بالتجريد انتهى.

و قد رماه في الجواهر بغاية الضعف و ذلك للصحيحة المزبورة المؤيّدة بما ذكر أي عدم خلاف في المسألة معتدّ به.

فعلى هذا فيجرّد الشارب عند جلده. هذا إذا كان رجلا و أمّا المرأة فحيث إنّ كلّ بدنها عورة فلذا لا تجرّد بل تحدّ جالسة مربوطة عليها ثيابها [1].

و أمّا الضرب على ظهره و كتفيه-

كما ذكره في الشرائع- و تفريق الضرب على سائر بدنه كما في كلمات بعض- كالشيخ في المبسوط و صاحب الجواهر- فقد علّل ذلك في الكلمات بأنه: كي يذوق كلّ عضو منه الذي التذّ بالمعصية ألم العقوبة. و قد حكى عن عليّ عليه السلام أنه قال للجلاد: أعط كلّ عضو حقّه.

و سيأتي التصريح بضربه على كلّ جسده في الروايات أيضا.

و أمّا اتّقاء وجهه و فرجه فقد ذكر ذلك صريحا في الروايات:

عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: يضرب الرجل الحدّ قائماً و المرأة قاعدة و يضرب على كلّ عضو و يترك الرأس و المذاكير «1». و رواه الصدوق:

عن أبان إلّا أنه قال: و يترك الوجه و المذاكير.

و عن حريز عمّن أخبره عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: يفرّق الحدّ على الجسد كلّه و يتّقى الفرج و الوجه. [2] ثم إنّه ذكر بعضهم كصاحب الجواهر

______________________________

[1] قال شيخ الطائفة في المبسوط ص 69: و أمّا جلد المرأة فإنّها تجلد جالسة لأنها عورة و يشدّ عليها ثيابها جيّدا لئلا تنكشف، و يلي شدّ الثياب عليها امرأة و تضرب ضربا رفيقا لا يجرح و لا ينهر الدم.

[2] وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ الزنا ح 6 و في المبسوط: و يفرّق الضرب على

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ الزنا ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 369

قدس سره، الاتّقاء عن ضربه على مقاتله أيضا. و المراد منه المواضع الّتي يخشى قتله بضربها و تسمّى في العرف ب (گيجگاه).

و وجهه معلوم و هو أنه لا يستحقّ القتل و إنّما الواجب جلده فلا يجوز الضرب على موضع منه يخاف قتله

و يفضي إلى موته.

و أمّا عدم إقامة الحدّ عليه حتى يفيق أي عن سكره ففي الرياض: بلا خلاف أجده، و في الجواهر: بلا خلاف. و الوجه في ذلك أن الحكمة في تشريع الحدود هو الإيلام و الإيذاء كي يتأثّر بذلك فلا يعود إلى ما أتى به و لا يفعله ثانيا و من المعلوم أنه لو جلد في حال سكره فلا يحصل هذه الفائدة بل حصولها منوط بالإفاقة لأنه حينئذ يدرك الألم و ينزجر عن عمله القبيح مخافة ابتلائه بما ابتلي به من العقوبة.

ثم إنّه لو جنّ بعد أن شرب الخمر فلا يوجب ذلك سقوط الحدّ عنه، و يدلّ على ذلك صحيح أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام في رجل وجب عليه الحدّ فلم يضرب حتى خولط فقال: إن كان أوجب على نفسه الحدّ و هو صحيح لا علّة به من ذهاب عقل أقيم عليه الحدّ كائنا ما كان «1». و الموضوع في الرواية كما ترى هو من وجب عليه الحدّ أيّ حدّ كان فإذا وجب عليه حد من الحدود وجب عليه إقامة الحدّ المزبور كائنا ما كان و في أيّ حال كان سواء كان في حال صحّة عقله أو حال جنونه، و الحكم بسقوط الحدّ عنه بالجنون الإطباقي إذا لم يدرك الألم، و تأخيره إلى دور إفاقته في الجنون الأدواريّ اجتهاد في مقابل النصّ الصحيح الصريح.

و كذا لو شرب المسكر ثم ارتدّ قبل أن يقام عليه الحدّ فإنّ ارتداده لا يمنع عن

______________________________

بدنه و يتقى الوجه و الفرج لقوله عليه السلام إذا جلد أحدكم فليتّق الوجه و الفرج و عن عليّ عليه السلام أنه قال للجلّاد: اضرب و أوجع و اتّق الرأس و الفرج

انتهى.

أقول: و قد يعلّل ذلك بقولهم: تجنبا عن المثلة و العمى و القتل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 9 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 370

إجراء الحد عليه.

و هذا و إن لم يكن مصرّحا به في النصوص إلّا أن قوله عليه السلام في صحيحة أبي عبيدة: أقيم عليه الحدّ كائنا ما كان، شامل بإطلاقه لارتداده بعد شربه قبل أن يقام عليه الحدّ.

في قتل شارب الخمر

قال المحقق: و إذا حدّ مرتين قتل في الثالثة و هو المرويّ و قال في الخلاف يقتل في الرابعة.

أقول: بعد أن علم أن شارب الخمر يحدّ تصل النوبة إلى أنه لو تكرر منه ذلك فلا يخلو عن أنه قد أقيم عليه الحدّ بعد كل مرّة أولا.

فعلى الأوّل فقد وقع الخلاف بين العامّة و الخاصّة في أنه يقتل هذا الشارب أم لا؟ فذهبت أبناء العامّة إلى أنه لا يقتل شاربها و إن تكرر و أجمعوا على ذلك [1] و أفتى الأصحاب بأنه يقتل. نعم اختلفوا في المرّة التي يقتل فيها لو تكرر منه الشرب مع الحدّ فالمشهور على أنه يقتل في الثالثة.

لكن قال الشيخ قدس سره في المسألة الأولى من مسائل الأشربة من الخلاف: من شرب الخمر وجب عليه الحدّ إذا كان مكلّفا بلا خلاف فإن تكرر ذلك منه و كثر قبل أن يقام عليه الحدّ أقيم عليه حدّ واحد بلا خلاف فإن شرب فحدّ ثم شرب فحدّ ثم شرب فحدّ ثم شرب رابعا قتل عندنا و قال جميع الفقهاء لا قتل عليه و إنما يقام عليه الحدّ بالغا ما بلغ، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم إلخ.

و قد روى قدس سره هنا أخبارا عنهم منها قوله: و

روى أبو هريرة و غيره أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من شرب الخمر فاجلدوه ثمّ إن شرب فاجلدوه

______________________________

[1] راجع الفقه على المذاهب الأربع ج 5 ص 26 و هم يقولون بورود الروايات بقتله في الرابعة إلّا أنها نسخت.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 371

ثمّ إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه و في بعضها فقتلناه و احتردناه.

ثم قال: و من ادّعى نسخ هذا الخبر فعليه الدلالة إلخ. و قد ادّعى على قتل الشارب في الرابعة، إجماع الفرقة و أخبارهم و كلاهما محلّ الإشكال.

أمّا الإجماع فلأن القول بالثالثة مشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة على ما في الجواهر لو لم يكن إجماعيّا على ما ادّعاه بعض كالسيّد ابن زهرة.

اللّهمّ إلّا أن يوجّه ادّعاء الشيخ الإجماع بأن إجماع الفرقة قائمة على جريان القتل في باب الشرب في قبال العامّة المنكرين لذلك مهما تكرر منه الشرب و أقيم عليه الحدّ، لا على القتل في الرابعة.

و أمّا أخبارهم ففيها ما ستطّلع عليه من أنه لا خبر يدلّ على ذلك سوى مرسلة الصدوق في حين أنه تدلّ على كون المناط هو المرة الثالثة أخبار كثيرة صريحة أكثرها صحيحة معتبرة. نعم هناك أخبار عامية تدلّ على الرابعة.

و قال قدس سره في المبسوط: فإذا ثبت تحريمها فمن شربها كان عليه الحدّ قليلا شرب أو كثيرا لقوله عليه السلام: إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإذا ثبت هذا فإن شرب ثم شرب فتكرر هذا منه و كثر قبل أن يقام عليه الحد حدّ للكلّ حدّا واحدا لأن حدود اللّه إذا توالفت تداخلت و إن شرب فحدّ ثم شرب فحدّ ثم شرب فحدّ ثم شرب رابعا قتل في الرابعة عندنا، و

عندهم يضرب أبدا الحدّ.

انتهى «1». و قد ذهب إلى هذا القول الشيخ الصدوق من قبله في كتاب المقنع [1].

______________________________

[1] أقول: عبارته في المقنع ص 153 هذه: و إذا شرب الرجل حسوة من خمر جلد ثمانين جلدة. و إذا شرب الرجل مرّة ضرب ثمانين جلدة فإن عاد جلد فان عاد قتل انتهى. و أنت ترى أنها صريحة في ما ذهب إليه المشهور اللّهمّ إلّا أن يكون في هذه النسخة سقط كما لعلّه يشهد له قوله بعد ذلك ص 154: و شارب الخمر إذا كان عبدا جلد مرّة فإن عاد جلد حتى يفعل ثماني مرّات ثم يقتل في الثامنة انتهى. فإنّ ذلك يقتضي القول بقتل الحرّ في الرابعة.

______________________________

(1) المبسوط ج 8 كتاب الحدود ص 58.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 372

و مال إليه العلّامة [1] و ولده السعيد و شيخنا الشهيد قدس اللّه أسرارهم.

هذا بخلاف القول بقتله في الثالثة فإنّه مضافا إلى ذهاب المشهور إليه فقد ذهب إليه الشيخ بنفسه في كتاب النهاية الذي فتاواه فيه ناظرة إلى الأخبار و كذا الشيخ الصدوق في كتاب الفقيه.

قال في النهاية: و شارب الخمر إذا أقيم عليه الحدّ مرّتين ثمّ عاد ثالثة وجب عليه القتل.

استدلّ المشهور بالروايات الكثيرة الصريحة المعتبرة فيها عدّة روايات صحاح و قد خرجها في الوسائل في باب عنوانه: باب أن شارب الخمر و النبيذ و نحوهما يقتل في الثالثة بعد جلد مرّتين. انتهى. فقد ذهب هو أيضا إلى قول المشهور.

عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه «1».

و عن يونس عن أبي الحسن

الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلّها

______________________________

[1] نسب في الجواهر و بعض الكتب الأخر ميل العلّامة إلى هذا القول مع أن عبارته في القواعد: و إذا حدّ مرّتين قتل في الثالثة و قيل في الرابعة انتهى. و في التحرير ص 227: فإن تكرر الحدّ مرّتين قتل في الثالثة و قيل لا يقتل حتى يحدّ ثلاث مرات فيقتل في الرابعة انتهى و هذه العبارات ظاهرة في اختياره الثالثة و إنّما نقل القول الآخر قولا. و مع ذلك ففي الرياض عند نسبة القول بالرابعة إلى الصدوق و الشيخ: و تبعهما الفاضل في القواعد و ولده في الإيضاح و الشهيد في اللمعة.

و قال في الإيضاح عند بيان القول بالثالثة: و هو اختيار والدي في المختلف انتهى.

و يمكن أن يكون استظهار ميل العلّامة إلى القول بالرابعة من جهة أنه نقل هذا القول و لم يتعرّض لردّه. هذا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 373

إذا أقيم عليهم الحدود مرّتين قتلوا في الثالثة «1».

و عن أبي عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه «2».

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أتي بشارب الخمر ضربه ثم إن أتي به ثانية ضربه ثم إن أتي به ثالثة ضرب عنقه «3».

و عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه «4».

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم -

ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 373

و عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: في شارب الخمر إذا شرب ضرب فإن عاد ضرب فإن عاد قتل في الثالثة «5» و رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد عن ابن أبي عمير مثله إلّا أنه أسقط: في الثالثة.

و عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام في حديث قال: سمعته يقول: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه في الثالثة «6».

و عن الأصبغ أو عن حبّة العرني قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام على منبر الكوفة: من شرب شربة خمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه «7».

و عن أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: كان النبي صلّى

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 3.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 5.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 6.

(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 8.

(7) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 10.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 374

اللّه عليه و آله إذا أتي بشارب الخمر ضربه فإن أتي به ثانية ضربه فإن أتي به ثالثة ضرب عنقه. قلت: النبيذ؟ قال: إذا أخذ شاربه قد انتشى ضرب ثمانين قلت: أ رأيت إن أخذه ثانية؟ قال: اضربه قلت: فإن

أخذه ثالثة؟ قال: يقتل كما يقتل شارب الخمر «1».

و عن هشام بن إبراهيم المشرقي عمّن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد في قليل النبيذ كما يجلد في قليل الخمر و يقتل في الثالثة من النبيذ كما يقتل في الثالثة من الخمر «2».

و عن سليمان بن خالد قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد في النبيذ المسكر ثمانين كما يضرب في الخمر و يقتل في الثالثة كما يقتل صاحب الخمر «3».

و عن حريز بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه «4».

و عن قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يزني الزاني و هو مؤمن، و قال: إن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فشرب الثالثة فاقتلوه «5».

و استدلّ للقول الآخر و هو قتله في الرابعة بأمور منها: مرسلة الصدوق، ففي الفقيه: و شارب المسكر خمرا كان أو نبيذا يجلد ثمانين جلدة فإن عاد جلد فإن عاد قتل و قد روي أنه يقتل في الرابعة «6».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 11.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 12.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 13.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 14.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 15.

(6) وسائل الشيعة ج 18

ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 375

و مثلها: قال الكليني: قال جميل: و روي عن بعض أصحابنا أنه يقتل في الرابعة «1».

قال الكليني قدس سره بعده: قال ابن أبي عمير: كأن المعنى أن يقتل في الثالثة و من كان إنّما يؤتى به يقتل في الرابعة.

و قال العلّامة المجلسي رضوان اللّه عليه: لعلّ المعنى إن لم يؤت به إلى الإمام في الثالثة و أتي به في الرابعة، أو فرّ في الثالثة و أتي به في الرابعة يقتل في الرابعة، فقوله: في الرابعة، متعلّق بيوتي به و يقتل، على التنازع انتهى «2».

و منها: الأولويّة فإنّ فخر المحققين قدس سره بعد أن قوّى القتل في الرابعة قال: لأن الزنا أكبر منه ذنبا و يقتل في الرابعة كما مضى فهنا أولى «3».

و منها: الاحتياط في الدماء فإنّه يقتضي عدم الإقدام على قتله في الثالثة بل تأخيره إلى الرابعة الّتي هي المتيقّن المعلوم.

و فيه إنّ شيئا من هذه الوجوه لا تنفع في قبال تلك الأخبار المذكورة.

أمّا المرسلة فواضح لأن المرسلة ليست بحجة و على فرض الحجيّة لا تقاوم الأخبار المستفيضة الصحيحة، و المعتبرة المعتضدة بعمل المشهور.

و أمّا القول بأنها و إن كانت مرسلة و لكن مرسلها الشيخ الصدوق قدس سره و هو ثقة يعمل بمرسلاته كما يعمل بمسنداته، كما أفاد ذلك العلّامة أعلى اللّه مقامه في المختلف.

ففيه أنه مهما كان ثقة فأين هذا الخبر و تلك الروايات العديدة المستجمعة للشرائط و لذا قال المحقق: و هو المرويّ أي إنّ القول بقتله في الثالثة مرويّ و ليس فوق ذلك، و هذا يشعر بأنه لم ير للرواية المخالفة وقعا. و أمّا الأولوية

______________________________

(1)

الكافي ج 7 ص 218 ب انّ شارب الخمر يقتل في الثالثة ح 4.

(2) مرآة العقول ج 23 ص 338.

(3) إيضاح الفوائد في شرح القواعد ج 4 ص 515.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 376

فهي هنا تشبه القياس هذا مع أنه في باب الزنا أيضا يقتل في الثالثة [1] و لا أقلّ من أنه محلّ الكلام و الاختلاف. و أمّا الاحتياط فلا موضع له في قبال النصوص الصريحة الصحيحة.

و على هذا فالترجيح لأخبار الثلاثة، و القول بها هو الأقوى و قد مشى عليه العلّامة أعلى اللّه مقامه في المختلف فقال: للشيخ قولان في قتل شارب المسكر في الثالثة أو الرابعة فقال في النهاية: يقتل في الثالثة بعد تكرر الحدّ عليه مرّتين، و به قال شيخنا المفيد و ابن أبي عقيل و أبو الصلاح و ابن البرّاج و ابن حمزة و ابن إدريس، الثاني قال في الخلاف و المبسوط: إنّه يقتل في الرابعة و هو قول الصدوق في المقنع، و قال في كتاب من لا يحضره الفقيه: شارب المسكر خمرا كان أو نبيذا يجلد ثمانين فإن عاد جلد فإن عاد قتل، و قد روي أنه يقتل في الرابعة، و المعتمد الأوّل. ثم استدلّ بصحيح أبي عبيدة و صحيح جميل و صحيح يونس و صحيح أبي الصباح و صحيح سليمان بن خالد، قال: و غير ذلك.

ثمّ قال: احتجّ الشيخ بقول الصدوق: و روي أنه يقتل في الرابعة و هو ثقة يعمل بمرسلة كما يعمل بمسنده و لأن الزنا أكثر منه ذنبا مع أنه لا يقتل في الثالثة، و الجواب: المرسل ليس بحجّة عند المحققين و قد بيّناه في أصول الفقه سلّمنا لكن إذا وجه ما

يعارضه من الأحاديث المسندة كان العمل بها أولى خصوصا مع تعدّدها و تعاضدها بعضا ببعض و نمنع أن الزاني لا يقتل في الثالثة فقد ذهب بعضهم إلى ذلك و لو سلّمنا كما هو مذهبنا نحن، لكن القياس باطل خصوصا في الحدود انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و أمّا الجمع بينهما بالتخيير [2] فهو غير صحيح لو كان المراد تخييره في العمل

______________________________

[1] قد اختار دام ظلّه في باب الزنا القتل في الرابعة فراجع الدّر المنضود ج 1 ص 342.

[2] لم أجد من قال بالتخيير نعم يمكن أن يكون نظره دام ظلّه إلى ما ذكره في الوسائل عند نقل مرسلة الصدوق حيث قال: لعلّه محمول على جواز تأخير الامام القتل إلى الرابعة.

______________________________

(1) مختلف الشيعة ص 767.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 377

استمرارا فيختار مرّة الجلد و أخرى القتل، و هذا بمكان من الإشكال للزوم كونه مختارا في قتل النفس، فمرّة يقتل في الثالثة و أخرى في الرابعة، و يقتل أحدا في الثالثة و آخر في الرابعة و يؤل الأمر إلى أن يقتل و أن لا يقتل مع أنه لو كان جعل حكم القتل في الرابعة فلا سبيل له إلى ذلك في الثالثة.

اللّهمّ إلّا أن يكون المراد تخييره أوّلا في اختيار واحد منهما، و هو أيضا لا يخلو من كلام بعد أن الترجيح لأخبار الثلاثة، نعم لا بدّ أن يكون ذلك على فرض التعارض و التكافؤ.

و لو قيل بأن المراد من قتله في الرابعة هو ما إذا لم يحدّ في الثالثة فإنّه لا يمنع عدم إقامة الحدّ عليه في الثالثة عن قتله في الرابعة.

ففيه أنه خلاف الظاهر لأنه إذا كان مقتضى الروايات الكثيرة المستفيضة قتله في

الثالثة فإذا لم يقتل و لم يحدّ في الثالثة فلا خصوصيّة للثالثة كي يحتمل عدم قتله في الرابعة بل القتل هناك ثابت بالأولويّة.

و قد ظهر مما ذكرناه أن ما ذكره ابن أبي عمير بالنسبة إلى المرسلة غير واضح المراد فإنّه لو كان المراد أنه فرّ مثلا في الثالثة فأتى به إجبارا في الرابعة ففيه أن هذه الرابعة ليست برابعة بل هي الثالثة، و ذلك لأن الملاك لم يكن هو الشرب وحده بل الشرب مع الجلد، و على ما ذكره يقتل في الثالثة و هو خلاف ظاهر الرواية الناطقة بقتله في الرابعة. و هذا الإشكال وارد على العلّامة المجلسيّ رضوان اللّه عليه أيضا في المرآة.

ثم إنّه لا يقال إنّ ذهاب مثل الشيخ في كتابيه الاستدلاليّين- الخلاف و المبسوط- و الصدوق أيضا و فخر المحققين في الإيضاح و الشهيد في اللمعة، و ميل العلّامة إلى ذلك كما نسب إليه، و صاحب الرياض و صاحب الجواهر إلى القول بالرابعة مع كون تلك الروايات المستفيضة بأعينهم و في أيديهم هل لا يوجب الوهن فيها؟.

______________________________

و الإكتفاء بالحدّ مع المصلحة انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 378

أضف إلى هذا نسبة الشهيد الثاني في الروضة القول بالثلاثة إلى الأكثر دون الكثير [1].

و ذلك لأنا نقول: إنّ الشيخ قد عدل عن ذلك في كتابه الآخر الفتوائي و هو النهاية كما أن الصدوق لم يفت بذلك في تمام كتبه، و العلّامة الذي مال إلى الأربع في القواعد، اختار في المختلف الثلاثة و قوّاها فكيف يرد الوهن في الروايات و الحال هذه؟.

ثم لو لم يمكن استظهار المطلب من الروايات و وصلت النوبة إلى الشك و تردد الأمر بين الجلد و القتل فالأصل يقتضي

عدم قتله في الثالثة لأن قتله في الرابعة متيقّن و في الثالثة مشكوك.

لكن يشكل الأمر من جهة دوران الأمر في الثالثة بين القتل و الجلد و ذلك لأن تأخير القتل إلى الرابعة مع جلده في الثالثة أو بدونه، و الأمر دائر بين المحذورين حرمة الجلد بأن يكون الواجب في الواقع هو القتل، و وجوبه بأن يكون حكم القتل للرابعة فالترديد بين الحرام و الواجب فلو كان القتل واجبا لحرم جلده و لو كان يحرم قتله لكان جلده واجبا فلو جلد لاحتمل حرمته و لو لم يجلد لخلا شرب الخمر عن الحدّ و القتل.

هذا كلّه لو شرب مرارا و جلد بعد كلّ مرّة و تخلّل الحدّ بين المرّات فلو لم يكن كذلك فحكمه هذا:

كفاية حدّ واحد على من شرب مرارا

قال المحقق: و لو شرب مرارا كفى حدّ واحد.

يعني لو شرب مكررا و لم يتخلّل بينها حدّ فهنا يكفي حدّ واحد للجميع. و قد

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب دام ظله بما قررناه و كان ذلك في يوم 15 من الشوال سنة 1408 ه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 379

ادّعى في الرياض و الجواهر عدم الخلاف في ذلك.

و استدلّ كاشف اللثام على ذلك أي أنه لا يحدّ أكثر من واحد، بالأصل و العمومات و انتفاء الحرج في الدين. و قد ذكر هذه الأمور في الجواهر أيضا و أضاف إليها وجها رابعا و هو صدق الشرب و إن تعدد. أمّا الأصل فواضح.

و أمّا العمومات فلعلّ المراد عمومات حرمة الإيذاء و قد خرج عنها حدّه مرّة واحدة بالإجماع، و أمّا الزائد عليه فمشكوك فيه و أدلّة الإيذاء و عموماتها تدلّ على الحرمة لأن ضربه إيذاء له بلا كلام.

و أمّا تقريب

العمومات بعمومات من شرب الخمر فهو يجلد حيث يستفاد منه أن من شرب و لو مرّات عديدة بلا حدّ فإنّ عليه الحدّ كمن شرب مرّة واحدة [1].

فلا يخلو عن كلام و ذلك لأن المقصود بحسب الظاهر هو عموم أفراد الشرب لا عموم أشخاص الشاربين، و قولنا: من شرب الخمر يجلد، و إن كان عامّا إلا أنه عامّ أشخاصي و لا عموم بالنسبة للشرب.

و أمّا انتفاء الحرج في الدين فهو غير تامّ و ذلك لأن أدلّة الحرج رافعة للتكليف إذا لزم فيه الحرج زائدا على أصل التكليف كالوضوء في البرد إذا استلزم الضرر و المشقّة الشديدة و لا يرتفع بها التكاليف التي كانت في حدّ ذاتها حرجيّة مثل باب الحدود.

فاللّازم الاعتماد على الدليل فإن استفيد منه تكرار الحدّ فلا بأس بذلك و ليس تعدد الجلد بأعظم من القتل في موارد وجوبه الذي لا يمكن رفعه بالحرج.

و أمّا التمسّك بصدق الشرب فهو حسن و ذلك لصدق الطبيعة بالقليل

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب دام ظلّه بما قررناه، و الإنصاف أن تسليم ما أفاده مشكل بل الظاهر أن المراد أن قولهم: من شرب الخمر يجلد ثمانين، شامل لمن شرب مرّة أو مرات بلا تخلّل الحدّ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 380

و الكثير، و المرّة و المرات، و من المعلوم أن الملاك هو طبيعة الشرب و طبيعة الحدّ فإذا شرب مرّات عديدة صدق أنه أتى بطبيعة الشرب فيكفي طبيعة الحدّ و هو الحدّ الواحد.

و استدلّ شيخ الطائفة في المبسوط بقوله: لأن حدود اللّه إذا توالفت تداخلت «1». و الظاهر أن مراده أنه من باب تداخل الأسباب كباب الأحداث حيث إنّ الحدث موجب للوضوء فلو تعدد

الأحداث لكفى وضوء واحد مثلا عن جميعها، و كذلك بالنسبة لما ورد: إن أجنبت فاغتسل، فإنّه لو أجنب متعددا بلا تخلّل الطهارة لكفى اغتسال واحد.

ثم إنّ لبعض المعاصرين قدس اللّه روحه في المقام إشكالا قال: و أمّا كفاية حدّ واحد لو شرب مرارا و لم يحدّ في الخلال فادّعى عدم الخلاف فيها للأصل و العمومات و انتفاء الحرج و صدق الشرب و إن تعدد.

أقول: هذه الأمور قد تعرضنا لذكرها مع ما يرد عليها.

ثم قال: و لا يخفى الإشكال في ما ذكر حيث إنّ المعروف تعدد المسبّبات بتعدد الأسباب و في المقام نقول: لو شرب الخمر و ثبت و لم يحضر الشارب فعليه الحدّ، ثمّ شرب مرّة أخرى مقتضى الأدلّة استحقاق حدّ آخر مع اجتماع الشرائط فعدم الاستحقاق لحدّ آخر خلاف الإطلاق إلّا أن يكون في المقام إجماع انتهى «2».

أقول: و فيه أن مسألة تعدد المسبّبات بتعدد الأسباب جارية فيما إذا كانت الأسباب قابلة للتعدد و كذا المسبّبات و كان اللفظ بحيث يشمل كلّ فرد و كلّ مرّة فإذا كان الموضوع هو كلّ فرد من الأفراد مثلا فهناك يصحّ أن كلّ فرد من السبب يقتضي مسبّبا مستقلّا و مختصّا به.

أمّا إذا كان الموضوع الطبيعة المحضة فهي لا تتعدد، بل مهما تعددت الأفراد تكون الطبيعة بحالها و لا تعدد لها كما في باب الأحداث فإنّ الحدث بطبيعته سبب

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 59.

(2) جامع المدارك الطبع الأول ج 7 ص 130.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 381

للطهور الذي لا صلاة إلّا به و حيث إنّ الطبيعة- لا الفرد- تكون موضوعا فلا فرق بين حصول فرد واحد من الحدث أو الأفراد الكثيرة و المتعددة في

كفاية طهور واحد، لأن طبيعة الحدث سبب لطبيعة الطهور و ما نحن فيه من هذا القبيل، يعني أن طبيعة شرب الخمر تكون سببا لطبيعة الحدّ فلا فرق بين حصول فرد واحد منها أو عدّة أفراد لصدق الطبيعة في كلا الفرضين فتجب طبيعة الحدّ الصادقة بفرد واحد منه إلى أن يقام عليه الحدّ فبعد ذلك لو حصل الطبيعة أيضا يكون كالأوّل فلا يتوهم أنه لو كان الموضوع هو الطبيعة المحضة و صرف الوجود- و لا تعدد لذلك فيلزم الإكتفاء بحدّ واحد و إن تخلّل الحدّ بينها فإنّه بعد حصول الحدّ فقد انقطع و زال الحقيقة و يكون حينئذ مبدأ الشروع و ذلك بعينه كما في باب الحدث فإنّه إذا اجتمعت عليه أحداث يكفيه طهور واحد، فإذا أتى به فبعد ذلك يكون مبدأ الأمر فإن حصل بعد ذلك حدث واحد أو إحداث متعددة يكفيه طهور واحد كالأوّل.

و هنا وجه سادس يبدو في الذهن و لعلّه أحسن طرق الاستدلال في المقام و هو أن المستفاد من نفس الأخبار الواردة الناطقة بحكم الشارب الذي شرب الخمر بعد أن شرب مرّة أخرى و حدّ عليه أنه لو شرب و لم يحد ثم عاد إلى شربه فإنّه لا يقام عليه أكثر من حدّ واحد فراجع الأخبار الماضية حيث قد تعرّضت لحكم الشارب أوّلا و أنه يجلد ثم لحكمه إذا شرب ثانيا بعد أن كان قد جلد و أنه يجب جلده ثانيا فكأنه قيل: إنّ شارب الخمر إذا شرب ثمّ حدّ ثم شرب يجلد، و المفهوم منه أنه إذا شرب و لم يحدّ ثم شرب مرّة أخرى فإنّه لا يتعدد الجلد و أنه إذا شرب بلا حدّ ثم شرب أيضا يجلد حينئذ

فيكفي الجلد مرّة واحدة، فالسبب هو الشرب مع الجلد، و لو كان كل شرب سببا لقيل: لو شرب ثم شرب ثم شرب يحدّ للأوّلين و يقتل في الثالث، و بذلك قد علم أن سبب تكرر الحد هو الشرب بعد الحدّ دون الشرب بعد الشرب، و العجب من العلماء الأعلام رضوان اللّه عليهم أجمعين كيف لم يتمسّكوا بهذا الوجه في إثبات المطلوب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 382

ثمّ إنّه بعد أن ثبت كفاية حدّ واحد و لو أنه شرب مرارا فحينئذ نقول كما في الجواهر: إنّه لا فرق في ذلك بين اتّحاد جنس المشروب و اختلافه فلا فرق بين أن يشرب من الخمر مرارا أو أن يشرب الخمر مرّة و النبيذ أخرى و هكذا، فما لم يتخلّل الحدّ يحدّ على الجميع حدّ واحد و إن كان قد شرب في كلّ مرّة مسكرا غير ما شربه في الأخرى، و ذلك لأن الحدّ في كلّ المسكرات واحد.

و تدل على عدم الفرق روايات أوردها في الوسائل في باب عنوانه: باب ثبوت الحدّ على من شرب مسكرا من أيّ الأنواع كان:

عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كلّ مسكر من الأشربة يجب فيه كما يجب في الخمر من الحدّ «1».

و عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: في كتاب علي عليه السلام: يضرب شارب الخمر و شارب المسكر، قلت: كم؟ قال: حدّهما واحد «2».

شهادة أحدهما بشرب الخمر و الآخر بقيئها

اشارة

قال المحقق: الثالث في أحكامه و هي مسائل:

[الأولى لو شهد واحد بشربها و آخر بقيئها وجب الحدّ]

الأولى لو شهد واحد بشربها و آخر بقيئها وجب الحدّ.

أقول: إنّ شهادة أحدهما بالشرب شهادة به مطابقيّة، و شهادة الآخر بالقي ء شهادة به التزاميّة فكلاهما قد شهدا بالشرب، غاية الأمر أن أحدهما بالدلالة المطابقيّة و الأخرى بالدلالة الالتزاميّة.

نعم يشترط في الإكتفاء بهما كونهما بحيث تتعلّقان بواقعة واحدة بأن كانتا غير مؤرّختين أو مؤرختين بما أمكن معه الاتّحاد فلو شهد أحدهما أنه شربها يوم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 383

الجمعة و الآخر أنه قاءها بعد ذلك أو قبله بأيّام لم يحدّ لاختلاف الفعل و لم يقم على كلّ فعل شاهدان، و إنّما قام على كلّ واحد من الفعلين شاهد واحد.

ثم إن الحكم بالاجتزاء بهما هو المشهور بل عن السرائر و التنقيح و ظاهر الخلاف الإجماع عليه. كذا في الجواهر.

و مستند الحكم رواية الحسين بن زيد الّتي رواها المشايخ الثلاثة المنجبر ضعفها بعمل المشهور.

فعن الحسين ابن زيد عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السلام قال: أتي عمر بن الخطّاب بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر فشهد عليه رجلان أحدهما خصيّ و هو عمرو التميميّ و الآخر المعلّى بن الجارود فشهد أحدهما أنه رآه يشرب و شهد الآخر أنه رآه يقي ء الخمر فأرسل عمر إلى ناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال لأمير المؤمنين عليه السلام: ما تقول يا أبا الحسن فإنّك الذي قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

أنت

أعلم هذه الأمّة و أقضاها بالحقّ، فإنّ هذين قد اختلفا في شهادتهما قال: ما اختلفا في شهادتهما و ما قاءها حتى شربها «1».

إذا شهد كلاهما بقيئه للخمر

كان الكلام في الفرع السابق فيما إذا شهد أحدهما بالشرب و الآخر بالقي ء، و هنا في أنه لو شهد كلّ منهما بقيئه للخمر، و ربّما يستفاد حكمه من الفرع السابق و ذلك لعموم العلّة و لذا:

قال المحقق: و يلزم على ذلك وجوب الحدّ لو شهدا بقيئها نظرا إلى التعليل المرويّ و فيه تردد لاحتمال الإكراه على بعد و لعل هذا الاحتمال يندفع بأنه لو كان واقعا لدفع به عن نفسه أمّا لو ادّعاه حدّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 384

أقول: و وجه اتّحاد الحكم أوّلا: عرفيّة المطلب فإن بطنه ليس مصنعا للشراب كي يولّده.

و ثانيا: عموم التعليل فإنّه إذا قال: ما قاءها حتى شربها، لا يختصّ بما إذا شهد واحد منهما بقيئه كما هو مورد الرواية بل يشمل ما إذا شهد كلاهما بذلك فإنّ القي ء للخمر يستلزم شربه.

و لكن تردد في ذلك جماعة من العلماء منهم المحقق في المقام و العلّامة في القواعد و السيّد الجليل ابن طاوس قدس اللّه أرواحهم. و ذلك لأن السبب هو الشرب اختيارا، و القي ء لا يدلّ عليه لإمكان الإكراه [1].

و بعبارة أخرى إنّ الشهادة على الشرب قد تحققت بالشهادة بالقي ء و لا نقصان في البين من هذه الجهة إلّا أنه ليس من قبيل الشهادة على الشرب اختيارا الموجب للحدّ.

و فيه أنه إذا سلّم أن الشهادة بالقي ء شهادة بالشرب فتكون في حكمها و هل

______________________________

[1] و اختار فخر الدين في الإيضاح عدم الحدّ

مستدلّا بأن النص إنّما ورد في صورة مخصوصة و الأصل براءة الذمة، و لقوله عليه السلام ادرؤوا الحدود بالشبهات، قال رحمه اللّه: و هو الأقوى عندي انتهى.

ثم لا يخفى عليك أن العلّامة استشكل في كلتا الصورتين لا في الثانية وحدها فقال: لو شهد أحدهما بالشرب و الآخر بالقي ء حدّ على إشكال لما روي أنه ما قاء إلّا و قد شرب و لو شهدا بالقي ء حدّ للتعليل على إشكال انتهى. و هكذا السيد ابن طاوس كما يظهر من المسالك حيث ذكر أن الأصل في المسألة رواية الحسين بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّ عليّا عليه السلام جلد الوليد بن عقبة لما شهد عليه واحد بشربها و آخر بقيئها و قال: ما قاءها إلّا و قد شربها قال: و عليها فتوى الأصحاب ليس فيهم مخالف صريحا إلّا أن طريق الرواية ضعيف لأن فيه موسى بن جعفر البغدادي و هو مجهول الحال، و جعفر بن يحيى و هو مجهول العين و عبد اللّه بن عبد الرحمن و هو مشترك بين الثقة و الضعيف، و لذلك قال السيد جمال الدين بن طاوس قدس سره في الملاذ: لا أضمن درك طريقه، و هو مشعر بتردده. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 385

كان يجري هذا الاحتمال فيما إذا كانت الشهادة منهما على شربه؟ فكيف تحمل الشهادة بالشرب، على شربه له اختيارا و يجري في الشهادة بالقي ء. احتمال الإكراه.

هذا مضافا إلى ما ذكره المحقق من لزو الدفاع عن نفسه لو كان مكرها، و إلى أن الأصل عدم الإكراه.

و قد يشكل بأن ذلك ليس بأزيد من الظهور و هو غير كاف في إثبات الحدود لأنه لا يدفع الشبهة

الدارئة للحدّ.

و فيه أوّلا أن ذلك اجتهاد في مقابل النص.

و ثانيا إنّ الاختيار في الأفعال الإراديّة أصل عقلائي معمول به في جميع المقاصد و لا يعبأ باحتمال الإكراه.

لا يقال: إنّه فرق بين الشهادة على الشرب المحمول على الاختيار و الشهادة بالقي ء الذي يحتمل فيه الإكراه، و ذلك لأن قذف الباطن الخمر أمارة على عدم ملائمة الباطن له كما ترى أن الإنسان إذا أكل طعاما لا يلائم طبعه أو شرب شرابا و مائعا لا يناسب مزاجه فإن مزاجه لا يقبله بل يقذفه و لا يجذب إلى بدنه فلذا يقي ء فيكون القي ء أمارة نوعية على أنه لم يشربه بميله و اختياره و اشتهاءه له و إنّما شربه بإكراه الغير له على هذا الذي لا يلائم طبعه، و لو كان قد شربه باختياره و اشتهاءه لما قاءه و استفرغه كما في كلّ مورد يأكل الإنسان أو يشرب ما يحبّه و يلائم طبعه، و على هذا فيقتصر في الحكم على مورد النصّ لشهرته و يحكم بالحدّ فيه، و يقال في الفرض الأخير بعدم الحدّ للشبهة [1] لأنا نقول: لا أمارية لذلك فربّما يستفرغ و يقي ء لكثرة شربه منه أو لغير ذلك فكيف يحمل على أنه شربه من غير اختيار و على كره منه.

و من نظر بعين الإنصاف يرى أن كون التعليل من باب التعبّد المحض حتى يقتصر في الحكم على الفرض الأوّل بعيد جدّا بل هو علّة في الحكم يدور معه

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب دام ظلّه بما قررناه في المتن و كان يوم 19 شوال سنة 1408- ه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 386

حيثما دار و على هذا فلا فرق بين الفرضيين في الحكم

بوجوب الحد.

نعم لو ادّعى هو بنفسه أنه أكره على ذلك قبل منه و يدرء عنه الحدّ بذلك.

المسألة الثانية في مستحلّ الخمر

قال المحقّق: الثانية من شرب الخمر مستحلّا استتيب فإن تاب أقيم عليه الحدّ فإن امتنع قتل و قيل يكون حكمه حكم المرتدّ و هو قويّ.

أقول: كان البحث في المسألة السابقة في مجرّد شرب الخمر و في هذه المسألة في شربه و هو يرى ذلك حلالا. و فيه قولان:

أحدهما: أنه يطالب بالتوبة و يؤمر بها و لا يخلو الأمر عن أنه إمّا أن يقبل ذلك و يتوب أو أنه يردّها و يمتنع عنها فعلى الأوّل يقام عليه الحدّ فقط و لا يقتل بل يخلّى سبيله، و على الثاني يحدّ أوّلا ثم يقتل. و قد نسب في الجواهر هذا القول إلى المقنعة و النهاية و الجامع، و في المسالك إلى الشيخين و أتباعهما.

ثانيهما: أنه محكوم بحكم المرتدّ ذهب إليه التقيّ الحلبي، و الحلّي و المتأخرون و قوّاه المحقق في الشرائع على ما رأيت [1].

و قد استدلّ للأوّل بوجهين:

الأوّل: إمكان عروض الشبهة عليه فاستحلّه لذلك، و الحدود تدرء بالشبهات.

الثاني: خبر ابن مظعون الذي رواه في الإرشاد و هو: أن قدامة بن مظعون قد شرب الخمر فأراد عمر أن يحدّه فقال له قدامة: إنّه لا يجب عليّ الحدّ لأن اللّه تعالى يقول «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ جُنٰاحٌ فِيمٰا طَعِمُوا إِذٰا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ»، فدرأ عمر عنه الحدّ فبلغ ذلك أمير المؤمنين

______________________________

[1] كما أنه قال في النافع: و هو قويّ متين انتهى. و قال العلّامة في الإرشاد: و الأقوى الحكم بارتداد من استحلّ شرب الخمر فيقتل من غير توبة إن كان عن فطرة.

الدر المنضود في

أحكام الحدود، ج 2، ص: 387

عليه السلام فمشى إلى عمر فقال له: لم تركت الحدّ على قدامة في شرب الخمر؟

فقال: إنّه تلا عليّ الآية، و تلاها عمر فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ليس قدامة من أهل هذه الآية و لا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم اللّه تعالى إنّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات لا يستحلّون حراما فاردد قدامة و استتبه مما قال، فإن تاب فأقم عليه الحدّ و إن لم يتب فاقتله فقد خرج عن الملّة، فاستيقظ عمر لذلك و عرف قدامة الخبر فأظهر التوبة و الإقلاع فدرأ عمر عنه القتل و لم يدر كيف يحدّه، فقال لأمير المؤمنين عليه السلام: أشر عليّ في حدّه فقال: حدّه ثمانين إنّ شارب الخمر إذا شربها سكر و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فجلده عمر ثمانين و صار إلى قوله في ذلك «1» و يظهر منه أن قدامة كان قد فهم و استفاد من الآية الكريمة الإطلاق و أنه إذا آمن باللّه و عمل الصالحات فلا بأس عليه فيما طعم و إن كان خمرا و بذلك فقد درأ عمر عنه الحدّ لكنّ الإمام عليه السلام قال بأنه ليس من أهل الآية أي: المؤمنين العاملين الصالحات فإنّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات لا يستحلّون حراما، فأمر عليه السلام بردّه و الاستتابة منه فيقام عليه الحدّ مع التوبة و يقتل مع عدمها، و لا بد أن يكون ذلك بعد إثبات شربه فلم يكن ينفع التوبة في رفع الحدّ عنه.

و استدلّ للقول الثاني بأن حرمة شرب الخمر من ضروريّ الدين لا شبهة فيها و قد أجمع عليها المسلمون، و منكر الضروريّ مرتدّ يترتب عليه أحكامه من

الفرق بين الفطريّ و المليّ و الرجل و المرأة و من جملة تلك الأحكام أنه لو كان فطريّا يقتل. إلى غير ذلك من الأحكام.

و أجيب عن الوجهين اللذين استدلّ بهما القائل بالاستتابه أمّا عن احتمال الشبهة فبأنه جار في غيره من الضروريّ المتفق على تحقق الكفر بإنكاره نصا و فتوى.

______________________________

(1) الإرشاد ص 97 و الآية 93 من سورة المائدة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 388

و عن قصّة ابن مظعون فبقولهم: لعلّه لم يكن مرتدّا فطريّا بل كان ملّيّا.

ثمّ إنّ الشهيد الثاني اختار في المسالك القول الثاني أعني كونه مرتدّا فقال بعد ذكر القول بالاستتابة: و الأصحّ ما اختاره المصنّف و المتأخّرون و منهم ابن إدريس من كونه مرتدّا ينقسم إلى الفطريّ و الملّي كغيره من المرتدّين لأن تحريم الخمر مما قد علم ضرورة من دين الإسلام و كلّ ما كان كذلك فمستحلّه كافر و هو يستلزم المدّعي. ثم قال: هذا إذا لم يمكن الشبهة في حقّه لقرب عهده بالإسلام و نحوه و إلّا اتّجه قول الشيخين و عليه تحمل استتابة قدامة بن مظعون و غيره ممن استحلّها في صدر الإسلام بالتأويل. فاختار رحمه اللّه قول المحقق إذا لم يحتمل الشبهة في حقّه فلو أمكنت ذلك في حقّه لقرب عهده بالإسلام أو لبعد بلاده عن بلاد الإسلام فهناك اتّجه قول الشيخين أي وجوب الاستتابة لا الحكم بالارتداد و عليه تحمل قصّة قدامة و غيره.

و أورد عليه صاحب الجواهر قدس سره بقوله: و فيه إنّ قول الشيخين لا يوافق مستحلّ الضروريّ للشبهة المزبورة المخرجة له عن الضرورة في حقّه بل المسقطة عنه الحدّ.

و فيه إنّه لو كان كلام الشيخ المفيد قابلًا لذلك و لكن كلام

الشيخ الطوسي في النهاية صريح في أنه لو شرب مستحلّا استتيب و إن كان ذلك للشبهة. و هذا الكلام هو ما أفاده الشهيد الثاني.

هل يقتل مستحلّ سائر المسكرات؟

قال المحقق: و أمّا سائر المسكرات فلا يقتل مستحلّها لتحقق الخلاف بين المسلمين فيها و يقام الحدّ مع شربها مستحلّا و محرّما.

أقول: كلامه هنا مجمل و كذا كلمات كثير منهم في المقام، فإنّه لم يبيّن المراد من المستحلّ لسائر المسكرات و أنه هل يستحلّه و هو عالم بالحرمة أو مع عدم العلم بها فعلى الأوّل أي ما إذا استحلّه عالما بحرمته و بانيا على الحلّ فيلزم الارتداد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 389

و تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المترتب عليه القتل إذا كان عن فطرة، أو أن المراد استحلاله قاطعاً بالحلّ فلا شي ء عليه حتى الحدّ لكونه جاهلا فكيف يقول بلزوم الحدّ عليه مطلقا؟ بل قال في الرياض بعد تصريح المحقق في النافع بأنه لا يقتل مستحلّ شرب غير الخمر بل يحدّ بشربه مستحلا له أو محرّما: قولا واحدا انتهى. و كذا قال في الجواهر: قولا واحدا كما في الرياض و إن لم يكفر المستحلّ.

و كيف كان فقد خالف الحلبي فحكم بكفر شارب الفقّاع مستحلّا و أوجب قتله. و ضعّفه في الجواهر قائلًا: و هو واضح الضعف بعد أن لم تكن حرمته ضروريّة فهو حينئذ كغيره من المسكر غير الخمر في عدم الكفر.

كما أن الشهيد الثاني في المسالك- بعد أن حكم بأنه لا يقتل مستحلّ غير الخمر من المسكرات كالفقّاع و إن وجب حدّه و ذلك لوقوع الخلاف فيها بين المسلمين و تحليل بعضهم إيّاها فيكون ذلك كافيا في انتفاء الكفر في استحلالها- قال:

و لا فرق بين كون الشارب لها ممن يعتقد إباحتها كالحنفيّ و غيره فيحدّ عليها و لا يكفر لأن الكفر مختصّ بما وقع عليه الإجماع و ثبت حكمه ضرورة من دين الإسلام و هو منتف في غير الخمر. انتهى.

كما أن صاحب الرياض بعد كلامه السابق و تصريحه بحدّ المستحل لغير الخمر و عدم قتله و ادعاء الإجماع عليه قال: لوقوع الخلاف فيها بين المسلمين.

و في القواعد و كشف اللثام مزجا: و يحدّ الحنفيّ إذا شرب النبيذ و إن قلّ و إن استحلّه فإنّ الحدّ للّه، و النصوص أطلقت بحدّ الشارب.

و فيه أن إطلاقها بالنسبة لحال الجهل مشكل، و كيف تشمل الجاهل، و كيف يجوز إجراء الحدّ على الجاهل و هو معذور لجهله.

و في الجواهر بعد كلام هذين العلمين: قلت: لا فرق في الكفر بين إنكار الضروريّ و غيره من المقطوع به مع فرض أن المنكر قاطع به ضرورة اقتضائه تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 390

ثم قال: نعم يفرق بينهما بالنسبة إلى الحكم بكفر المنكر مع العلم بالحال فمنكر الضّروريّ و هو من أهل الضرورة محكوم بكفره بإنكاره، بخلاف غيره لاحتمال عدم القطع به عنده بل المتّجه عدم الحدّ عليه بذلك لعدم العلم بالحرمة عند الشارب أو العلم بعدمها، و الفرض معذوريّته لكون المسألة غير ضرورية حتى لو كانت قطعيّة لكنّها نظريّة «1».

المسألة الثالثة: حكم من باع الخمر مستحلّا و غير مستحلّ

قال المحقق: من باع الخمر مستحلّا يستتاب فإن تاب و إلّا قتل و إن لم يكن مستحلّا عزّر و ما سواه لا يقتل و إن لم يتب، بل يؤدّب.

أقول: البيع ليس كالشرب في وضوح الحكم فلذا أفتى في بايع الخمر مستحلّا بأنه يستتاب من

أوّل الأمر فإن تاب فهو و إلّا قتل في حين أن شربه مستحلّا يوجب الارتداد على ما قوّاه.

و السرّ في هذا الفرق هو أنه يمكن أن يكون بيعه لمنفعة خاصّة محلّلة لا للشرب و إن كان مجرّد ترتّب انتفاع محلّل عليه لا يوجب الحكم بحلّية البيع ما لم يكن جهة الحلال من المنافع المتعارفة المعتنى بها.

و للشهيد الثاني في المسالك كلام بشرح العبارة. قال: بيع الخمر ليس حكمه كشربه فإنّ الشرب هو المعلوم تحريمه من دين الإسلام كما ذكر، و أمّا مجرّد البيع فليس تحريمه معلوما ضرورة و قد يقع فيه الشبهة من حيث إنّه يسوغ تناوله على بعض وجوه الضرورات كما سلف، فيعزّر فاعله و يستتاب إن فعله مستحلّا فإن تاب قبل منه و إن أصرّ على استحلاله قتل حدّا، و كأنّه موضع وفاق، و ما وقفت على نصّ يقتضيه، و أمّا بيع غيره من الأشربة فلا إشكال في عدم استحقاق فاعله القتل مطلقا لقيام الشبهة.

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 41 ص 466.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 391

و فيه أنه قد أفتى بقتله إن أصرّ على استحلاله بعد الاستتابة و الحال أن المسألة نظرية فضلا عمّا إذا كان حلالا عنده.

ثم إنّه قدس سره قال: قتل حدّا، لكن في كشف اللثام اقتصر على حكمه بالقتل و التعليل عليه بقوله: لارتداده، و ليس في كلامه ذكر عن الحدّ. و يحتمل أن يكون مرادهما واحدا.

و قال العلّامة في القواعد: و لو شرب الخمر مستحلّا فهو مرتدّ و قيل يستتاب فإن تاب أقيم عليه الحدّ و إن امتنع قتل أمّا باقي المسكرات فلا يقتل مستحلّها للخلاف بين المسلمين بل يقام الحدّ عليه مع الشرب مستحلّا أو

محرّما و كذا الفقّاع، و لو باع الخمر مستحلّا استتيب فإن تاب و إلّا قتل، و لو باع محرّما له عزّر، و ما عدا الخمر من المسكرات و الفقّاع إذا باعه مستحلّا لا يقتل و إن لم يتب بل يؤدّب انتهى.

و قال في الإرشاد: و الأقوى الحكم بارتداد من استحلّ شرب الخمر فيقتل من غير توبة إن كان عن فطرة و لا يقتل مستحلّ غيره بل يحدّ، و بايع الخمر مستحلّا يستتاب فإن رجع و إلّا قتل و يعزّر لو لم يستحلّ و ما عداه يعزّر و إن استحلّه و لم يتب انتهى.

و في كشف اللثام (بشرح عبارة القواعد): و لو باع الخمر مستحلّا لبيعه استتيب فإنّ حرمته ليست من الضروريّات فإن تاب و إلّا قتل لارتداده كذا ذكره الشيخان و غيرهما، و التحقيق أنه إن استحلّه مع اعترافه بحرمته في الشريعة فهو مرتدّ حكمه حكم غيره من المرتدّين، و إلّا عرف ذلك فإن تاب و إلّا قتل و كذا الحكم في كلّ من أنكر مجمعا عليه بين المسلمين فإنّ إنكاره ارتداد مع العلم بالحال لا بدونه بلا فرق بين شي ء و شي ء و كذا من أنكر شيئا مع علمه أو زعمه أنه في الشريعة على خلاف ذلك، و إن لم يكن مجمعا عليه فإنّه تكذيب للنبي صلّى اللّه عليه و آله في علمه أو زعمه و لعلّ نظره إلى أن الشبهة في البيع أظهر و أكثر منها في الشرب، و لو باع محرّما له عزّر، و ما عدا الخمر من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 392

المسكرات و الفقّاع إذا باعه مستحلّا لا يقتل و إن لم يتب بل يؤدّب لعدم الإجماع

من المسلمين على حرمته و في تأديبه مع كونه من أهل الخلاف نظر انتهى.

و تبعه على النظر المزبور في الرياض حيث قال في بيع ما سوى الخمر من الأشربة أنه لا يقتل و إن لم يتب لعدم إجماع المسلمين على حرمته فلا يحكم بكفر مستحلّه الموجب لقتله ثمّ قال: نعم قالوا يعزّر لفعله المحرّم و هو حسن إن كان ممن يعتقد التحريم و إلّا ففيه نظر وفاقا لبعض من تأخّر حيث قال: و في تأديبه مع كونه من أهل الخلاف نظر. انتهى.

و لكن لا يخفى عليك أن مقتضى النظر المزبور عدم الحدّ أيضا في مفروض المسألة السابقة، بل و عدم التعزير في غيره أيضا مع فرض عدم العلم بالتحريم بل و عدم الارتداد مع فرض عدم كونه ضروريّا و لا قطعيّا عنده أن الشريعة تقتضي حرمته فإن المفروض كونه معذورا في الفرض المزبور، و لو لأن المسألة نظرية و بالجملة لا يخلو كلامهم في هذه المسألة من نظر.

قال الأردبيلي قدس سره بشرح ما مضى من عبارة الإرشاد: قد اختلف في أن مستحلّ شرب الخمر كافر و مرتدّ أم لا؟ فقال به بعض الأصحاب لأن تحريمه مجمع عليه الأمّة و من ضروريّات الدين فيكون المسلم المنكر له مرتدّا فإن كان فطريّا يقتل من غير استتابة و إن كان ملّيا أي غير فطريّ يستتاب فإن تاب و إلّا قتل و لم يذكره المصنّف لظهوره و لأنه يعلم من قوله: فإن رجع إلخ و سيجي ء تفصيل حكم المرتدّ و نقل عن الشيخين و أتباعهما عدم الحكم بارتداد من استحلّ شرب الخمر بل قالوا إنّه يستتاب مطلقا فالشارب يحدّ عندهم مطلقا فإن كان مستحلّا يستتاب فإن تاب فالحدّ فقط

و إلّا فالقتل على ما تقرر من قتل من يستحلّ محرّما بعد العلم به و دليلهم الأصل و أنه ما صار ضروريّا بحيث يعرفه كلّ أحد و لم يمكن الجهل به فإنّ كثيرا من أهل القرى يعتقدون حلّه، فيمكن في حقّ من أنكر تحريمه ذلك فلا يحكم بارتداده لذلك، و الحقّ أن يقال إن كان المنكر ممن أمكن في حقّه عدم علمه بتحريمه، و إن كان بعيدا يقبل للاحتياط و الدرء

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 393

و الأصل و لبعد إنكار من هو عليه شعار المسلمين، و على ظاهر الإسلام ينكر ما علم تحريم شي ء في شرع الإسلام بل لا يمكن ذلك حقيقة بل بحسب الظاهر أو الخروج عن الإسلام و عدم الاعتقاد بحقيقته فمهما أمكن حمله على الإمكان و الصحّة، و إن كان بعيدا يحمل عليه فلا يكفر و لا يقتل، و إن لم يمكن مثل أن يكون رجلا من أهل العلم و المعرفة بأحكام المسلمين و كتاب اللّه و الأخبار فيحكم بارتداده و كفره، و يجري عليه أحكام المرتد التي ستجي ء، لأنه علم من حاله ثبوت التحريم في الشرع فإنكاره إنكار الشرع و ردّه و عدم القول به فلا شكّ في كفره، و هو ظاهر و يمكن الجمع بين القولين فتأمّل.

ثم إنّ ما أفاده من إمكان الجمع بين كلام الشيخين و سائر العلماء بأن يقال إنّه يقتل إذا كان عالما لا مطلقا خلاف الظاهر فإنّ ظاهر كلامهما أنهما يقولان بالاستتابة مطلقا لا أنه إذا كان عالما يقتل.

المسألة الرابعة في توبة الشارب قبل قيام البيّنة و بعدها.

قال المحقق: إذا تاب قبل قيام البيّنة سقط الحدّ و إن تاب بعدها لم يسقط و لو كان ثبوت الحدّ بإقراره كان الإمام

مخيّرا بين العفو و الاستيفاء و منهم من منع التخيير و حتم الاستيفاء هنا و هو الأظهر.

أقول: هنا أحكام: أحدها: أنه إذا تاب شارب الخمر قبل قيام البيّنة على شربه سقط عنه الحدّ اتّفاقا كما في كشف اللثام و بلا خلاف كما في الجواهر.

و يدلّ على ذلك مرسل جميل: في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى فلم يعلم بذلك منه و لم يؤخذ حتى تاب و صلح قال: إذا صلح و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ «1».

ثانيها: ما إذا تاب بعد قيام البيّنة عليه بذلك. و فيه قولان:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 394

الأوّل ما ذهب إليه المشهور و هو أنه لا يسقط عنه الحدّ الثابت بالبيّنة كما هو مقتضى مرسل جميل.

الثّاني ما قاله الحلبيّان- ابن زهرة و أبو الصلاح- فقالوا بتخيير الإمام بين الإجراء و العفو.

و فيه ما مرّ سابقا فراجع «1».

ثالثها: ما لو تاب قبل إثبات شربه بإقراره عند الحاكم فيسقط الحدّ عنه قطعا و بلا كلام و يشمله إطلاق رواية جميل.

رابعها: ما إذا تاب لكن بعد إثبات ذلك بالإقرار عند الحاكم و فيه القولان:

أحدهما أنه يتخيّر الإمام بين العفو و الاستيفاء و هو المشهور.

ثانيهما لزوم الاستيفاء كما استظهر ذلك المحقق قدس سره و قد ذهب إليه الشيخ في الخلاف و المبسوط، و ابن إدريس، و جعله الشهيد الثاني في المسالك أقوى.

و استدلّ في المسالك للأوّل بقوله: لإسقاط التوبة تحتّم أقوى العقوبتين و هو الرجم فلأن يسقط تحتّم أضعفهما أولى. ذهب إلى ذلك الشيخ في النهاية و أتباعه و العلّامة في المختلف.

توضيح الأولويّة أن التوبة

بعد ثبوت الزنا بالإقرار توجب سقوط حتميّة الرجم الذي هو أعظم من الجلد فكيف لا توجب التوبة بعد ثبوت الشرب بالإقرار سقوط حدّه بل هو أولى بالسقوط منه.

و استدلّ على لزوم الاستيفاء بأن الحدّ قد ثبت بالإقرار فيستصحب إلى أن يثبت دليل صالح للإسقاط، و لأن التوبة موضع تهمة.

و قد أجيب عن استدلال الأولويّة بوجود الفارق بين الرجم و غيره و ذلك لاستلزام الرجم تلف النفس بخلاف الجلد و من المعلوم اهتمام الشارع بحفظ النفوس ما لا يهتمّ بغيره فيمكن أن يرفع حكم الرجم و إتلاف النفس بالتوبة بعد

______________________________

(1) راجع الدّرّ المنضود ج 1 ص 243.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 395

أن ثبت عمله بإقراره و مع ذلك لا يرفع الحكم بجلده للشرب بالتوبة بعد إقراره، و رفع الأوّل لا يلازم رفع الثاني أصلا.

و في الجواهر عند قول المحقق بأن القول بتحتّم الاستيفاء هو الأظهر: بناءا على أنه لا خيار هناك إلّا في الرّجم ضرورة عدم إيجاب الشرب غير الجلد الذي يقتضي الاستصحاب بقاءه و لا يقطعه القياس على الإقرار بما يوجب القتل و الرجم بعد بطلانه عندنا و كونه مع الفارق و من هنا قوّاه في محكيّ التحرير.

ثم قال: و لكن قد تقدم سابقا ما يعلم منه النظر في ذلك و أنه مخيّر في الرجم و الجلد فيتّضح حينئذ وجه الأولويّة في المقام من الجلد في الزناء الذي هو أعظم و جلده أكثر، مضافا إلى غيرها من التعليل في بعض النصوص و نحوه فلاحظ و تأمّل انتهى.

أقول: لعلّ القول الأول هو الأصحّ و ذلك لأنه و إن أمكن تقرير الأولوية على النحو الذي أفاده في المسالك فتفيد القول الثاني و هو

تخيير الإمام بين العفو و الاستيفاء بأن يقال: التوبة تسقط تحتّم أقوى العقوبتين و هو الرجم فلأن تسقط تحتّم أضعفهما أولى.

إلّا أنه يمكن تقريرها بنحو تفيد العكس فيقال: لا طاقة لكثير من الناس في باب الزنا و عن الشهوات الغريزيّة إذا فيمكن أن يرفع الحكم بالرجم بالتوبة بعد الإقرار و هو لا يدلّ على رفع الحكم بالجلد في باب الشرب الذي ليس كباب الزنا بل يسهل الاجتناب عنه لكثير من الناس و ليس بحيث لا طاقة لهم عنه كما هو واضح [1].

______________________________

[1] أقول القسم الأخير من هذا البحث أي تقرير الأولويّة بهذا البيان منه دام ظله لكن في خارج مجلس الدرس.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 396

تتمّة تشتمل على مسائل

الأولى فيمن استحلّ شيئا من المحرّمات المجمع عليها.

قال المحقق: من استحلّ شيئا من المحرّمات المجمع عليها كالميتة و الدّم و الربا و لحم الخنزير ممن ولد على الفطرة يقتل و لو ارتكب ذلك لا مستحلّا عزّر.

قد تقدم أنه لو أنكر الضروريّ فهو مرتدّ و له أحكامه. و الكلام الآن فيمن استحلّ ما هو ليس من الضروريّ لكنّه كان مجمعا عليه بين المسلمين. و ليعلم أنه أيضا كذلك فإذا ارتكب المسلم الحرام المجمع عليه فهو مرتدّ فطريّ يقتل للارتداد، و إن تاب عن ارتداده و ذلك لأنه بمقتضى كونه مجمعا عليه بين جميع فرق المسلمين فهو معلوم و مسلّم عندهم، و استحلاله تكذيب للنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

نعم يعتبر في قتله الشرائط المخصوصة مثل أن يكون رجلا و غير ذلك و قد نسب ذلك أي كفره و ارتداده في المسالك، إلى مقتضى عبارة كثير من الأصحاب كما في الجواهر أيضا.

لكن أورد عليه في الأوّل بأن حجّية الإجماع ظنيّة لا قطعيّة

و من ثمّ اختلف فيها و في جهتها و نحن لا نكفّر من ردّ أصل الإجماع فكيف نكفّر من ردّ مدلوله فالأصحّ اعتبار القيد الآخر (أي كون ثبوته ضروريا).

و فيه إنّ ردّ الإجماع غير ردّ المدلول فلو كان عالما بتحقق الإجماع على شي ء بين المسلمين فهذا الحكم ظاهر عنده و معلوم له و كان هو كالمعلوم بالضرورة في المناط الموجب للارتداد و يؤل ذلك إلى إنكار صاحب الشرع و تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّما الفرق بين الضروري و المجمع عليه في أن كون

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 397

شي ء ضروريّا بنفسه كاف في الحكم بالارتداد بعد أن كان المستحلّ من أهل هذه الملّة و النحلة و قد نشأ في الجوّ الدينيّ و الإسلامي بخلاف المجمع عليه حيث إنّه لا يحكم عليه بالكفر و الارتداد بمجرّد استحلاله و ذلك لاحتمال عدم تحققه الإجماع عليه.

هذا كلّه في ضروريّ الدين و الجمع عليه بين المسلمين و أمّا ضروريّ المذهب فالظاهر أنه أيضا كضروريّ الدين كما صرّح بذلك في الجواهر و ذلك لتحقق المناط أي لزوم التكذيب [1].

و أمّا مخالف المجمع عليه بين الأصحاب خاصّة ففي المسالك: فلا يكفر قطعا و إن كان ذلك عندهم حجّة فما كل من خالف حجّة يكفر خصوصا الحجّة الاجتهادية الخفيّة جدّا كهذه. (قال:) و قد أغرب الشيخ رحمه اللّه حيث حكم في بعض المسائل بكفر مستحل ما أجمع عليه الأصحاب و قد تقدم بعضه في باب الأطعمة و الأشربة و لا شبهة في فساده إلى آخر كلامه.

لكن في الجواهر بعد التصريح بجريان الحكم في ضروريّ المذهب أيضا قال:

بل و المجمع عليه بينهم ممن كان

تحقق عنده الإجماع المزبور على وجه يدخل فيه المعصوم عليه السلام ضرورة اقتضاء إنكاره ردّ قول من اعتقد بعصمته بل و قول اللّه كما هو واضح انتهى.

أقول: و هذا هو الحقّ بعد أن المفروض هو علمه بكونه مسلّما في المذهب.

هذا كلّه في صورة الاستحلال و أمّا لو ارتكب بدون ذلك فعند المحقق أنه يعزّر و قد مرّ بعض الكلام منّا في التعزير فيما مضى فراجع.

و في المسالك: و لو ارتكب ذلك غير مستحلّ عزّر إن لم يكن الفعل موجبا

______________________________

[1] كأنّه دام ظلّه العالي قد عدل عمّا أفاده في سالف الزمان في الطهارة على حسب ما نقلناه عنه في نتائج الأفكار ص 178 فراجع، كما و انّ صاحب الجواهر قدس سره الذي صرّح في الجواهر ج 41 ص 469 و كذا في ص 602 بكفر منكر ضروريّ المذهب قد استشكل في ذلك في ص 442 فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 398

للحدّ و إلّا دخل التعزير في ضمنه.

المسألة الثانية: فيمن قتل بالحدّ أو التعزير

قال المحقق: من قتله الحدّ أو التعزير فلا دية له و قيل تجب على بيت المال و الأوّل مرويّ.

أقول: في المسألة قولان: أحدهما أنه لا دية له و في المسالك: عدم ثبوت الدية على التقديرين هو الأظهر انتهى. و في الجواهر: على المشهور، و عن الشيخ و إن ضرب في غاية الحرّ و البرد و هو مذهبنا لأن تحرّي خلافهما مستحبّ انتهى. و قد استدلّ على ذلك بأمور على ما في المسالك:

منها: أنه فعل سائغ أو واجب فلا يتعقّبه الضمان.

و منها أن الإمام محسن في امتثال أوامر اللّه تعالى و إقامة حدوده، و قد قال اللّه تعالى «مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» «1».

و منها حسنة

الحلبي عن الصادق عليه السلام أنه قال: أيّما رجل قتله الحدّ أو القصاص فلا دية له «2».

فإنّ أيّ من صيغ العموم و كذا الحدّ عند من جعل المفرد المعرّف للعموم من الأصوليّين.

أقول: و هنا وجه آخر قد يتمسّك به و هو أصل البراءة فإنّه يقتضي أن لا يكون عليه شي ء.

و على الجملة فقد استدلّ على ذلك بالآية و الرواية و الأصل و وجه اعتباريّ.

ثانيهما: القول بالضمان إلّا أن ضمانه على بيت المال غاية الأمر بشرط كون الحدّ للناس فإنّه لو كان للّه تعالى لم يضمن. و قد افتى بذلك الشيخ المفيد قدس

______________________________

(1) سورة التوبة الآية 91.

(2) وسائل الشيعة ج 19 ب 24 من أبواب قصاص النفس ح 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 399

سره الشريف.

و يدلّ على ذلك ما رواه الصدوق مرسلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

كان عليّ عليه السلام يقول: من ضربناه حدّا من حدود اللّه فمات فلا دية له علينا و من ضربناه حدّا في شي ء من حقوق الناس فمات فإنّ ديته علينا «1».

و قد روى الشيخ الطوسي قدس سره رواية الحلبي المذكورة آنفا ثم نقل رواية زيد الشحّام قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل قتله القصاص هل له دية؟ فقال: لو كان ذلك لم يقتصّ من أحد و من قتله الحدّ فلا دية له.

ثم قال: قال محمد بن الحسن: هذان الخبران و ردا عامّين و ينبغي أن نخصّهما بأن نقول: إذا قتلهما حدّ من حدود اللّه فلا دية له من بيت المال و إذا مات في شي ء من حدود الآدميّين كانت ديته على بيت المال، يدلّ على ذلك ما رواه الحسن بن محبوب عن

الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان عليّ عليه السلام يقول إلخ «2». و هذا هو نفس مرسل الصدوق بهذا الطريق.

و في المسالك بعد نقل قول المفيد: و مقتضى هذا القول تخصيص الحدّ و أن المراد بيت المال بيت مال الإمام لا بيت مال المسلمين.

ثم نقل ما ذهب إليه الشيخ في الإستبصار من أن الدية في بيت المال جمعا بين الأخبار. و قال بعد ذلك: مع أن الرواية المرويّة عن عليّ عليه السلام ضعيفة السند انتهى.

و قد يقال بأن إطلاق بيت المال و إرادة مال الإمام غير مصطلح فإنّه مهما أطلق يراد به بيت المال المسلمين.

و فيه أن بيت المال قسمان: فقد يراد به بيت تجمع فيه الزكوات و الصدقات

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدّمات الحدود ح 4 و الفقيه طبع تهران ج 4 ص 51.

(2) الإستبصار ج 4 ص 278 و 279.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 400

و المبرّات و أمثال ذلك، و قد يراد به ما يجمع فيه الوجوه المختصّة بالإمام عليه السلام و السهم الخاصّ به و لا بعد في أن يراد من بيت المال بيت ماله مثل هذا لا ماله الشخصيّ، و على هذا فلا بعد في إطلاق بيت المال عليه.

إلا أنه قد يقال بأن مقتضى كونه محسنا أنه لو كان عليه شي ء أدّى من بيت مال المسلمين. نعم لو استولى عليه الغضب فضربه حتى مات فلا شكّ في كونه ضامنا.

و قد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه اقتصّ من قنبر عند ما ضرب المستحقّ فوق الحدّ فضرب عليه السلام قنبرا بعدد تلك الزيادة [1].

و إن كان

توجيه هذا الخبر مع ما هو المعهود المعلوم من مكانة قنبر الرفيعة، و على حسب القواعد لا يخلو عن صعوبة، و كيف يرتضي المسلم أن يقول بأن قنبرا تعدّى و ضرب فوق ما هو اللازم فهو بعيد غايته، و لو كان ذلك عن خطأ فكيف اقتصّ منه الإمام عليه السلام. نعم يمكن أن يقال: إنّه كان قد قصّر في عدّ الأسواط فزاد.

ثم إنّه هل الحكم يختصّ بما إذا قتل في الحدّ فلا دية هناك أو أنه يشمل التعزير أيضا؟ الظاهر عدم الاختصاص فالمراد منه الأعمّ من الحدّ و التعزير.

و في المسالك: و يظهر من الخلاف و المبسوط أن الخلاف في التعزير لا في الحدّ فإنّه مقدّر فلا خطأ فيه بخلاف التعزير فإنّ تقريره مبنيّ على الاجتهاد الذي يجوز فيه الخطأ، و هذا يتمّ مع كون الحاكم الذي يقيم عليه الحدّ غير معصوم و إلّا لم يفرق الحال بين الحدّ و التعزير.

و في الجواهر: الظاهر إرادة ما يشمل التعزير من الحدّ فيه و على تقدير العدم فالظاهر الاتّحاد في الحكم مع فرض عدم الخطأ.

______________________________

[1] عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أمر قنبرا أن يضرب رجلا حدّا فغلط قنبر فزاده ثلاثة أسواط فأقاده عليّ عليه السلام من قنبر بثلاثة أسواط. وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 401

ثم إنّه استدلّ من قال بعدم الدية إذا قتل بالتعزير بأصل البراءة، و بأن التعزير حدّ من حدود اللّه و كلّ حدّ من حدود اللّه لا يضمن من مات به.

قال فخر المحققين في الإيضاح بعد ذكر هذين الوجهين:

أمّا الأولى فظاهرة و أمّا الثانية فلما روي عنهم عليهم السلام متواترا أن من حددناه حدّا من حدود اللّه فمات فليس له شي ء و من ضربناه حدّا من حدود الآدميّين فمات كان علينا ضمانه «1».

و قد أجاب عنه في الجواهر بقوله: و الخبر المزبور و إن قال في محكيّ الإيضاح إنّه متواتر عنهم لكن لم نتحققه و هو في ما وجدناه ضعيف، كما اعترف به غير واحد فلا يصلح مقيّدا أو مخصصا للحسن المزبور المعتضد بما عرفت انتهى.

أقول: الظاهر شمول حسنة الحلبي أو صحيحته للتعزير أيضا و لا وجه للاختصاص بحسب الظاهر، و الأقوى عدم الضمان مطلقا.

ثم إنّه قال في الجواهر: ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يحصل الخطأ لو كان من غير المعصوم عليه السلام بالتجاوز و نحوه و إلّا اتّجه الضمان.

أقول: غرضه أن ما ذكر من أنه لو قتله الحدّ أو التعزير فلا دية صحيح إذا لم يكن هناك خطأ في الحدّ أو التعزير، بل كان قد مات و قتل بنفس الحدّ أو التعزير أمّا إذا أخطأ فزاد في الحدّ أو التعزير فقتل فهناك يتّجه الضمان. و قد ذكر قدس سره ذلك لئلّا يتوهّم شمول عبارة المصنّف للفرض الأخير أيضا.

ثمّ لا يخفى أن هذا البحث لا يجري بالنسبة للإمام المعصوم و ذلك لمكان عصمته عن الخطأ حكما و موضوعا.

______________________________

(1) إيضاح الفوائد في شرح القواعد ج 4 ص 516.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 402

المسألة الثالثة في انكشاف فسق الشاهدين بعد أن قتل أحد حدّا
اشارة

قال المحقق: لو أقام الحاكم الحدّ بالقتل فبان فسوق الشاهدين كانت الدية في بيت المال و لا يضمنها الحاكم و لا عاقلته.

أقول: البحث في هذه القسمة في أنه إذا حكم الحاكم على طبق الموازين الشرعية المقررة ثم

انكشف فسق الشاهدين- أو الشهود إذا كان قد شهد بالموجب جماعة- لكانت دية المقتول لازمة و ذلك لأنه قد قتل بغير حق و من دون استحقاق فتجب ديته و لا إشكال في ذلك و إنّما الكلام في أنها على من تكون؟.

فذهب المحقق إلى أنها على بيت المال أي تخرج منه و ليس الضمان على الحاكم و لا على عاقلته و ذلك لأنه يعتبر من خطأ الحاكم، و خطأ الحاكم من بيت المال المعدّ لمصالح المسلمين، و هو محسن في عمله لكونه في مقام إصلاح الأمور و حفظ النظام، و خدمة الدين و إقامة الشعائر، و إجراء الأحكام، فالغرامة اللازمة عليه كانت على بيت مال المسلمين، و بما ذكر يجمع بين الحقّين: حقّ المقتول و حقّ الحاكم القائم بأمور المسلمين.

خلافا لظاهر بعض كالحلبيّ من كون الضمان في ماله على ما حكي عنه، و هو ضعيف، بل في الجواهر: و هو واضح الضعف انتهى و ذلك لما ذكرناه في تقريب القول الأوّل من أنه محسن في عمله إلّا أنه قد أخطأ، و خطأ الحاكم على بيت المال.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 403

في إجهاز الحامل لإنفاذ الحاكم إليها في الحدّ

قال المحقق: و لو أنفذ الحاكم إلى حامل لإقامة حدّ فأجهضت خوفا قال الشيخ: دية الجنين في بيت المال و هو قويّ لأنه خطأ و خطأ الحكّام في بيت المال و قيل يكون على عاقلة الإمام و هي قضيّة عمر مع عليّ عليه السلام.

أقول: و في الجواهر بعد قول المحقق لإقامة حدّ: أو لتحقيق موجبه انتهى و هو في موضعه فإنّه كما للحاكم إقامة الحدّ فإنّ له الإنفاذ إلى من ادّعى عليه لتحقيق الحال. و كيف كان فلو أجهضت فعن الشيخ أن

دية الجنين في بيت المال.

و ما نقله عنه فهو كلامه في المبسوط و هذا نصّه:

إذا ذكرت عند الإمام امرأة فأرسل إليها فأسقطت أي أجهضت ما في بطنها فزعا منه فخرج الجنين ميّتا فعلى الإمام الضمان لما روي من قصّة المجهضة، و أين يكون على ما مضى «1».

و قد قوّى المحقق قدس سره هذا القول و اختاره الشهيد الثاني في المسالك كما و أنه ذهب إليه الأكثر. و استدلّ على ذلك بأنه خطأ من الحاكم و خطأ الحكّام في بيت المال.

و خالف في ذلك ابن إدريس فقال بأنه على عاقلة الإمام. و احتجّ على ذلك بأنه خطأ محض لأنه غير عامد في فعله و لا قصده لأنه لم يقصد الجنين مطلقا و إنّما قصد أمّه فيكون الدية على عاقلته و الكفّارة في ماله.

و الذي ذهب إليه هو الموافق للرواية المشهورة من قضايا أمير المؤمنين عليه السلام. فعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كانت امرأة تؤتى فبلغ ذلك عمر فبعث إليها فروّعها و أمر أن يجاب بها ففزعت المرأة فأخذها الطلق فذهبت إلى بعض الدور فولدت غلاما فاستهلّ الغلام ثم مات فدخل عليه من روعة المرأة و من موت الغلام ما شاء اللّه فقال له بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين ما عليك

______________________________

(1) المبسوط ج 8 كتاب الأشربة ص 64.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 404

من هذا شي ء، و قال بعضهم: و ما هذا؟ قال: سلوا أبا الحسن عليه السلام فقال لهم أبو الحسن عليه السلام: لئن كنتم اجتهدتم ما أصبتم و لئن كنتم برأيكم قلتم فقد أخطأتم ثمّ قال: عليك دية الصبيّ «1».

و في نقل الشيخ المفيد: روي أنه استدعى امرأة كانت تتحدّث

عندها الرجال فلمّا جاءها رسله فزعت و ارتاعت و خرجت معهم فأملصت و وقع على الأرض ولدها يستهلّ ثم مات فبلغ عمر ذلك فجمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سألهم عن الحكم في ذلك فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدّبا و لم ترد إلّا خيرا و لا شي ء عليك في ذلك و أمير المؤمنين عليه السلام جالس لا يتكلّم في ذلك فقال له عمر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال: قد سمعت ما قالوا قال: فما عندك؟

قال: قد قال القوم ما سمعت قال: أقسمت عليك لتقولنّ ما عندك قال: إن كان القوم قاربوك فقد غشّوك و إن كانوا ارتأوا فقد قصّروا، الدية على عاقلتك لأنّ قتل الصبيّ خطأ تعلّق بك فقال: أنت و اللّه نصحتني من بينهم، و اللّه لا تبرح حتى تجري الدية على بني عديّ ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام [1] و قد أجيب عن الرواية بأن عمر لم يرسل إليها بعد ثبوت ذلك عليها بل كان قبل ثبوته و لذا ضمنه. و فيه أن جواز الإرسال خلف المدّعى عليه لا يتوقّف على ثبوت الحق عليه بل يكفي فيه إرادة تحقيق الأمر.

و قد يجاب عنها بنحو آخر و هو أن عمر لم يكن حاكم حقّ عند الإمام حتى يكون خطأه في بيت المال و لم يكن عليه السلام يقدر على أن يصرّح دائما ببطلان خلافته و حكومته إذا فلم يكن المقام من خطأ الحاكم حتى يكون على بيت المال فلا ينافي هذا ما تقدم من القاعدة.

و فيه أنه كان صلوات اللّه عليه يرتّب غالبا على قضائهم آثار حكم الحاكم

______________________________

[1] الإرشاد ص 98 و قوله: أملصت أي ألقت

المرأة ولدها قبل وقت الولادة.

______________________________

(1) الكافي ج 7 ص 374 و التهذيب ج 10 ص 312 و وسائل الشيعة ج 19 ب 30 من موجبات الضمان ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 405

الإسلامي و ولاة الحق و كان مشرفا على قضائهم.

و قد أجاب في المسالك بنحو آخر و لعلّه الجواب التامّ قال: و الأولى في ذلك أن الرواية لم ترد بطريق يعتمد عليه فالرجوع إلى الأصول المقررة متعيّن.

في موت المحدود بزيادة الحدّ

قال المحقق: و لو أمر الحاكم بضرب المحدود زيادة عن الحدّ فمات فعليه نصف الدية في ماله إن لم يعلم الحدّاد لأنه شبيه العمد.

أقول: إنّ للمسألة صورا و أقساما بعد أن كون الحاكم هو الإمام المعصوم خارج عن محلّ الكلام فإنّه بمقتضى عصمته لا يأمر بخلاف حكم اللّه تعالى، و أئمة الشيعة لا يسبقون اللّه سبحانه بالقول و هم بأمره يعملون و إذا أمر الإمام المعصوم بالزيادة لجهة من الجهات كشرف الزمان أو المكان أو غير ذلك فليس عليه شي ء و لا يوجب ذلك ضمانا.

فمنها أنه إذا أمر الحاكم بالزيادة على الحدّ المعيّن غضبا مع عدم علم الحدّاد بأنه زائد على المقدار اللّازم فأجرى و أقام ما أمره الحاكم فضربه فقتل في حين كان الأمر عالما و المأمور جاهلا و هنا يكون نصف دية القتل المنتسب إلى أمرين أحدهما سائغ و الآخر مضمون عليه، على الحاكم في ماله لأن أمره كان سببا لفعل المأمور، و المأمور و إن كان مباشرا إلا أنه لمّا كان جاهلا فالسبب أقوى من المباشر فليس عليه شي ء و على الجملة فالنصف غير المجاز يكون على الحاكم فعليه أداء نصف الدية.

و منها هذا الفرض مع علم المأمور بذلك فضرب غضبا

فمات و هنا يكون المأمور هو الضامن للنصف غير السائغ لا الحاكم، و ذلك لأن علم المأمور أوجب أن يكون المباشر أقوى من السبب عرفا بعكس الفرض السابق، و ليس الفرضان من باب خطأ الحاكم حتى يكون على بيت مال المسلمين.

إن قلت: فلما ذا لا يحكم بالقصاص مع فرض وقوع القتل بسبب تلك الزيادة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 406

الّتي وقعت عن عمد؟.

نقول: لعدم قصد القتل- و لا الأمر به من الحاكم في الفرض الأوّل و لا من المباشر في الفرض الثاني و ليس من باب الخطأ المحض حتى يكون على العاقلة ما يلزم عليه بل هو شبه العمد فقد قصد الفعل لا القتل و لم يكن الفعل مما يترتّب عليه القتل عادة.

فيما إذا كان ذلك عن سهو

قال المحقق: و لو كان سهوا فالنصف على بيت المال.

من جملة الفروع في المقام ما إذا زاد الحاكم في ذلك، فأمر بالزيادة لكنّه كان ذلك عن سهو منه كما إذا غفل أنه حدّ الشارب فزعم أنه حدّ الزنا أو لغلطة في الحساب فهنا يكون النصف على بيت المال لأنه من غلط الحكّام الذي يؤدّي عن بيت مال المسلمين.

هذا إذا لم يعلم الحدّاد، فلو كان هو عالما بأن الحاكم أمر بذلك سهوا و مع ذلك فقد أقدم على الضرب زائدا على الحدّ المقرر فمات منها فإن كان عالما أيضا بأنه يموت بها أو قصد قتله بها فالقصاص و إلّا بأن مات بغتة بذلك فنصف الدية على الحدّاد لا الحاكم.

في تعمّد الحدّاد مع أمر الحاكم بالاقتصار

قال المحقق: و لو أمر بالاقتصار على الحدّ فزاد الحدّاد عمدا فالنّصف على الحدّاد في ماله.

أقول: فرض البحث هنا أنه قد أمر الحاكم بالحدّ المقرر و ما هو اللّازم، و إنّما تعمّد الحدّاد فزاد في ذلك و حيث إنّه لم يقصد القتل و لم يكن الفعل مما يوجب القتل فلذا لا قصاص هناك و إنّما يجب نصف ديته و على الحدّاد أن يؤدّي ذلك من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 407

ما له فيكون كالفرع السابق أي ما إذا أمره الحاكم بالزيادة سهوا و لذا قال في المسالك في فرعنا هذا: و لو كان الحاكم قد أمر بالاقتصار على الحدّ فزاد الحدّاد عمدا فالحكم كما سبق في تعمّده مع الأمر و أولى. وجه الأولوية أنه إذا أمر الحاكم بالزيادة سهوا إلّا أن الحدّاد قد زاد عالما بذلك كان النصف على الحداد فكون النصف عليه مع أمر الحاكم بالاقتصار لا الزيادة أولى.

و أمّا عدم كونه على

الحاكم فهو واضح حيث إنّه قد أمر بالاقتصار.

فيما أمر بالاقتصار و زاد الحدّاد سهوا

قال المحقق: و لو زاد سهوا فالدية على عاقلته و فيه احتمال آخر.

و في المسالك بشرح هذا الكلام: و هو يحتمل إرادة مجموع الدية نظرا إلى أنه قتل عدوان و إن حصل من فعله تعالى و عدوان الضارب فيجب الضمان كلّه على العادي كما لو ضرب مريضا مشرفا على التلف و ألقى حجرا في سفينة موقرة فغرقها.

ثم قال: و استناد موته إلى الزيادة و لا يسقط بسبب الضرب السائغ شي ء لكن لا يوافق السابق.

أقول: وجه عدم المساعدة مع السابق ما قد تقدم من أنه مع إقدام الحدّاد على الزيادة عمدا عند أمر الحاكم بالاقتصار قد حكم بالنصف فكيف يحكم هنا بالتمام و الدّية الكاملة، و هل يكون السهو موجبا لمزيد الدية بالنسبة إلى العمد؟

فلو كان الميزان في الدية هو الجزء الأخير فيلزم اتّحاد الحكم في الفرضين.

و ما ذكره رحمه اللّه من أنه يحتمل إرادة مجموع الدية إلخ. ففيه إنّه نعم يحتمل ذلك فإنّه ليس بمحال إلّا أن هذا الاحتمال خلاف الظاهر و لا ينبغي نسبته إلى المحقق. و أمّا التشبيه بقتل المريض و إلقاء الحجر في السفينة ففيه وضوح الفرق بينهما، و ذلك لأن القتل في مثال المريض مستند إلى خصوص الضرب عرفا لا إلى ضرب العادي و إلى فعل اللّه تعالى، و هكذا بالنسبة لمثال السفينة و هذا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 408

بخلاف ضربه زائدا على الحدّ اللازم فإنّ القتل مستند إلى سببين أحدهما سائغ و الآخر ممنوع.

ثم قال قدس سره في قبال الاحتمال المزبور: و أن يريد به الدية اللازمة عن الزيادة و هي النصف لموته بالسببين و هذا هو المطابق

لما سلف و به صرّح في التحرير.

و في الجواهر بعد ذكر إمكان الفرق بين المقام و بين مثال ضرب المريض، بما ذكرناه، قال: فالمتّجه حينئذ النصف لاستناد الموت إلى سببين سائغ و هو الحدّ، و غيره و هو الزيادة من غير اعتبار تعدد شي ء منهما كما صرّح به في محكيّ السرائر لأن القود و الدية على عدد الجانين لا الجنايات.

و هنا قد تعرّض لفرع لم يتعرّض له في الشرائع فقال: و عليه إن حصلت زيادتان إحداهما من الحاكم عمدا أو سهوا و الأخرى من الحدّاد انقسمت الدية أثلاثا و يسقط ثلثها بإزاء الحدّ.

أقول: و على هذا فقد انتسب موته إلى ثلاثة عوامل: سائغ و زيادة من الحاكم و زيادة أخرى من الحدّاد فتقسم الدية أثلاثا.

قال: و ربّما احتمل التنصيف و إسقاط النصف ثم تنصيف الباقي بين الحاكم و الحدّاد.

أقول: فعلى الأوّل كان على كلّ واحد منهما ثلث أصل الدية بخلافه على الثاني فإنّه يلزم كلّ واحد منهما ربعها.

و كيف كان فلا يخفى أنه يصحّ ذلك مع جهل الحدّاد بالزيادة التي أمر بها الحاكم و إلّا فلو كان عالما فالظاهر أن الثلثين أو الربعين كلّها عليه لأنه مباشر في ذلك عالما أمّا مع تخيّله أن الذي أمره الحاكم به هو حدّ الشارب فهناك يتمّ التوزيع تنصيفا أو تثليثا.

ثم إنّ المحقق بعد ذكر كون الدية على عاقلته قال فيه احتمال آخر.

فقال في المسالك: و الاحتمال الآخر الذي أشار إليه المصنّف يحتمل أن يريد به

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 409

توزيع الدية على الأسواط الزائدة و الواقعة في الحدّ فيسقط منها بحساب الحدّ لأن السبب مركّب من المجموع.

أقول: و على هذا الاحتمال يدور الأمر مدار

الأسواط أصليّا و زائدا فربّما يكون الزائد ثلثا فيجب على الحدّاد ثلث الدية و ربّما يكون نصفا فنصف و هكذا.

و التحقيق أنه يمكن أن يكون المراد منه تقسيط الدية على الأسواط الواقعة في الحدّ، و الزائدة فيسقط من الدية بحساب الحدّ السائغ أي ما قابله فلو زاد على الثمانين واحدة مثلا فمات فهنا يوزّع الدية على واحد و ثمانين و حيث إنّ ثمانين منها كانت جائزة فلذا لا يلزمه إلّا جزء من أحد و ثمانين جزء من الدية كما في الجواهر.

و يمكن أن يكون المراد من احتمال آخر كون نصف الدية على نفسه لا على عاقلته لأنه قاصد للفعل و إنّما أخطأ في قصد القتل فهو شبه العمد. و على هذا فالاحتمال الثاني هو كون الدية على نفسه في قبال كونها على عاقلته.

و هنا بيان آخر و هو أن يكون المراد من الاحتمال الآخر هو تمام الدية إن كان المراد بها في قوله: فالدية على عاقلته، نصفها، أو أن المراد منه نصف الدية إن كان المراد بها أوّلا تمامها.

ثم إنّ ما ذكر من التوزيع على حسب الأسواط ليس بتامّ و ذلك لأن أثر الأسواط الأواخر أشدّ من أثر الأسواط الأوائل و ليس أثر الأسواط على حدّ سواء حتى يقال بتوزيع الدية على حسب الأسواط.

و قال العلّامة أعلى اللّه مقامه في التحرير: و لو أمر الحاكم بضرب المحدود زيادة على الحدّ فمات فإن كان الحدّاد جاهلا فعلى الحاكم نصف الدية في ماله لأنه شبيه العمد و إن كان سهوا فالنصف على بيت المال. فهو قدس سره لم يحتمل التوزيع أصلا بل صرّح بالتنصيف و جعل الملاك هو الجاني لا الجناية، و الظاهر أنه لم يكن ذلك

لعثوره على رواية في ذلك بل للانتساب العرفي.

ثم قال: و لو كان الحدّاد عالما فعليه القصاص لأنه مباشر للإتلاف، و لو أمره

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 410

الحاكم بالاقتصار على الحدّ فزاد الحدّاد عمدا اقتصّ منه و إن زاد سهوا فالنصف على عاقلته سواء غلط في حساب الأسواط أولا انتهى.

أقول: و ما ذكره من الاقتصاص من الحدّاد إذا زاد عمدا مع أمر الحاكم بالاقتصار، يمكن أن يكون المراد الاقتصاص مع دفع نصف الدية إليه إذا كان قد تعمّد قتله و ذلك لأنه مع قصد القتل يحصل المجوّز إلّا أنه لمّا كان قسم من هذه الضربات سائغا من باب الحدّ فلذا يدفع إليه عند الاقتصاص النصف من الدية.

و الحقّ أن يقال: إنّه تارة يضرب من الأول قاصدا للقتل، و أخرى يبدو له ذلك بعد تمام الحدّ فبعد ذلك زاد بقصد القتل، و ما ذكر من دفع نصف الدية إلى الحدّاد يتمّ في الثاني دون الأوّل، و ذلك لأنه إذا كان من بدء الأمر قاصدا للقتل فهو ليس بحدّ من أوّل الأمر لأنه لم يكن شي ء من الأسواط سائغا و الحدّ يحتاج إلى قصد القربة فيبقى أنه قد ضربه إلى أن قتله متعمّدا فيقتصّ منه بلا حاجة إلى دفع شي ء إليه.

ثم إنّه لو لم يحصل الجزم بالتنصيف في الدية أو توزيعها على حسب الأسواط و شكّ في ذلك فيمكن أن يقال بدفع ما كان مقطوعا به على كلا القولين ففي مثال الواحد و الثمانين يدفع جزء من الدية نسبته إليها نسبة الواحد إلى واحد و ثمانين، فيكون الشك في الزائد و يدفع بالبراءة إن لم نقل بأن المقام من باب الاحتياط لا البراءة.

ثم إنّ

حاصل الكلام أنه مع قصد القتل يجري القصاص سواء كان من الحاكم أو الحدّاد غاية الأمر أنه إذا أراد الوليّ القصاص فعليه دفع نصف الدية إلى الأولياء و كذلك لو لم يقصد القتل بل قصد الفعل لكن كان الفعل بحسب الحال مفضيا إلى موته فإنّه كالضرب بآلة تقتل عادة و إن لم ينو الضارب القتل، و ذلك لأن الضرب بها ملازم لقصد القتل و إن لم يكن ناويا له مستقيما و الملاك في القتل العمدي هو أحد هذين الأمرين.

و أمّا لو لم يكن من هذين القبيلين بل كان من باب قصد الفعل غضبا فانجرّ إلى

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 411

قتله فهنا تكون الدية على نفسه، و لو كان لمجرّد خطأ الحاكم فعلى بيت المال.

كما أنه لو كان القتل مستندا إلى التغليظ السائغ مكانا أو زمانا فمع وجود المبرر ليس الحاكم ضامنا و إنّما ضمانه على بيت المال.

و قد اتّضح أنه في بعض الموارد كانت الدية على المتصدّي و المباشر و في بعضها على الحاكم باختلاف الموارد و كون السبب أقوى في بعضها و المباشر في بعضها الآخر.

و صلّى اللّه على محمّد و آله الطاهرين

قم المشرّفة- الحوزة العلميّة عليّ الكريميّ الجهرمي

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 413

صورة موجزة عن حياة المرجع الديني الأعلى للشيعة في العالم حضرة آية اللّه العظمى السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني قدس سره

اشارة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 414

صورة موجزة عن حياة المرجع الديني الأعلى للشيعة في العالم حضرة آية اللّه العظمى السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني قدس سره 1316- 1414 ه بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه و الصلاة و السلام على رسول اللّه و على آله آل اللّه.

و بعد: لما كثر الإلحاح من مختلف البلاد في ترجمة أحوال الزعيم

الأكبر و المرجع الديني الأعلى آية اللّه العظمى الإمام الگلپايگاني قدس سره و كان بعض المراجعين في ذلك مستعجلين فلذا نقدّم ترجمة موجزة من شخصيته اللامعة و إلّا فالإحاطة على أبعاد حياة هذا المرجع العظيم المختلفة تحتاج إلى سفر كبير فنقول:

اسمه و كنيته:

هو السيد محمد رضا الملقب على لسان أبيه الكريم ب (هبة اللّه) المكنى كذلك ب (أبي الحسن) المشتهر في العالم الإسلامي ب (الگلپايگاني).

مولده: ولد سيّدنا المرجع الأكبر في (گوگد) و كانت آنذاك قرية على رأس فرسخ من گلپايگان، و لكنّها اليوم بلدة من البلدان، و كانت ولادته في يوم الاثنين ثامن شهر ذي القعدة الحرام سنة (1316) ستة عشر و ثلاثمأة بعد الالف من الهجرة المباركة، و على مهاجرها آلاف السلام و التحيّة.

وجه تسميته:

ذكرنا أن اسمه الشريف (محمد رضا) و نضيف انّ ذلك يرمز إلى شيئين

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 415

أحدهما: انّه قدس سره بنفسه كان عطيّة من اللّه تعالى لوالده على كبر سنه ببركة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام استجابة لزيارة والده لحرمة صلوات اللّه عليه، و توسلاته به، حيث لم يولد له صبي و كان له عدّة بنات فتوسّل بالإمام الرضا عليه السلام و تضرع إلى اللّه في أن يعطيه ولدا ذكرا صالحا فاستجاب اللّه دعاءه و أعطاه هذا الولد السعيد الذي صار مرجعا مباركا للشيعة في العالم.

ثانيهما: مقارنة يوم ولادته أيام ولادة ثامن الأوصياء و الحجج الإمام الرضا عليه السلام، فان ولادته صلوات اللّه عليه في حادي عشر من ذي القعدة.

نسبه الطاهر:

إن سيدنا الگلپايگاني قدس سره، ينتهي نسبه الشريف إلى الإمام الهمام باب الجوائج إلى اللّه أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم صلوات اللّه و سلامه عليه.

والده الكريم:

والد المرجع الكبير، العالم الجليل العابد الزاهد، حجّة الإسلام السيّد محمد باقر الموسوي الگلپايگاني، و قد اشتهر في حياته عند أهل بلده بلقب (إمام) لكثرة صلاحه و طهارة نفسه و مكارم أخلاقه و اجتهاده في العبادات و اهتمامه بأمر الدين.

كان رضوان اللّه عليه دائم الذكر تاليا لآيات القرآن ليلا و نهارا، و كان يداوم على قراءة سورة التوحيد (قل هو اللّه أحد) و قد رأوه يقرأ القرآن و سورة التوحيد حتى عند ما كان مضطجعا.

و من خصوصياته و مزاياه رحمه اللّه أنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، متصلبا في ذات اللّه تعالى و من الذين لا يخافون في اللّه تعالى لومة لائم.

و كان له حبّ عميق و صلة خاصة بالأئمة الطاهرين خصوصا الإمام الشهيد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 416

أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام، و قد أوصى أن يدفن جثمانه في جانب المقبرة ليكون قريبا من طريق يمر منه الزوار القاصدون إلى كربلاء كي يقع غبار قافلة زوّار الحسين عليه السلام على قبره، و قد عمل بوصيّته و دفن هناك.

عناية اللّه تعالى به:

من الأمور التي لا يعتريها شك أن والد سيدنا المرجع كان ممن شملته الرحمة الإلهية الخاصة، فقد وهبه اللّه هذا الولد السعيد في الرابعة و الستين من عمره و قد اشتعل رأسه شيبا.

و من مظاهر لطف اللّه و رحمته به استجابة دعائه بالنسبة إلى مستقبل ولده العزيز، فإنه بعد ما أرّخ ولادته في ظهر الصحيفة السجادية الخطيّة، دعا له بتلك الأدعية الطيبة:

اللّهم طوّل عمره، و وسع في رزقه و اجعله من العلماء العاملين، بفضلك و كرمك يا ارحم الراحمين.

وليته كان يرى كيف استجاب اللّه دعاءه و صار ابنه سيد العلماء

العاملين و أستاذ الفقهاء و المجتهدين. و لعلّه يرى من أفق الآخرة ابنه المرجع و قد أصبح زعيما دينيا تخفق له قلوب أهل الإيمان.

والدته الكريمة:

والدة سيدنا المرجع، المرأة الصالحة الزاهدة المساة (هاجر) و كفى في جلالة قدرها و فضلها أنها أنجبت ولدا فقيها و مرجعا عالميا:

الأمّ مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيّب الأعراق

و لها قضية تشبه قصة أصحاب الكهف المذكورة في القرآن يطول بذكرها الكلام.

فقدان والديه:

فقد المرجع الكبير الگلپايگاني والديه صغيرا، فقد ماتت أمّه و هو في الثالثة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 417

من عمره و كان ذلك في سنة 1319 ه- فكان في ظل رعاية والده الشريف، لكن قدّر اللّه تعالى أن لا يدوم ظلّ والده الكريم فقد مات عند ما كان ولده في التاسعة من عمره و ذلك في سنة 1325 ه. أجل لقد فقد ظلّ الوالدين لكنه لم يفقد ظلّ اللّه ربّ العالمين، قال اللّه تعالى أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ، وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدىٰ، وَ وَجَدَكَ عٰائِلًا فَأَغْنىٰ.

شروعه في التحصيل:

نشأ في بيئة دينية و كان هو في أعماق قلبه محبا للعلم و الفضل، فشرع في حياة أبيه في تعلم القرآن و كتاب نصاب الصبيان و كتاب حياة القلوب للعلامة المجلسي قدس سره، و لما كان عاشقا للعلم لم يمنعه موت والده عن هدفه الأسنى، فشرع في العلوم العربية و المعارف الإسلامية عند علماء بلده گلپايگان، و كان أساتذته يحسّون منه مستقبلا مضيئا و ذلك لما يرون منه من الذكاء القوي و الحفظ البالغ و المواظبة المستمرة على التحصيل، و قد سافر في خلال تلك الأعوام إلى (خوانسار) و هي بلدة قريبة من گلپايگان في طلب ضالته و بقي هناك في المدرسة العلميّة و قد بلغ سن المكلفين في خوانسار، و بعد أشهر رجع إلى موطنه إلى أن بلغه نبأ ورود آية اللّه العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري إلى (سلطان آباد أراك) و تشكيله الحوزة العلميّة هناك فعزم على المهاجرة إليها مع عدم مساعدة الظروف و الأحوال فهاجر و لسان حاله: إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين. و لمّا ورد مدينة أراك وجد من العلم هناك ما

يطلبه و يعشقه و حصل بينه و بين الشيخ الحائري كمال الألفة و الأنس، و لمّا بلغ ما يقرب من التاسعة عشرة من عمره حضر مجلس درس الحائري حضور تفهم و تحقيق و جدّ و تدقيق، و داوم على ذلك إلى منتهى أيام إقامة شيخه الحائري في أراك.

مهاجرته إلى قم:

ثم إنّ شيخه آية اللّه العظمى الحائري قدس سره هاجر إلى قم بدعوة علمائها

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 418

الأعلام، و كان ذلك في سنة 1340 من الهجرة، و بقي السيد الگلپايگاني في أراك.

و لما كان الشيخ الحائري قد أحسّ من تلميذه الشاب لياقة و كفاية و براعة و توفّر المواهب و القابليّات و الذكاء القوي و العشق لطب العلم، لذا أرسل إليه كتابا مليئا بالحنان و اللطف، و دعاه إليه و طلب منه أن يترك أراك و يهاجر إلى قم، فلبى سيدنا المرجع دعوة أستاذه الحائري الكبير و هاجر إلى قم و إلى مجلس درس شيخه المعتمد و أستاذه المحبوب، و اشتغل مجدّا في المدرسة الفيضيّة، و كان لا يفتر عن الدرس و التدريس و المطالعة و الكتابة.

جدّه البالغ:

مما يبعث العجب هو اهتمام السيد المرجع في تحصيل العلم و طلب الكمال و المعارف.

فقد حكى دام ظلّه لنا: أني قد مرضت في يوم من الأيام مرضا شديدا و غلبت عليّ الحمّى، و قد حضر وقت الدرس و حضر شيخنا الحائري و صعد المنبر للتدريس فكلّما أردت أن أقوم و أحضر مجلس درسه لم أتمكن من ذلك، فطلبت من زملائي أن يحملوني مع فراشي و لحافي إلى محلّ الدرس و قد صنعوا ذلك، و لكن رعاية للأدب بالنسبة إلى شيخي و أستاذي طلبت منهم أن يحملوني إلى ناحية ظهر المنبر!؟.

موقفه من مجلس درس أستاذه:

ثم إنّه بمرور الأيام و بجدّة الخاص تكونت له ملكة علمية و برز من بين أقرانه.

ففي حين أن مجلس درس الحائري الكبير كان مشحونا بالأفاضل الأعلام و المجتهدين الكرام، كان السيد المرجع قدس اللّه روحه ممن يستشكل على الأستاذ و يورد عليه ما بدا له من الأفكار، و يبدي مطالبه في جنب تحقيقات شيخه في ذاك الحفل العظيم، و كان أستاده يستمع إليه و يعتني بشأنه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 419

أساتيذه و مشايخه العظام:

كانت عمدة استفادته من شيخه الحائري قدس اللّه سرهما، إلا أنه حضر على جماعة من الأساتذة و الأساطين و استفاد منهم أيضا و إليك أسماؤهم:

1- العالم الكبير حضرة السيد محمد حسن الخوانساري المتوفى سنة 1337 ه- عن نيّف و أربعين سنة، المدفون في أراك.

2- العالم الجليل الشيخ ميرزا محمّد باقر الگلپايگاني المتولد في گلپايگان، و المدفون بقم في مقبرة نو و قد توفي رضوان اللّه عليه عام 1352 ه.

3- آية اللّه الآخوند ملا محمد تقي الگوگدي الگلپايگاني الذي هو من أعاظم تلامذة المحقق الخراساني، قال المحقق الجليل الشيخ محمد باقر الشريف زاده رحمة اللّه عليه- ابن أخت الإمام الگلپايگاني- في شأن هذا العالم الكبير في مقدمة آيات الأحكام للأسترابادي ص 3: العالم الالمعي و الفاضل اليلمعي و العلّامة الجليل القدر المرحوم المبرور آية اللّه الآخوند ملا محمد تقي الگوگدي الذي كان من أعاظم تلامذة الخراساني أعلى اللّه مقامه يعرف كل من تتلمذ على المحقق المذكور مقامه النبيل في العلم و العمل و الزهد و التقوى.

و قد هاجر في أواخر عمره من گلپايگان إلى أراك و استوطن فيها و لما توفي سنة 1313 الشمسّية نقل جسده الشريف إلى قم المقدسة و دفن

بها في مقبرة نو.

4- المحقق الكبير الميرزا محمد حسين النائيني أعلى اللّه مقامه، و قد حضر مجلس درسه عند ما ورد مع عدّة من الأعلام من النجف إلى إيران لحادثة سياسية، و كانت مدة تلمذه عليه نحو ثمانية أشهر.

و قد حكى دام ظله لنا مرّة أن بحثه في تلك الأيام كان حول قاعدة (على اليد).

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 420

5- المحقق العظيم الشيخ محمد حسين الأصفهاني قدس سره المتولّد سنة 1277 ه- بنائين المتوفّى في 26 من جمادى الآخرة عام 1355 ه- في النجف المدفون فيها، و قد حضر مجلس درسه ما يقرب من ثلاثة أشهر عند وروده قدس سره من النجف إلى قم في تلك الحادثة المشار إليها.

6- المحقق الشهير الآقا الشيخ ضياء الدين العراقي قدس سره، و ذلك عند ما سافر سيدنا المرجع إلى النجف الأشرف للزيارة و بقي هناك مدة أشهر، و كان يحضر مجلس درسه، بل و كان يشكل عليه في درسه، و كان المحقق العراقي لما عرف مقامه العلمي السامي يحبه و يعظّمه، و قد جرت بينهما قضية لطيفة لا يسعها المقام.

7- العالم العلم الشهير حضرة الشيخ محمد رضا مسجد شاهي النجفي رضوان اللّه عليه، المتولد في المحرّم سنة 1287 ه- و المتوفى، في المحرّم سنة 1362 ه- المدفون بمقبرة تخت فولاد بأصفهان، و قد حضر عنده عند ما سافر قدس سره إلى قم.

8- آية اللّه العظمى حضرة السيد أبو الحسن الأصفهاني نور اللّه مرقده، المتولد في 1284 ه- المتوفى في تاسع ذي الحجة سنة 1365 في الكاظمية، المدفون في النجف، و قد استفاد منه كثيرا في النجف في سفر زيارته، و وقعت بينهما مباحثة علمية في

بيت آية اللّه العظمى السيد جمال الدين الگلپايگاني من أعلام النجف الأشرف، و صارت له بسببها مكانة خاصة عند السيد الأصفهاني قدس اللّه سرهما، و قال في شأنه على ما حكاه بعض الأعلام: أنه من النوابغ.

9- آية اللّه العظمى حضرة السيد آقا حسين الطباطبائي البروجردي قدس اللّه نفسه و قد حضر عنده و استفاد منه في أوائل وروده قدس سره بمدينة قم.

و كان الإمام البروجردي يحترمه كثيرا، و قد حكى لي بعض الفقهاء أن السيد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 421

البروجردي قد تعرض يوما لبيان إشكال في مجلس درسه و قرره ثم صرّح بأن هذا الاشكال من السيّد الگلپايگاني.

10- آية اللّه العظمى مؤسس الحوزة العلمية بقم حضرة الشيخ عبد الكريم الحائري أعلى اللّه مقامه المتولّد في يزيد و المتوفى سنة 1355 ه- في قم و قد دفن جثمانه بقرب مضجع كريمة أهل البيت فاطمة (المعصومة) سلام اللّه عليها.

و كان السيد المرجع قد حضر عنده كثيرا فلم ينقطع حضوره لديه من يوم حضر عليه في أراك إلى أن وافاه الأجل و صار إلى رحمة اللّه تعالى في قم، ما يقرب من اثنين و عشرين سنة متوالية. هذا بالإضافة إلى أنه كان من تلاميذه الخاصين، و من هيئة استفتائه.

مقامه العلمي الرفيع:

مما اشتهر به السيد المرجع الإمام الگلپايگاني قدس اللّه نفسه الزكية، علميّته الرفيعة و فقاهته السامية و دقّة نظره حتى صار لقب (فقيه أهل البيت عليهم السلام) كأنه لقب خاص به. و قد حكى لنا أن الفقيه الجليل المرجع عند أهل تبريز الميرزا رضي التبريزي رضوان اللّه عليه قال: إنّ فقه زرارة عند السيد الگلپايگاني.

تدريسه و بحوثه:

مما له اثر خاص في تصوير شخصية الإمام الگلپايگاني علميا و اجتماعيا مباشرته لأمر التدريس، فكان من أوائل أمره مدرّسا يتعلم عنده الطلاب و المشتغلون، و هذه مجلة همايون التي كانت تنتشر في عصر آية اللّه العظمى الحائري نشرت بحثا تحت عنوان (الروحانية في إيران) و عند البحث عن مدرّسي الحوزة العلمية ذكرت أسامي اثني عشر من رجالات العلم الذين تدور عليهم رحى التدريس، أو لهم مؤسس الحوزة الشيخ عبد الكريم الحائري قدس

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 422

سره و هكذا عدّتهم و ذكرت منهم السيد المرجع قدس سره.

كما ذكر صاحب كتاب (آئينۀ دانشوران) مشاهير المدرسين في عصر الحائري قدس سره و ذكر السيد المرجع منهم. و تعرض أيضا في مطاوي هذا الكتاب لترجمة عدة كثيرة من الفضلاء و المحصلين في عصر المؤسس الحائري و ذكر في عدد منهم أنه من تلاميذ السيد الگلپايگاني، أو أنه تتلمذ عنده.

و قد ذكر لي السيد بنفسه قدس سره في بعض المناسبات أنه في أوائل أمره و حينما كان يدّرس السطح العالي كان يدّرس في كلّ يوم خمسة دروس أو أكثر.

و لما ارتحل الإمام البروجردي كان مجلس درس سيدنا الگلپايگاني أكبر درس في الحوزة، يحضر فيه ما يقرب من ألف أو أكثر من العلماء و الفضلاء في المسجد الأعظم بقم.

و قد

منحه اللّه تعالى التوفيق للتدريس على مستوى الخارج العالي ما يقرب من ستين سنة. كما يظهر ذلك من حاشيته على درر الأصول فراجع.

جدّه في تربية العلماء و المجتهدين:

كان له اهتمام بالغ في تربية الطلاب و المشتغلين و العلماء و المجتهدين، و من جملة الطرق التي كان يستعملها لتحقيق هذا الهدف أنه في بعض المسائل المشكلة كان يطلب من الفضلاء الحاضرين في درسه أن يتفحّصوا عن مدارك المسألة و الأقوال فيها، و يطلب منهم التحقيق و التنقيب حولها و إظهار ما يقوى عندهم فيها.

و عندي رسائل و مكتوبات مختصرة حول بعض المسائل من أفاضل تلاميذه، صنفوا تلك الرسائل بأمره و تحت رعايته و إرشاده و قدموها إليه، و من جملتها رسالة من تلميذه المعروف العالم الجليل الشهيد الشيخ عليّ القدّوسي النهاوندي رضوان اللّه عليه، حول المرأة المضطربة من حيث الدم و ذكر في ختام تلك الرسالة الشريفة ما يعجبني نقله و يستفيد منه القارئ المحترم. قال:

(و نشكر الأستاد أدام اللّه ظله الوارف على ابتكار هذا الطريق للتشويق

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 423

و للتربية. و هذا الطريق اولى و أحسن بمراتب مما اتّخذه سائر الأساتيد و المراجع أدام اللّه ظلّهم، و رحم اللّه الماضين منهم من أخذ الجزوات و الامتحانات التي لم تخل من الإشكال و الشبهة. و نرجو من اللّه تعالى و نتمسّك بأوليائه عليهم السلام أوّلا بطول عمره الشريف و عزّته و توفيقه. و نسئل من الأستاذ مدّ ظله ثانيا إدامة هذا الطريق و تعقيبه و تشويق من يرجو ارتقائه إلى المدارج العالية، لأن الفقه و الفقاهة في الحوزة المقدسة في أعلى مراتب السقوط، و قبله التقوى و الورع، و الأمر

خارج عن أيدي أمثالنا، فالقول بوجوب اتخاذ رأي جدّي سريع و عزم راسخ قويّ لا يمنعه الموانع و الفلتات لحفظ هاتين العظيمتين أعني الفقه و التقوى، و تربية الأفراد بهما قويّ جدّا على أمثال سيدنا الأستاد أدام اللّه تعالى ظلّه. و لا حثّنا على ارتكاب هذه الجسارة و الجرأة الّا وظيفة شرعيّة حصلت مما نرى في الحوزة المقدسة من سقوط هاتين العظيمتين، و نرجو من الأستاد دام ظله العفو و نسأل منه الدعاء، و السؤال من اللّه و من وليّه عجّل اللّه تعالى فرجه لتوفيق الجميع. 28 رجب 85).

كتبه العلميّة و الفتوائية:

لسيدنا المرجع الراحل رسائل عملية يرجع إليها المقلدون بعد السيد البروجردي قدس سرهما، و له كتب و تقريرات علميّة في متناول أيدي العلماء و المجتهدين و إليك ما نعرف منها:

1- منتخب الأحكام و قد طبع هذا الكتاب في أوائل مرجعيته بالفارسية.

2- مختصر الأحكام و هو كتاب مشتمل على أبواب الفقه بصورة إجمالية و كان أول رسالة عملية صدرت منه مشتملة على آرائه و فتاواه و كانت أوّلا بالفارسية ثم ترجمت بالعربية و الاردوية و الانگليزية و غيرها من الألسن.

3- حاشية توضيح المسائل، و هي تعليقات فارسية على توضيح المسائل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 424

للإمام البروجردي.

4- توضيح المسائل، و هي رسالة جامعة لشتات الأبواب الفقهية بالفارسية 5- مجمع المسائل، و هو كتاب حاو للاستفتاآت الواردة عليه من أرجاء العالم الإسلامي، و قد طبع في ثلاث مجلّدات مرارا و هي مشتملة على أبواب الفقه من التقليد الى الحدود و الديات و كانت بالفارسية و قد ترجمت في بيروت إلى العربيّة بشكل بهيج.

6- مناسك حج بالفارسية 7- مسائل الحج و هي ملخّص ما أفاده في

مجلس درسه 8- دليل الحاج، و هذا هو دليل الحاج للمرجع الراحل الكبير السيد الحكيم قدس سره و قد أدرجت فتاوى الإمام الگلپايگاني فيه، و لا يخفى ان هاتين الرسالتين قد طبعتا تحت عنوان مناسك الحج.

9- مناسك الحج. و هي رسالة في موضوع الحج عربية مختصرة.

10- حول مسائل الحج. و هي رسالة مشتملة على أسئلة حول الحج و أجوبتها كانت فارسية ثم ترجمت إلى العربية و لها مقدّمة بقلم هذا العبد.

11- أحكام نماز خوف و مطاردة، و هي رسالة فارسية حول صلاة الغازين و المجاهدين في الحرب، طبعت مستقلة بالفارسية.

12- رسالة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و المسائل الإسلامية الاجتماعية. و هي رسالة فارسية طبعت مرارا في آخر مجمع المسائل ج 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 425

13- احكامي از حج، رسالة فارسية حول مسائل خصوص الحج طبعت مستقلة 14- أحكام عمره هي رسالة فارسية حول خصوص العمرة مطبوعة مع المناسك الفارسي.

15- رسالة في صلاة الجمعة و العيدين، و هي عربية، طبعت مرارا و هذه الرسالة مشتملة على فروع كثيرة حول هاتين الصلاتين.

16- رسالة حول المحرمات بالنسب، مختصرة عربيّة.

17- رسالة مختصرة حول عدم تحريف القرآن، و هي مطبوعة عربيّة.

18- إفاضة العوائد، في التعليق على درر الفوائد، و هي مباحث هامّة أصولية ألّفها في عصر أستاذه الحائري تعليقا على كتابه عند ما كان يلقي دراساته الأصولية على متن درر الأصول، و قد طبع هذا الكتاب الشريف الذي تم تأليفه قبل ما يقرب من ستين سنة طبع أخيرا في مجلدين بعد أن كان مخطوطا بخطه الشريف.

19- تعليقاته على العروة الوثقى للسيد الفقيه الطباطبائي اليزدي قدس سره و هي تعليقات أنيقة قد طبعت مرآت عديدة

مستقلة أو مع المتن، و هذه التعليقات مشتملة في بعض مواردها على الاستدلال فهي من التعليقات المشتملة على التحقيقات العلميّة التي ينتفع بها العلماء و الفضلاء، و سمعت أنه لما أرسلت نسخة منها إلى النجف رغب فيها الفضلاء و الأعلام و طلبوا إرسال نسخ أخرى و قد طبعت هذه التعليقات في عصر الفقيه البروجردي أعلى اللّه مقامه.

20- تعليقاته على وسيلة النجاة، لآية اللّه العظمى السيد أبو الحسن

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 426

الأصفهاني رضوان اللّه عليه، و قد طبعت مع المتن في بيروت في مجلّدين و في إيران في ثلاث مجلّدات.

21- تعليقاته على قضاء السيد الطباطبائي اليزدي، و قد ألفها حينما كان مشتغلا بتدريس أبحاث القضاء، لكن هذه غير مطبوعة.

22- كتاب تفصيلي حول صلاة الجمعة، على ما صرّح بذلك في رسالته في صلاة الجمعة المطبوعة.

23- الهداية إلى من له الولاية، و هي تقرير أبحاثه العالية حول ولاية الفقيه و سائر من له الولاية، فقد بحث دام ظله عن ولاية الفقيه من قبل هذا بما يزيد على أربعين سنة، و قد طبعت هذه الرسالة سنة 1383 ه- و هي بقلم العلامة الحجة جناب الحاج الشيخ أحمد الصابري الهمداني دام عزّه.

24- كتاب الحج، و هو تقرير أبحاثه العالية حول الحج هو بقلم المقرر المذكور دام عزه، و قد طبع منه المجلد الأوّل و الثاني، كما و ان المجلد الثالث تحت الطبع الآن.

25- بلغة الطالب، و هي تعليقات على البيع من مكاسب علم العلم و التقى الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره، و هذا الكتاب تقرير محصّل أبحاث الإمام الگلپايگاني قدس سره حينما كان مشتغلا بالبحث في المتاجر. و هو بقلم العلامة الحجة جناب الآقا السيد

علي الميلاني دام عزّه. و هو قد طبع في سنة 1399 ه.

26- كتاب القضاء، و هو تقرير أبحاثه العالية حول أمر القضاء بقلم المقرّر المذكور دام عزّه. و قد طبع هذا الكتاب في مجلّدين يستفيد منه العلماء.

27- كتاب الشهادات، و هو تقرير أبحاثه الشريفة حول شهادة الشهود بقلم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 427

المقرر المذكور دام توفيقه و طبع قبل سنوات.

28- كتاب الطهارة، و هذا الكتاب تقرير أبحاثه العالية حول الطهارة و النجاسة بقلم العلامة الحجة جناب الشيخ محمد هادي المقدس النجفي دام عزه و قد طبع في سنة 1402 ه.

29- كتاب القضاء، تقرير أبحاثه دام ظله في القضاء، بقلم المقرر المذكور و هذا الكتاب الآن في قيد الطبع.

30- مباحث من الحج، و أحكام العمرة بقلم الفاضل الحجة الشيخ محمد علي الشاهرودي دام عزّه و هي الآن تحت الطبع.

31- الدّرّ المنضود في أحكام الحدود تقرير أبحاثه العالية حول الحدود، بقلم هذا العبد (عليّ الكريمي الجهرمي) و قد طبع المجلّد الأوّل منه في السنة 1412 ه- في خمس مأة صفحة، و سيرد المجلّد الثاني منه محافل العلماء إن شاء اللّه تعالى و نسأل اللّه التوفيق في طبع سائر مجلداته.

32- نتائج الأفكار في نجاسة الكفّار، و هي تقرير أبحاثه العالية في سنة 1388 ه- في إثبات نجاسة الكفّار و أهل الكتاب بقلم هذا العبد أيضا، و قد طبع هذا الكتاب قبل سنتين من هذا أي عزّة محرّم الحرام عام 1413 ه. كما و أن لي كتب عديدة في تقريرات أبحاث الإمام الگلپايگاني لم تطبع بعد.

منها مناهل الحياة في أحكام الأموات.

و منها مناهل الظماء في أحكام القضاء.

و منها جوهرة السعادة في أحكام العدالة.

و منها نفائس

الإشارات في أحكام الشهادات.

و لي كتاب آخر باسم (المرجع و المراجعون) مشتمل على اسئلة و ردت على

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 428

سيدنا الأستاذ المرجع قدس سره بالعربية و ردودها لم يطبع أيضا.

33- أحكام أموات و هي رسالة فارسية حول شتات الأحكام المتعلقة بالأموات كلها على حسب فتاوي الإمام الگلپايگاني و قد جمعها بعض أهل العلم و طبع هذا الكتاب أخيرا.

34- هداية العباد و هي مجموعة فتاواه في أبواب العبادات و المعاملات، باللغة العربية، في مجلدين.

35- إرشاد السائل و هي مجموعة لطيفة من الاستفتاءات الواردة عليه من الممالك العربية و قد طبعت ببيروت.

36- آداب و أحكام حجّ.

37- بالفارسية ولي مقدّمة عليها. واجبات حجّ بالفارسية أيضا.

38- أحكام النساء و هي رسالة حول الدماء الثلاثة و دروس في مسائل النساء بشكل مبسّط و واضح بقلم الشيخ أكرم بركات طبعت في بيروت قال في مقدّمته: و كنت القي الدروس على رأي المرجعين الكبيرين آية اللّه العظمى الإمام الخميني قدس سره و آية اللّه العظمى السيد الگلپايگاني دام ظله.

و قد عرضت هذه الفتاوى على رأي المرجعين الكبيرين على أساس انّهما أكثر المراجع تقليدا في هذا الوقت و قد أشرت في هذا الكرّاس الى مواطن الاختلاف بين المرجعين الكبيرين ان كان هناك اختلاف انتهى.

39- قسم من بياناته و مراسلاته و برقياته 40- حواشيه على بعض الكتب و هي غير مطبوعة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 429

41- رسالة الاجتهاد و التقليد، و هي لم تطبع بعد و لها قضيّة طويلة لا يسع المقام ذكرها.

42- مباحث الطهارة غير منقحة.

43- مباحث القضاء غير منقحة.

44- مباحث الشهادات غير منقحة.

45- مباحث الحدود غير منقحة.

تلاميذه:

و مما منّ اللّه تعالى على

سيدنا المرجع الأعلى السيد الگلپايگاني قدس اللّه سره أنه قد تخرج على يديه و منهجه الفقهي العميق عدد كبير من العلماء و المجتهدين، و الفقهاء و المحققين و قد كنا نشاهد مجلس درسه في المسجد الأعظم و هو حافل بالطلاب و المشتغلين و الأفاضل و المجتهدين، و من الصعب جدا استقصاء جملتهم، و أصعب منه استقصاء من حضر لديه، و تتلمذ عنده في طول ما يزيد على سبعين سنة كان يدرس فيها سطحا أو خارجا، و لعله لا يوجد في التأريخ المعاصر من له تلك السابقة الممتدة في تدريس الفقه و الأصول التي كانت للسيد المرجع الراحل قدس سره و لا يسعنا في هذه العجالة أن نورد في هذه العجالة أسماء بعض من رأيناهم طوال سنوات في مجلس درسه أو اطلعنا على كونهم من تلامذته من أهل الاطلاع، سواء كانوا من السابقين أو اللاحقين شيوخا أو شبابا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 430

المرجع الراحل على لسان العلماء أهل القلم

لقد جاء ذكر المرجع الراحل على لسان العلماء و المصنفين و أهل القلم و المؤلفين و إليك قسما منها.

1- يقول العلامة الشيخ آغا بزرگ التهراني: هو السيد محمد رضا بن السيد محمد باقر الگلپايگاني عالم جليل و مدرّس فاضل ولد في سنة 1316 و نشأ فتعلّم المبادي و قرأ المقدّمات على بعض الفضلاء، و حضر في قم على الحجة الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري مدّة كتب فيها تقريراته و هو عمدة اساتيذه، و هو اليوم من العلماء الفضلاء في قم و من المدرّسين المشاهير بها و له آثار علميّة منها حاشية (درر الفوائد) لأستاذه المذكور فرغ منها في سنة 1356 الى غير ذلك. «1»

2- و قال المحقق الجليل و الشهيد

السعيد السيد محمد علي القاضي الطباطبائي التبريزي رضوان اللّه عليه- عند ذكر مشايخ أجازته-: منهم سيدنا و أستادنا الأعظم الفقيه و المرجع الأشهر في العالم الإسلامي السيد محمد رضا الگلپايگاني أدام اللّه ظله الوارف على رؤس المسلمين عن مشايخه الأجلّاء رؤساء الدين و الملّة قدس اللّه أرواحهم. «2»

3- و قال العالم الجليل الحاج الميرزا مهدي البروجردي رضوان اللّه عليه:

سيد العلماء العاملين و زبدة الفقهاء و المجتهدين الحاج السيد محمد رضا

______________________________

(1) نقباء البشر ج 2 ص 742.

(2) اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة ص 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 431

الگلپايگاني أدام اللّه أيام فيوضاته. «1»

4- و قال العالم الفقيه الشيخ علي پناه الاشتهاردي دامت إفاضاته: المرجع الديني المعروف بفقيه أهل البيت عليهم السلام سيد الفقهاء العاملين سماحة آية اللّه العظمى الحاج السيد محمد رضا الگلپايگاني مدّ ظلّه العالي و طوّل اللّه عمره الشريف و جعل حفظ الحوزات العلمية تحت رعايته. «2»

1- و قال العالم الناسك الجليل الشيخ محمد حسين الاعلمي الحائري رضوان اللّه عليه: محمد رضا الگلپايگاني: العالم المتبحر الفقيه التقي النقي المعاصر، في البلدة المباركة (قم) المولود سنة 1316 هاجر من مسقط رأسه بعد تكميله الأدبيّات و السطوح الى بلدة عراق العجم سنة 1335 ه- و حضر بحث شيخنا عبد الكريم الحائري أعلى اللّه مقامه و صار من اجلّة تلامذته و خواص مجلس درسه و بحثه هناك ثم انتقل إلى البلدة المباركة (قم) و اشتغل بالبحث و التدريس في الفقه و الأصول و حضر مجلس درسه جماعة من فحول حوزة قم و صار من خواصّ سيدنا البروجردي (ره) ثم صار مستقلا و مرجعا للعموم الى يومنا هذا سنة 1392 و ينبغي ان

يقال في حقه:

السيّد العلّامة المحقق و السند الفهامة المدقق

مؤسّس المباني الأصليّة ممهّد القواعد الفرعيّة

مميّز الحلال و الحرام و حافظ الحدود و الأحكام

و له آثار جليلة من المدارس و المساجد و المستشفيات في البلاد المتفرّقة إلى يومنا هذا سنة 1392 ه- و أبوه السيد محمد باقر من اجلة السادة كأجداده. «3»

______________________________

(1) برهان روشن ص 156.

(2) مجموعتان من فتاوي العلمين ص 14.

(3) دائرة المعارف ج 26 ص 268.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 432

2- و قال الفاضل الرازي: أستاذ الفضلاء المعاصرين و علّامة المتأخرين الفقيه الجامع و النبيه البارع سيدنا الأستاذ آية اللّه العظمى گلپايگاني مدّ ظله. «1»

3- و قال أيضا: سيد العلماء و المجتهدين رئيس الملّة و الدين الآقا الحاج السيد محمد رضا بن العالم الجليل الآقا السيد محمد باقر الگلپايگاني من مشاهير العلماء و مراجع العصر الأجلّاء و أكابر العلماء الإسلامي. «2»

4- و قال الفاضل الشيخ نور الدين الشاهرودي: آية اللّه العظمى الگلپايگاني: هو السيد محمد رضا بن السيد محمد باقر الگلپايگاني ولد في سنة 1316 هجرية حضر في قم على العالم المؤسّس الحجّة الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري مدّة كتب فيها تقريراته و هو عمدة أساتذته، له آثار علميّة منها حاشية (درر الفوائد) لأستاذه المذكور، و هو الآن من كبار مراجع التقليد في دنيا الشيعة و مقرّه في قم المقدّسة حيث يقوم بمهامّ مرجعيّته و وظائفه الشرعية غير انّ نشاطه التدريسي قد انحصر في الآونة الأخيرة نظرا لكهولته المتقدّمة و كان قد اشتغل بالبحث و التدريس في حوزة قم العلميّة لسنوات طويلة. «3»

______________________________

(1) گنجينۀ دانشمندان ج 2 ص 31.

(2) گنجينۀ دانشمندان ج 2 ص 31.

(3) أسره المجدّد الشيرازي ص

347.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 433

ارتحال المرجع الأعلى إلى الملاء الأعلى

ثم انه قد عرضته في أواخر عمره اختلالات في صحته و كان تحت مراقبة الأطباء الى ان عرضه في مساء يوم الاثنين 21 جمادى الثانية 1414 ه. ق ضيق التنفس و لا يزال كان يشتدّ الداء و على اثر ذلك فقد نقل المرجع الفقيه الراحل الى مستشفى الشهيد رجائي بطهران و كان لجنة من الأطباء يواظبون على حاله و بذلوا كلّ الجهود كي تتحسن حاله و تعود صحته و حيث انّه لا مفرّ عن قضاء اللّه تعالى فقد وقعت الحادثة العظمى و الثلمة العظيمة في الإسلام و ودّع الإمام الگلپايگاني هذه الدنيا الفانية و أجاب دعوة ربه الكريم مساء يوم الخميس 24 جمادى الثانية 1414 ه. ق مقارنا لغروب الشمس و عند وقت الأذان و كأنّه كان ينتظر وقت المغرب من ليلة الجمعة و غربت شمس سماء الفقاهة و المرجعية بعد ان كان يضي ء العالم الإسلامي طول أعوام طويلة كثيرة فانا للّه و انا إليه راجعون و لم يمض الا قليلا حتى انتشر خبر رحيل المرجع الأعلى الإمام الگلپايگاني من المذياع و التلفزيون فصاح الناس رجالا و نساء و صغيرا و كبيرا و أقبلوا الى المستشفى و كان هناك ما كان مما لا يمكن شرحه ثم في اليوم التالي أي يوم الجمعة فبدأ التشييع المهيب بعد الظهر من المستشفي الى ميدان بهمن في ملائين من النفوس المؤمنة يلطمون خدودهم و يضربون على صدورهم و رؤسهم و فيهم الشخصيات الدينية و السياسية و الاجتماعية و العلميّة كقائد الثورة الإسلامية آية اللّه الخامنئي دامت بركاته و لم يعهد بعد الإمام الخميني قدس سره مثل هذا التشييع العظيم فان

هذه الجنازة المطهرة كانت على رؤس الأمة الإسلامية و بحر النفوس الإنسانية تموّج به الى ان بلغ النعش الطاهر الى

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 434

ميدان بهمن بعد ان مضى ما يقرب من ست ساعات ثم بعد ذلك شيع النعش الطاهر بالسيارات إلى مدينة قم و في نفس الليلة قد باشر جمع من أهل العلم و غيرهم في بيته الشريف بتغسيل هذا الجسد المبارك و كان يقرء في خلاله المراثي و زيارة عاشورا و الأدعية و يذكر مصائب الزهراء و أهل بيت النبوة عليهم السلام و قد كفن في كفنه الذي أعدّه لنفسه من قبل أربعين سنة تقريبا و كان مكتوبا عليه جميع القرآن الكريم الذي كان يعشق به طول عمره و لا يزال كان يقرأه صباحا و مساءا.

ثم من الساعة التاسعة بدأ تشييع نعشه الطاهر من مسجد الإمام المجتبى (ع) و هو في مدخل بلدة قم و قد عجز البيان و القلم عن شرح هذه الصحنة العظيمة و كان تشييع الامام الگلپايگاني بقم مما لم يعهد مثله في تاريخ قم. و لما ان ورد النعش الشريف الصحن المبارك و أدخلوه في حرم كريمة أهل البيت و اطيف به لآخر الوداع صلّى على نعشه الطاهر المحقق الكبير فقيه العصر آية اللّه الشيخ لطف اللّه الصافي الگلپايگاني دام ظله العالي ثم أدخل في الحرم الشريف من جهة الرأس و دفن في جوار شيخه و أستاذه الذي كان يحبّه و يذكره طوال عمره، أجل دفن هناك جنبا بجنب و كان اللّه تعالى ادّخر هذا المكان الشريف لمن كان أحب تلاميذ آية اللّه الحائري عنده. الا فسلام اللّه عليه يوم ولد و يوم مات و

يوم يبعث حيا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 435

نماذج شعرية مما قيل في رثاء المرجع الراحل

«مأتم النفس» في رثاء مرجع الأمة الإسلامية السيد الگلپايگاني قدس سره

لمن المآتم في البلاد تقام هذا المسا و تنكّس الأعلام

و لم البلاد شبابها و كهولها مستعبرون كأنّهم أيتام

و لم القلوب و قد غدت ملتاعة فيها من الألم المحض ضرام

هو هل لغير أبي «جواد» راحلا من بعد أن فتكت به الآلام

فانظر تشاهد أعينا و كافة إنّ الدموع على الفقيد سجام

و أسمع أنين المؤمنين فرزءهم ما ليس توصف حاله الأقلام

يا عمق جرح المسلمين بفقدهم من للعقيدة مقول و حسام

رحل الفقيه الموسويّ عن الدّنا فانهار صرح للهدي و دعام

رحل الفقيه الموسويّ مكرّما فاستقبلته ملائك و كرام

و إذا بكت «إيران» فقد عظيمها فلقد بكاه الدين و الإسلام

صبرا «جواد» فما فقدنا مرجعا تعتاده الفقراء و الأيتام

صبرا «جواد» فما أبوك بميّت و متى احتوى القمر المنير ظلام

تاقت له حور الجنان و إنّه الآن في ربع الخلود ينام

أرّخت «أنّ (51) أبا (4) جواد (14) عنده (129) مع (110) آل (31) بيت (412) أبي (13) البتول (469) مقام (181)

1414 هجرى أبو أمل الربيعي سپاه 9 بدر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 436

أبيات شعرية في رثاء و تاريخ وفاة آية اللّه العظمى السيد الگلپايگاني قدس سره الشريف.

ركن الشّريعة يوم موتك قوضا و الفيض بعدك غاض و أظلم الفضا

حوزات أهل العلم كنت رئيسها و الأمّة الإسلام سيفا منتضى

و لقد ربحنا فيك أكبر مرجع و خسارة الفقدان لن تتعوّضا

جاورت في الدّارين مرقد فاطم و غدا شفيعك فاطم و المرتضى

إن غاب شخصك أرّخوه: (بلحده (49)

فالاسم (212) حيّ (18) يا (11) محمّد (92) الرّضا (1032))

المجموع 1414 ه-

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.